منذ طفولتي، ترسّخ في لاشعوري أن للكتابة سحرا خاصّا ومفعولا خطيرا... وأنها ليست عملا عاديا، وأنها ممارسة يلفّها الكثير من اللغز والغموض، وتقتضي مجموعة من الطقوس والشعائر، إن لم تكن هي نفسها طقسا غريبا ومجهولة تفاصيله ... صغارا، كان الآباء يحرصون على أن لا ندخل الجامع لكتابة القرآن على اللوح وحفظه إلا بعد طهارة ووضوء ..القراءة أو الكتابة من الممارسات المقدسة التي تستلزم طهارة الجسد من الأوساخ وصفاء الروح من كل سوء أو شرّ... صغارا كنّا نسمع الآباء أو الأمهات يتحدثون عن فلان الفقيه الذي يكتب كتابة جيدة، كتابة تطرد الأمراض والشرور من أجساد الصغار وأرواحهم. وكنّا نسمع الشباب يتحدثون عن الفقيه فلان الذي استطاع بكتاباته أن يستميل لأحد الشباب قلب حسناء استعصى عليه بالوسائل الطبيعية. في بلدتي، الشرفاء من الناس وحدهم يكتبون. هم من أبناء الزاوية. لا يختلطون كثيرا بالناس. سيرتهم نظيفة في أعين الناس. ثيابهم نظيفة دائما. متدينون لا يفارقون الجامع أو الزاوية إلا قليلا. صغارا كنّا نحاول أن نعرف ما معنى أن يكتب الفقيه. ما معنى الكتابة؟ ما معنى هذه الممارسة السرية التي لا يمارسها إلا بعض الناس؟ هناك هذا الفقيه الذي يأتي في أزهى ثيابه، يتوضأ فيصلي ركعتين، ثم يبدأ في كتابة تميمة الشفاء من المرض، متمتما ببعض الكلمات المبهمة، حريصا على أن لا نقرأ ما يكتبه، يطوي التميمة، ويطلب أن يعلقها المريض في عنقه لأيام، قبل أن تحرق في مجمر من البخور يحددها هو نفسه. وهناك هذا الفقيه الذي يختلي داخل غرفته بالمسجد بعد أن يتوضأ، ويغلق عليه الباب، ويخرج بتميمة العشق، ويوصي بعدم قراءتها، وصيام ثلاثة أيام عن الطعام والكلام، قبل وضع التميمة على باب البيت الذي تسكنه الحسناء المتمنعة. دخلنا إلى المدرسة، واكتشفنا أن الكتابة آلة يمكن أن يتعلمها كل من يرغب في ذلك، يمارسها المعلم أمام الملأ من دون طقوس ولا شعائر ولا ألغاز. واكتشفنا أن هناك أناسا آخرين يكتبون نصوصا ليقرأها الناس وينتفعون بها، أو يستمتعون بقراءتها. كتّاب عكس الفقهاء كتّاب التمائم، كتّاب يكتبون ويقرأ الناس ما يكتبون. وسنة بعد سنة، بدأنا نتخذ مسافة من شعودات الفقهاء وألاعيبهم وخرافاتهم وكتاباتهم التي من دون معنى. لما غادرت قريتي لاستكمال الدراسة الإعدادية والثانوية بالمدينة، اكتشفت الأدب، وفتنت بقراءته، وازداد تعلقي به بعد أن اكتشفت أن الكتابة سلاح خطير يمكن أن يغير الإنسان والمجتمع والتاريخ. وترسخ هذا الوعي بعد انتقالي إلى الجامعة واطلاعي على النظريات الواقعية والاجتماعية في الأدب، في سياق تاريخي كان فيه النضال والالتزام بقضايا الناس، وكانت فيه الكتابة الأدبية ذات أثر خاص على النفوس والعقول. ومع ذلك، وحتى في الجامعة، كنت أنظر إلى الكتّاب من أساتذتنا نظرة خاصة. لا يمكن أن تتصور ماذا يعني لي أن يدرسني الكاتب فلان أو فلان؟ ظل الكاتب في عيوني كائنا آخر مختلفا عن الآخرين. بعض أساتذتي من الكتّاب لا يفهمون لماذا أكون شديد الخجل أمامهم، عاجزا عن إيجاد الكلمات الملائمة، مرتبكا متلعثما، كأنني في حضرة كائن مقدس...بالطبع، مع الأيام استطعت التغلب إلى حدّ ما على هذه الحالة، لكن يبقى الكاتب الحقيقي في لاشعوري كائنا بمواصفات فوق طبيعية! وفي كل الأحوال، الكتابة في نظري ليست عملا بسيطا، وليست صنعة تكتسب وتتعلم فقط، وليست بالوضوح الذي نتصوره. هناك أشياء سرية غامضة تلفّ ممارسة الكتابة لا نستطيع إدراكها. وشيء في دواخلي كان يحثّني على ممارسة البحث والتعمّق في فهم هذا اللغز الذي نسميه الكتابة. وتخصصي في التحليل النفسي للأدب لم يكن ربما بعيدا عن هذه الخلفية اللاشعورية.