فلما قدم النعمان إلى الحيرة، وفي نفسه ما فيها لما سمع من كسرى من تنقيص للعرب وتهجين لأمرهم. فبعث النعمان إلى اكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين وإلى الحارث بن ظالم وقيس بن مسعود البكريين وإلى خالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين وإلى عمرو بن الشريد السلمي، وعمر بن معد يكرب الزبيدي والحارث بن ضالم المري ولما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: - قد عرفتم هذه العواجم وقرب جوار العرب منهم. إنني سمعت من كسرى مقالات تخوفت أن يكون لها غور، أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولا كبعض طماطمته في تأديتهم الخراج إليه كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله فأقتص عليهم مقالات كسرى، وما رد به عليه فقالوا: - أيها الملك وفقك الله ما أحسن مارددت وأبلغ ماحججته فمرنا بأمرك وأدعنا إلى ماشئت. قال لهم: - إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم، وليس شيء أحب إلي مما سدد الله به من أمركم وأصلح به شأنكم وأدام به عزكم والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا إلى كسرى فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره ليعلم أن العرب على غير ماظن أو حدثته نفسه، ولا ينطلق رجل منكم بما يغضبه، فإنه ملك عظيم السلطان كثير الأعوان مترف معجب بنفسه، ولا تنخذلوا له انخذال الخاضع الذليل، وليكن أمر تظهر به دماثة حلومكم، وفضل منزلتكم، وعظيم أخطاركم، وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي، ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها، فإنما دعاني إلى التقدم إليكم بهذا علمي بأن كل رجل منكم يسعى إلى التقدم قبل صاحبه، فلا يكونن ذلك منكم، فيجد في آدابكم مطعنا، فإنه ملك مترف وقادر مسلط. ثم دعا لهم بما في خزانته من طرائف حلل الملوك، وأعطى كل رجل منهم حلة، وعممه بعمام، وختمه بياقوتة، وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهريهة وفرس نجيبة وكتب معهم كتابا قال فيه: - أما بعد، فإن الملك ألقى إلىّ من أمر العرب ماقد علمه وأجبته بما قد فهم مما أحببت أن يكون منه على علم، ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها، وحمت ما يليها بفضل قوتها تبلغها من الأمور التي يتعزز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة. وقد أوفدت أيها الملك وفد من العرب لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم، فليسمع الملك ولايغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم، وليكرمني بأكرامهم وتعجيل يراحهم، وقد نسبتهم أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم. فخرج القوم في أهبتهم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلس يسمع منهم. فلما كان بعد ذلك بأيام أمر مرازبته ووجوه أهل مملكته، فحضروا وجلسوا على كراسي عن يمينه وشماله، ثم دعا بهم على الولاء والمراتب اللتي وصفهم بها النعمان في كتابه وأقام الترجمان ليؤدي اليه كلامهم.