بقلم: الدكتور التهامي الراجي الهاشمي لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (تابع) كنت في الحلقة السابقة أحلل ما قرأ به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ ووصلت في دراستي للحروف التي تميز بأدائها، إلى سورة الأعراف. واليوم، بعونه وتوفيق منه سبحانه وتعالى، أتابع البحث في الموضوع، فأقول: قرأ، رضي الله عنه، الآية الأولى من سورة الأنفال وهي: «يسألونك عن الأنفال قل الأنفالُ للّهِ والرسول فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين»، قرأها هكذا: «يسألنونك الانفال»!! أعتقد أن أحسن تحليل لقراءة عبد الله بن مسعود هذه نجده في: «المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها»، قال فيه ابن جني، رحمه الله: «هذه القراءة بالنصب مؤدية عن السبب للقراءة الأخرى التي هي: «عن الأنفال»، وذلك أنهم إنما سألوه عنها تعرضا لطلبها واستعلاما لحالها: هل يسوغ طلبها؟ هذه القراءة بالنصب تصريح بالتماس الأنفال وبيان عن الغرض في السؤال عنها قلت: هل يحسن أن تحملها على حذف حرف الجر حتى كأنه قال: «يسألونك عن الأنفال». فلما حذف «عنْ» نصب المفعول، كقول الشاعر عمرو بن معد يكرب: أمرتُكَ الخيْرَ فافعلْ ما أمرْتَ بِهِ فقد ترَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نشبِ (النشب: المال الثابت أراد بالمال هنا الإبل خاصة) فإن قيل: هذا شاذ، إنما يحمله الشعر فأما القرآن فيُختار له أفصح اللغات وإن كان قد جاء في الآية 155 من سورة الأعراف: «واخْتارَ موسى قومه سبعينَ رجلاً» وفي الآية 5 من سورة التوبة: «واقْعُدُوا لهُمْ كلَّ مرْصدٍ». يمكن أن يكون معنى «الأنفال» في هذه الآية: ما يعطيه الإمام لمن أراد من سيف أو فرس أو نحوه، هذا المعنى هو الذي ذهب إليه ابن عباس. أما علي بن صالح وابن جني والحسن فيرون أن معنى «الأنفال» في هذه الآية: الخمس. وقال عطاء: «الأنفال» في الآية ما شذ من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس الغائر والعبد الآبق، وهو للنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيه ما يشاء. وقال بعضهم: «الأنفالُ: ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة. يقول أبو حيان الغرناطي في تفسيره «البحر المحيط» الجزء أربعة، صفحة 453 عن هذه المعاني التي أعطيت للفظ الأنفال : «هذه الأقوال الأربعة مخالفة لما تضافرت عليه أسباب النزول المروية، والجيد هو القول الأول وهو الذي تظاهرت الرواية به. وقال الشعبي «الأنفال»: الأسرى؛ وهذا إنما هو منه على جهة المثال. أما الحرف الذي قبل قوله تعالى : «يسألونك» فليس عائدا على مذكور قبله إنما يفسر وقعة بدر؛ فهو عائد على من حضرها من الصحابة وكان السائل معلوما معينا ذلك اليوم فعاد الضمير عليه، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. وقد اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة كل من سعد بن أبي وقاص وعلي بن الحسين وولديْهِ زيد ومحمد الباقر وولده جعفر الصادق وعكرمة وعطاء والضحاك وطلحة بن مصرف. وقيل «عنْ» بمعنى «منْ» أي: «يسألونكَ من الأنفال» ولا ضرورة تدعو إلى تضمين الحرف معنى الحرف. تجدر الإشارة إلى أن ابن محيصن وهو القارىء الحادي عشر قرأ: «علّنْفال» نقل حركة الهمز إلى لام التعريف وحذف الهمزة واعتد بالحركة المعارضة فأدغم نحو : «وقد تبيّن» (العنكبوت: 38). وقرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في الآية 28 من سورة التوبة وهي: «يا أيها الّذين ءامنوا إنّما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعدعامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إنّ الله عليمٌ حكيمٌ «نعم، لقد قرأ فيها: «وإن خفتم عائلةً» هذا من المصادر التي جاءت على فاعلة كالعاقبة والعافية مثل قولهم كما قال الخليل: « ما بالَيْتُ بالة» أنها في الأصل «بالية» كالعاقبة والعافية، فحذفت لامها تخفيفاً، ومنه قوله تعالى في الآية 11 من سورة الغاشية: «لا تسمع فيها لاغية» أيْ: لغواً. ومنه قوله: مررت به خاصة أيْ «خصوصا» وأما قوله في الآية 13 من سورة المائدة: «ولا تزالُ تطلعُ على خائنةٍ منهم» فيجوز فيه أن يكون مصدراً أي خيانة منهم ويجوز أن يكون على أن معناه «على نية خائنة» أو «عقيدة خائنة» كما يجوز أن يكون أيضاً : «لا تسمعُ فيها كلمة لاغية»، فالمصدر هنا أعذب وأحلى. كما قرأ، رضي الله عنه، في الآية 38 من سورة التوبة وهي: «إنّما النّسيءُ زيادةٌ في الكُفْر يضلُّ به الذين كفروا يُحلّونهُ عاماً ويحرّمونهُ عاماً «يضلّ به» بضم الياء وفتح الضاد؛ وفيه تأويلان؛ إن شئنا كان الفاعل اسم الله تعالى مضمراً؛ أيْ: يضل الله الذي كفروا وإن شئنا كان تقديره يُضل به الذين كفروا أولياءهم وأتباعهم. اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة كل من مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي وأبو رجاء عمران بن تيم العطار دي البصري لكن بخلف عنه وقتادة بن دعامة الخطاب السدوسي وأبو عبد الله عمرو بن ميمون الأودي الكوفي. لكن الشيء المهم جداً والذي يجب التأكيد عليه أن هذه القراءة هي قراءة متواترة يتعبد بها؛ وفعلاً قرأ بها من السبعة حفص وحمزة والكسائي وقرأ بها من الثلاثة المتممة للعشرة خلف بن هشام البزار. ويقرأها : «يضلَّ» من السبعة نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري وابن عامر الشامي وشعبة. ويقرأها : «يضلّ» بضم الياء وكسر الضاد من الثلاثة المتممة للعشرة يعقوب بن إسحاق الحضرمي. في هذا الحرف قراءات أخرى يحسن الإشارة إليها لاسيما وأن ذكرها يعزز ذلك الضابط الذي يحلو لي ترديده على مسامع طلبتي، وهو : «الآية القرآنية متعددة المعاني على الدوام». لأبي رجاء الذي اندرج، كما رأينا، مع عبد الله بن مسعود في قراءته لقوله : «يُضَلُّ به» قراءة أخرى لهذا الحرف وهي: «يضلُّ به الذين كفروا» بفتح الياء والضاد وهي لغة استعملتها بعض قبائل العرب؛ تقول : «ضَلِلْتُ أضلّ» ومعلوم أن اللغة الفصحى: «ضللْتُ أضلَّ». وقرأ رضي الله عنه في الآية 112 من سورة التوبة: «التّائبينَ العابدين» والآية بقراءة الجماعة هي: «التّائبون العابدون الحامدون السّائحونَ الرّاكعون السّاجدُون الآمرون بالمعروف والنّاهونَ عن المُنكر والحافظون لحدود الله وبشّر المؤمنينَ» شاركه في هذه القراءة كعب بن أبي وهي ترْوى أيضاً عن الأعمش. أما رفع: «التّائبون العابدون» فعلى قطع واستئناف،أيْ: هم: «التّائبون العابدون». وأما: «التّائبينَ العابدين» فيحتمل أن يكون جراً وأن يكون نصباً. أما الجر فعلى أن يكون وصفاً للمؤمنين في قوله تعالى في الآية 111 من سورة التوبة: «إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم «التّائبين العابدين». وأما النصب فعلى إضمار فعل لمعنى المدح، كأنه قال: «أعني أو أمدح» التّائبين العابدين» كما أننا مع الرفع نضمر الرافع لمعنى المدح. وقرأ رضي الله عنه في الآية 16 من سورة هود التي هي: «أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون «قرأ» وباطلا ما كانوا يعملون، شاركه في هذه القراءة عبد الله بن أبي. يحلل هذه القراءة ويخرجها اللغوي الكبير أبو الفتح بن جني فيقول: (باطلاً) منصوب ب (يعملون)، وأما (ما) فزائدة للتوكيد. فكأنه قال: «وباطلا كانوا يعملون». ومن بعد ففي هذه القراءة دلالة على جواز تقديم خبر كان عليها، كقولك «قائما كان زيدٌ»، و «واقفا كان جعفر» ووجه الدلالة من ذلك أنه إنما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل. و«باطلا» منصوب ب «يعملون» والموضع إذا ل «يعملون» لوقوع معموله متقدما عليه؛ فكأنه قال: «ويعملون باطلا كانوا». ومثله قوله تعالى في الآية 40 من سورة سبأ: «أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون». استدل أبو علي الفارسي بذلك على جواز تقديم خبر كان عليها، لأن (إيّاكم) معمول (يعبدون)، وهو خبر (كان)، وإنما يجوز وقوع المعمول فيه بحيث يجوز وقوع العامل على ما قدمناه» (المحتسب الجزء الأول، صفحة 321) وقرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في الآية 111 من سورة هود وهي: «وإن كلاّ لمّا ليوفِّينهم ربّك أعمالهم إنّه بما يعملون خبيرٌ»؛ قرأ: «إن كلّ إلاّ ليوفّينهم ربّك»؛ معنى هذه القراءة، أيْ قراءة عبد الله بن مسعود «ما كلّ إلاّ والله ليوفّينّهمْ»، كقولك : «ما زيد إلاّ لأضربنّهُ» أي: ما زيد إلا مستحق لأن يقال فيه هذا. ويجوز فيه وجه ثان، وهو أن تكون (إنْ) مخففة من الثقيلة وتجعل (إلاّ) زائدة. وقرأ رضي الله عنه في الآية 51 من سورة يوسف التي هي: «قال ما خطبُكُنّ إذ راودتّنَّ يوسف عن نفسه قُلْنَ حاش لله ما علمنا عليهِ منْ سوءٍ..» قرأ فيها : «حاشا الله» اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة أبيّ بن كعب. وقرأها الحسن البصري بقراءتين؛ الأولى: «حاش الإله» والثانية: «حاش لله». أما: «حاشا الله» فعلى أصل اللفظة، وهي حرف جر. وأما: «حاش الإله» فمحذوف من حاشا تخفيفا وبهذا قال المفسران ابن عطية وأبو حيان الغرناطي. وأما: «حاشْ لله» بسكون الشين فضعيف من موضعين: أحدهما: التقاء الساكنين الألف والشين، وليست الشين مدغمة. والآخر: إسكان الشين بعد حذف الألف ولا موجب لذلك.