بداية يتعين الإقرار بأن التمرين على الديمقراطية يتطلب صدرا رحبا لتقبل الهفوات والانطلاق من الأخطاء لتجنب تكرارها. وما وصلت إليه الدول المتقدمة في هذا الميدان تطلب منها عقودا من الممارسات لترسيخ الاعتقاد بأن لا بديل عن الحرية والتعددية وقبول الآخر. وقد ساهم المفكرون الأحرار والمثقفون الشرفاء ورجالات السياسة والإبداع في بلورة المضامين المتقدمة للاختيار الديمقراطي الذي يشكل علامة العصر، كما الاختراعات والعلوم والفضاء الفسيح للتكنولوجيا التي قربت بين العوالم والأفكار. في خضم هذه التطورات اضطلعت الصحافة دائما بدور تنويري، جعل من سلطتها المعنوية والانتقادية قوة اقترلاحية لا تفتر في إنارة الطريق وتسليط الأضواء على الممارسات الخارجة عن القانون. وتأتى لها حين تتسم بالنزاهة والمصداقية أن تشكل إلى جانب سلطة القضاء رادعا حقيقيا في مواجهة أي انحراف. فقد أصبح الإعلام والقضاء من سمات المجتمع المتحرر، ولا يمكن لأي دولة أن تدخل معترك التقدم إن لم تتسلح بالقضاء المستقل العادل والاعلام الموضوعي النزيه. منذ سنوات، طرحت المسألة الإعلامية في المغرب كرديف لإشكاليات يتعين تجاوزها للانطلاق نحو فضاء أرحب من التقاليد والممارسات الديمقراطية. ومع غاية الأسف، فإن هذه المسألة لم تحظ بالنقاش الكافي وتركت للإجراءات القانونية والإدارية، علما أنها كظاهرة جديدة تتطلب الدراسة واستخلاص النتائج، من منطق أن أية ظاهرة يجب وضعها في إطارها وسياقها من دون عسف أو تبخيس. لقد آلت المعركة الحامية الوطيس التي خاضتها الاحزاب والقوى الوطنية والمهنيون من أجل حرية الصحافة ورفع الرقابة وحماية الرأي واحترام التعددية الى واقع جديد ليس مكتملا كل الاكتمال وليس ناقصا كل النقص. و كان واضحا أن تلك المعركة لم تكن موجهة لصالح هذا الحزب أؤ ذاك أو لهذا التيار أو ذاك، وإنما جعلت من صيانة الحرية المكفولة للجميع هدفا مبدئيا وغاية واستراتيجية. وفيما كان الجميع يأمل في تعزيز هذه المكاسب أكثر لتصبح الصحافة عنصرا مؤثرا وإيجابيا في بلورة المشارب الفكرية والآراء التي كانت تحجبها الظلال القاتمة، هوت بعض الممارسات التي ينقصها النضج والعقلانية نحو منحدر سحيق بات يهدد البلاد برمتها بالعودة الى الوراء. و إلا كيف يمكن استساغة أن بعض القضايا والموضوعات الحساسة أصبحت بمثابة أصول تجارية تعتمد على المزايدة وإذكاء نزعات الفتن وتشويه سمعة البلاد من خلال إمعان بعض الصحف في تناولها بغير منظور الموضوعية والنزاهة والمهنية. لقد تعرض الاتحاد الاشتراكي وغيره من الأحزاب الوطنية الى حملات شنعاء قادتها بعض الصحف في فترات اختيرت بعناية لضرب مقومات وأسس الحياة السياسية في البلاد. فهل من الديمقراطية والحرية أن تتعرض الأدوار التاريخية والحالية للأحزاب الوطنية الى التبخيس. وكي لا نحصر النقاش في استهداف الأحزاب التي تعتبر ركائز العمل الديمقراطي، نشير الى أنه ما من مؤسسة مغربية سلمت من هذه الحملات وفي مقدمتها المؤسسة الملكية والقوات المسلحة والبرلمان وكل القيم التي ضحى الشعب المغربي من أجلها. لا صدفة في هذا التركيز، ولا مبرر يمكن أن يقنع المراقب المحايد أن هذه الصحافة إنما تقوم بدورها. فهل محاولات الهدم كانت في أي وقت من صلاحيات الصحافة أم أن عمى التجارة ودغدغة عواطف القراء أصبحت تعلو على ما غيرها من قيم. لا نريد التوقف عند حالة بعينها. فقد أبانت التجارب أنه كلما انتهينا من قضية إلا وطرحت أخرى. والهدف واحد، محاولة النيل من مكاسب الديمقراطية التي تحققت عبر التوافق التاريخي من مكونات الأمة المغربية. وكلما كانت البلاد على موعد مع استحقاقات هامة إلا وبرزت هذه الممارسات لتعيق الاستمرار في سياسة الإصلاحات الكبرى. الهدف واضح ترقبه العين المجردة. لكنا الأمل في أن تنتصر الحكمة والتعقل، فخلف بعض وسائل الإعلام لوبيات ومخاطر، ونحمد الله أنه كان الخلف الصحافة الوطنية وعي وطني يتجدد باستمرار.