يعد الطيب منشد من المناضلين الذين رافقوا العديد من قادة الاتحاد، واولهم الشهيد عمر بن جلون، الذي يكشف لنا الطيب عنه جوانب خفية، انسانية وسياسية ونقابية. كما أنه يعود بنا الي تفاصيل أخرى تمس الحياة النقابية في بلادنا وكل مخاضاتها، باعتباره شاهدا من الرعيل الأول، ومناضلا ومعاصرا للمخاضات التي عرفتها الساحة الاجتماعية. هناك اشياء كثيرة أخرى، ومواقف عديدة تكشفها ذاكرة الطيب لأول مرة.. في التاريخ السياسي والنقابي، دائماً رمضان لديه نكهة خاصة في الأنشطة الثقافية والإشعاعية والتنظيمية وفي الترتيبات: سؤال عام، ما هي الأحداث التي علقت في ذهنك عندها ارتباط برمضان؟ أهم ذكرى في شهر رمضان مرتبطة في ذهني بالإرهاصات الأولى لتأسيس النقابة الوطنية للتعليم، حيث طرح آنذاك نقاش أساسي وعميق حول خلفيات وأسباب وأهداف التأسيس، كنا نجتمع بمقر الحزب بالرباط تقريباً يومياً بعد الإفطار، وقد كان يشرف ويدير الاجتماعات الشهيد عمر بنجلون. هذا النقاش الرمضاني أدى في تلك الفترة إلى إفراز توجهان واضحان: الأول يدافع عنه الأخ عمر رحمه الله بمعية مناضلين آخرين، حيث كانوا يدافعون عن مبدأ التأسيس (تأسيس نقابات قطاعية خارج الاتحاد المغربي للشغل) مع تأجيل النقاش حول الأهداف. التوجه الثاني، كان يتزعمه من كان يلقبهم عمر بمجموعة 1+3، فهذه المجموعة وإن لم تكن تشكل تياراً، كانت لها رؤية واضحة وحاسمة في هذا الاتجاه، مفادها أن التأسيس يجب أن يدخل في إطار خلق بديل نقابي جديد، خصوصا بعد انحراف القيادة النقابية وارتمائها في أحضان الإقطاع وتآمرها مع القوى المعادية للطبقة العاملة ولقوى التحرر ببلادنا آنذاك... أتذكر في هذه الأمسيات مجموعة من الإخوة الذين ساهموا بشكل فعال ومستمر في هذا النقاش، أذكر منهم على سبيل المثال، الأخ نوبير الأموي، والمرحوم عبد الرحمان حموش، الأخ عبد الجليل باحدو، الأخ العربي خروج، الأخ محمد الويري، المرحوم العبدلاوي، الأخ محمد شوقي (سيدي افني)... بالعودة إلى مجموعة 1+3، فهي كما قلت لم تكن تشكل تياراً ولا مجموعة داخل الحزب، بل إن حدة النقاشات ورغبة الجميع في بناء أفق أرحب للنقابة أفرز تقاطعات بين إخوة كانت لهم نفس المنطلقات ونفس القراءة للوضع ويحاولون قدر الإمكان رسم آفاق جديدة للنضال النقابي، خصوصا نضال نساء ورجال التعليم، والانعتاق من أيادي الجهاز البرصوي، مما قوى انسجام هذه المجموعة وابتدأت عملية التنسيق فيما بين أعضائها حزبياً ونقابياً. بالموازاة مع هذا النقاش الذي كان دائراً بالرباط حول خلفيات ومآل التأسيس كان إخوة آخرين ينظمون اجتماعات أخرى بالدار البيضاء، وهذه المجموعة كانت أكثر انسجاما من مجموعة الرباط، أذكر منهم المرحومان مصطفى القرشاوي والطاهر الوديعة، الأخ عبد الرحمان العزوزي، الأخ محمد بنعابد، الأخ الضمضومي والأخ العربي الجابري وغيرهم... ما هو أول لقاء لك مع الشهيد عمربنجلون؟ في البداية، لم يكن لي احتكاك مباشر بالأخ عمر، حيث كنت أحضر بعض اللقاءات التي كان يؤطرها في العديد من المناسبات، لكن ابتداء من سنة 1964 وكان سني آنذاك 22 سنة، ابتدأت اللقاءات المباشرة به والمرتبطة أساسا بالوضع النقابي وانحراف قيادة الاتحاد المغربي للشغل وكيفية تخليص الطبقة العاملة من بين أيادي النقابية الخبزية والانتفاعية... بدايتك النضالية هل كانت في العمل السياسي أم النقابي؟ البداية كانت في النضال السياسي حيث كنت أتعاطف مع الجناح التقدمي لحزب الاستقلال، بزعامة الشهيد المهدي بنبركة، دون أن أنخرط به تنظيميا، لكن ابتداء مع تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية انخرطت في صفوفه وإن لم يكن الدافع المباشر إيديولوجيا باعتبار أن الاتحاد آنذاك كان له توجه إيديولوجي عائم، ولم يكن كذلك بناء على قناعة سياسية باعتبار حداثة سني وعدم اكتمال نضجي السياسي، ولكن كان نتيجة رد فعل عاطفي نتيجة لمساري الشخصي حيث الوسط الذي عشت فيه كان يتميز بالفقر المدقع، ونتيجة كذلك للظلم الذي تعرضت له في صباي وعشته بمرارة في الوسط وشاهدته في المجتمع، فالشعارات الاتحادية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات ومحاربة الفقر والأمية والظلم ودمقرطة الدولة والمجتمع... كان لها التأثير القوي في انتمائي للاتحاد، وإن كنت كالكثير من مناضلي الاتحاد في تلك المرحلة ناصريا أكثر منه شيئاً آخر مع وجود طبعا داخل الحزب بعض البعثيين والماركسيين وفقهاء متنورين من أمثال شيخ الإسلام مولاي بالعربي العلوي، الحاج عمر الساحلي، الحبيب الفرقاني رحمهم الله وغيرهم.. نفوري من حزب الاستقلال الذي كان آنذاك حزبا قويا وجماهيريا جاء نتيجة لسلوكات وطرق التأطير التي كان يتبعها مع المواطنين خصوصا البسطاء منهم، فالتساؤلات التي أثيرت بداخلي حول رؤية المغفور له محمد الخامس بالقمر ممتطيا صهوة جواده حيث بحثت عنه كغيري بالقمر ولم أجده، كان سني آنذاك 13 سنة. ثم هناك حكاية أخرى وقعت لي في 1955 بمدينة فاس الجديد حيث فتح حزب الاستقلال مقرا له وسط الملاح، وأعطى لنفسه الحق في أن يتصرف كسلطة عمومية وقضائية وأمنية، حيث كنا نتشاجر كأطفال (أولاد الحومة) مع أطفال الملاح من ذوي الديانة اليهودية، وذات يوم وأنا داخل إلى وسط الملاح، ألقى علي القبض بعض عناصر فرع حزب الاستقلال، وأدخلوني إلى مقر الحزب بنفس الحي، ووجهوا لي تهمة الاعتداء على سيدة يهودية وكانت موجودة كذلك بداخل المقر، ورغم نفيي لتلك التهمة، لأني كنت متواجداً بالمدرسة وقت الاعتداء، فقد تم جلدي (الفلقة) من طرف هؤلاء الأعضاء. ولم أنتمي كذلك لأي حزب آخر رغم أنني درست بالتعليم الابتدائي بمدرسة حرة مديرها هو أحد أقطاب حزب الشورى والاستقلال المرحوم المهدي الودغيري رحمه الله، وكانت هذه المدرسة منبتا يتخرج منها العديد من أعضاء هذا الحزب، خصوصا النساء منهم، حيث كانت جمعية »أخوان الصفاء« نشيطة جداً في تأطير تلميذات المدرسة... وهنا أستحضر حدثا لازال عالقا بذهني، بحيث كان المرحوم الودغيري بالإضافة إلى مهمته كمدير للمدرسة يزاول مهمة التدريس، في يوم من الأيام، كنا بالقسم ولم يحضر (المدير الأستاذ) فبدأنا في تلاوة نشيد جمعية »أخوان الصفاء« بطريقة هزلية ننكت بها على زميلاتنا التلميذات اللواتي كن بالإجماع منخرطات بهذه الجمعية، وكنت »قائد الحلقة« أمام باب القسم، وانخرط جميع التلاميذ في العملية الاستهزائية، وبرهة صمت الجميع ولم أنتبه إلى هذا الصمت الفجائي، حيث استمريت في النشيد بطريقة »التقشاب« وفجأة شعرت بالصمت من طرف الجميع، فالتفت إلى باب القسم لأتلقى صفعة قوية من طرف سي المهدي الودغيري رحمه الله، الذي قدم على إثر هذا الحدث درسا في التربية الوطنية، وخصوصا في حرية الانتماء والتعددية السياسية واحترام الآخر في الحقيقة، عشت لفترة طويلة أتذكر تلك الصفعة القوية وأتذكر أكثر ذلك الدرس القيم. فيما بعد التقيت في مطلع الستينات بالرباط بالمرحوم الودغيري الذي سألني خلال نقاش طويل معه عن أهم حدث لازلت أتذكره خلال الفترة التي قضيتها بمدرسته فأخبرته بأن أهم حدث هو تلك الصفعة المؤلمة وذاك الدرس البليغ. في تلك اللحظة، كان المهدي بنبركة وحضوره القوي في الساحة السياسية، هل جمعتك لحظات معه؟ في الحقيقة، حضرت لقاءات عامة بالرباطوالبيضاء كانت من تأطير الشهيد المهدي بنبركة، وذلك في بداية الستينات، وبالتالي لم تكن لي لقاءات مباشرة أو خاصة معه، فلم يكن لي احتكاك به مثل السي عبد الرحيم وعمر واليازغي واليوسفي، في تلك الفترة سمعت عنه الكثير من المناضلين الذين جالسوه ومن خلالهم تعرفت على شخصية الشهيد وعلى الكثير من جوانب فكره ونضاله... بعد انطلاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أين كنت في الرباط أم البيضاء؟ كنت بالدار البيضاء. ماذا تتذكرعن لحظة التأسيس بسينما الكواكب؟ في الحقيقة، وبعد مرور 50 سنة على تلك الفترة لازلت أطرح السؤال التالي: هل كان من الضروري الانشقاق على حزب الاستقلال؟ أكيد أنه كانت هناك العديد من المبررات الموضوعية التي حركت هذه العملية وعلى رأسها توجهات القيادة المحافظة والتقليدية. لكن هذا الانشقاق ألم يخدم في العمق خصوم الديمقراطية ببلادنا؟ ألم يكن هدية ثمينة منحت للنظام آنذاك؟ في رأيي، كان من اللازم معالجة الأمور بطريقة مغايرة وعدم إضاعة الوقت والجهد في صراعات كان المناضلون في غنى عنها، خصوصا وأن استقلال المغرب أفرز إلى جانب النظام وامتداداته، قوتان أساسيتان هما حزب الاستقلال والنقابة التي كانت تشكل قوة جماهيرية كبيرة. لذلك لما وقع فك هذه التحالفات، تم الإخلال بموازين القوى بشكل كبير لصالح المخزن والفئات المتحلقة حوله. تأمل في مسار الانشقاقات دخل الاتحاد كيف أدى ذلك إلى إضعاف الحزب دون أن تستفيد التنظيمات التي خرجت من رحمه... لذلك لو تمت المحافظة على حزب الاستقلال وعلى وحدته مع إصلاح وضعه ومحاربة التوجهات المحافظة بداخله، لربما كان وجه المغرب مختلفاً اليوم... في تلك الفترة، ألم يكن الوعي حاضراً والتحكم في الخلافات التي وقعت؟ أؤكد لكم أن الجناح التقدمي داخل حزب الاستقلال كان قويا ومتحمساً، أكيد أن بعضاً من قادة هذا الجناح كان لها تحفظ على الانشقاق، لكن الاتجاه العام كان هو الانسلاخ على الجناح المحافظ وتأسيس حزب تقدمي كبير... كيف عشت فترة 1959 إلى حدود 1963 و 1964؟ بداية الصراع بين الحركة الوطنية والنظام؟ ماذا تتذكر؟ حقيقة عندما نعود إلى هذه المرحلة، نجد عنوانها البارز هو العلاقة القوية التي كانت تربط الاتحاد بين بعضهم البعض، كانت علاقة انصهار كأنها ذات واحدة، فعامل مواجهة الآخر، أي المواجهة مع النظام بكل امتداداته وأجهزته، جعل المناضلين يتآزرون ويتآخون ويعتبرون أنفسهم في سفينة واحدة مع ضرورة الحفاظ على كل من يركبها، وإذا تغيب أحدنا كان الكل يتساءل عنه، تعلمنا في هذه المرحلة الشيء الكثير... حتى من الناحية المعيشية، كانت حياة الناس بسيطة ولم تكن هناك تعقيدات كبيرة، مما جعل الناس يتقربون فيما بينهم. أتذكر ولغاية نهاية السبعينات، لم نكن نحتفل مع أولادنا بعيد الأضحى، كنا نلتقي بالمعتقلين وبعائلاتهم، كان دخل المعلم مثلا لا يتجاوز 550 درهماً، ورغم ذلك كانت مجموعة منهم تمول عائلات المعتقلين، فكل ثلاثة أو أربعة أفراد مكلفة بعائلة معتقل... كل واحد كان يعرف جيداً ما كان يجب أن يقوم به، إنها علاقات كانت مطبوعة بحرارة خاصة إلى درجة أنك تحس بقربك من المناضلين ومن الحزب ربما أكثر من شخص من صلبك، هذه هي العلاقة داخل الحزب آنذاك في مرحلة مطبوعة بالاعتقالات والاختطافات... كنت تبحث صباحاً عن الأخ الذي ودعته بالأمس، هل وصل فعلا إلى منزله أم لا؟ فالاتحاد كان عبارة عن خلية نحل، الكل كان يشتغل من أجل تقوية الحزب تنظيمياً وتقوية مشروعه، فمواجهة الآخرين (الدولة وأجهزتها، الانحراف النقابي، القيادة الرجعية لحزب الاستقلال...) كل اتحادي كان يعتبر أن له مسؤولية في مواجهة هذه الأطراف، لذلك كان التنظيم يشمل كل القطاعات، والأحياء الطلبة والتلاميذ... الحزب كان بؤرة لتحرك مختلف الفئات... خلال هذه الفترة، المسؤوليات العمومية (جماعات، برلمان، حكومة، مجالس استشارية...) كانت بعيدة عن ثقافة الاتحاديين، مما أدى إلى المزيد من تماسك الجسم الاتحادي. كيف عشت في تلك الفترة مع الشهيد عمر؟ عمر رحمه الله من الصعب أن تصنفه وتضعه في خانة معينة، فهو مثلا، كما كان يقول على نفسه: »أنا ماركسي وأنا كذلك عمر بن الخطاب« كان من طينة القادة الذين ينظرون ويمارسون، ويمارسون بعد التنظير، كان صلباً إلى حد التطرف فيما يتعلق بقضايا الوطن والمواطنين، قضايا الفقراء، العدالة الاجتماعية، الشطط في استعمال السلطة، التفرد في اتخاذ القرارات من طرف النظام... في المقابل، كان بسيطاً في علاقته مع المناضلين والمناضلات، كانت له قدرة هائلة على الارتباط ومؤازرة المناضلين خصوصاً في فترات الاعتقال أو المرض أو الخصاص... كان جريئاً في أفكاره ومجتهداً في تحليلاته، كما كانت له خاصية أخرى، عمر يمكن أن يتحول إلى طفل، إذا ما حصل ما يدخل البهجة إلى قلبه.