هذا الكتاب لقاءٌ، أو بالأحرى ثمرة لقاء. فأما أحدنا، فمولود في الإسكندرية، ويعيش في باريس، وأما الآخر، فمولود في الجديدة، على الساحل الأطلسي، ويعيش في المغرب. كان التقاؤنا من حول كتبنا ومن حول كتاباتنا. ثم لم نسلم من إغراء مواصلة هذه الاندفاعة [نحو بعضنا البعض]. لكننا حرصنا، على امتداد هذه السنوات الأربع، ألا نفرط في شيء من جوهر أدبيات الالتقاء. لقد كانت أحداث من قبيل ندوة الرباط عن الازدواجية اللغوية، أو أحداث أخرى، على صعيد آخر مختلف، من قبيل حرب لبنان، هي التي يفترض أنها تمنح هذه الرسائل قوتَها القاطعة. وعليه، فقد لزمنا، كما لو من غير إدراك منا، أن نعتصم بما بدا لنا شيئاً أساسياً؛ ألا وهي اللغة، والتاريخ، والعلاقات الملتبسة القائمة بين ما هو أغلبي وما هو أقلي، وبين ما هو أهلي وما يسمى دخيلاً، وفي الأخير عودة الديني والأصولي، اللذين صار يتعين على اليهود والمسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط أن يواجهوهما في الوقت الراهن، كلاً على طريقته. لقد كنا مشغوليْن بقضية لا نرانا وفَّيناها حق قدرها، ما جعلنا نطرق هذه المشكلات في عجالة، وفي تصميم على أن نقول، في زمن تعمدنا تحديده [وعدم الخروج عنه]، ما كان يهمنا [دون سواه]. وكانت النتيجة : كتاباً مشتركاً يؤكد اختلافاتنا والتقاءاتنا من حول تاريخ قديم، ضارب في القدم. ترانا وفينا بهذا الوعد؟ إن حكمه يعود إلى القارئ، ويقع عليه، كذلك، أن يدفع بالنقاش من حيث يرى، بدوره، أنه ينخرط في هذا الضرب من التراسل. ولنكرر القول إنه تراسل كان قد انطبع بمشروع محتمل للنشر، وبسر بيِّن مكشوف. الهرهورة، 8 يوليوز 1984 عزيزي حسون لقد تقاطعت رسائلنا. أليس قد كان ولا تزال مقدراً لها أن تتقاطع على الدوام؟ إن ما تدعوه «بهلواناً» أدعوه «ساعي بريد»؛ فهو يوزع وينشر الرسائل، تاركاً فيها بياضات. ويجدر بنا، بحق، أن نكتب في أثر ذلك البياض، المصاب ههنا (في النقاش اليهودي العربي) بما يشبه القدر الذي لا يُستطاع دفعه . وإنني لعلى اقتناع أننا لا يمكننا أن نكتب إلا انطلاقاً من المحتم الذي لا نملك له دفعاً، وانطلاقاً من الأثر الذي تخلفه الرضة أو الجرح، سواء أكان نتيجة لحدث، أو كان شيئاً من نسج الخيال. إن الرسالة تقوم، دائماً، على خلفية رضية، فينبغي أن نقلبها لنقرأ الأثر الدال على تلك الرضة أو ذلك الجرح. فكيف نقرأ مجيء التوحيد من وجهة النظر هذه؟ فمن وجهة النظر التي تصدر عنها «سيرة» محمد، أرسل الله إلى محمد برسالة، أو هي بالأحرى رسالة متعذرة القراءة. ووجب على الرسول أن يبلغ تلك الرسالة، ولا يبدل فيها. فهي ينصت، ويعيد، والمدون ? الشخص الثالث بين الله والرسول ? هو الذي يقوم بالتسجيل. فمنذ البداية، كان هنالك تفاوت في الوجهة، وتفاوت في القراءة وفي الكتابة. إنه لا يقرأ ولا يكتب، بل يردد ويعيد ما يسمع. وإن هذا التفاوت، في ما يبدو لي، هو الذي يحدد، كذلك، ذلك الحدث الصادم المنغرس عميقاً في المتخيل. إن في ذلك فعلاً منفصلاً في تسجيل هذا الممات. أنني إذا كنت أذكر بهذا التاريخ، فللعودة، دائماً، إلى تلك العلاقة «العضال» بين أن تكون موحِّداً وأن تكتب. أنا، على سبيل التمثل، أعيش هذه العلاقة في تجربتي مع الازدواجية اللغوية، التي تحدثت عنها في موضع آخر. لقد تذكرت بالأمس أنني أهديت الطبعة الثانية من كتابي «الذاكرة الموشومة» إلى أمي، وهي المرأة الأمية. فكأنني استعرت مكان الله، وأعرت أمي مكان الرسول. إنها عملية غريبة من كل الوجوه، لكني أعلن مسئوليتي عنها في كل الظروف. وبطبيعة الحال، إن هذا القياس غير كامل، لأن الله يهدي نفسه، فهو المسبح باسمه. وما قولنا عن المرأة اليهودية في تضحيتها التي في الكتاب؟ يبدو لي أن اليهود والعرب من هذا الجانب قد كبتوا الوجه الأمومي بالقدر نفسه من العنف بينهما، وأن المسيحية كانت تريد أن تنقذ علاقة غير مستحبة بين الكتاب والأم. إن المسيحية أعادت، بفضل مبدإ الثالوث، إدخال صورة الجسد في الحرف، بين الخلق وما قبل الخلق، فكأنما كانت تريد أن ترسخ لتراتبية جديدة في مفهوم الكتاب المجسد. وكأنما هي قد أنَّثت الكتابة : ذلك ما يعبر عنه نيتشه بوضوح في فقرات [عديدة من كتابته]. إن شغف الواحد (لدى اليهود ولدى العرب) يقصي الواحدة لأجل الأخرى، التي هي صورة ذكورية. هذا التوسط الهيغلي (أحيلك إلى هيغل وإلى القراءة التي جاء له بها دريداً في كتابه المشهود «قَرعة حزن»، الذي يدافع عن الوضع الحصين للأم)، يبدو لي أنه يخلف الشغف السامي بالواحد. الواحد : رقم، الأول، وهو في الوقت نفسه، اسم، الاسم الآخر لله. إن هذا الشغف يغطي بنية اجتماعية (البنية الاجتماعية للشعوب السامية) حسب ذلك القانون العرقي الذي يحكم تبادلاً صارماً للنساء، أمهات، وأزواجاً، وعشيقات، وإماء. فتكون المسيحية جاءت بالثالوث، لتمنح مكاناً للمرأة، وفي الوقت نفسه، لتثبتها في القسوة الناعمة لقاعدة. بين الحب المسيحي والشغف السامي، بدل الله صورة بصورة. لكن ما قولنا عن المرأة اليهودية؟ إن الصيف يقترب، ومعه المتع التي يحملها الماء والسفر. وإنني أشعر بانتشاء، لكن تنتظرني قصيدة، قصيدة آمل أن تكون قريبة من المحيط. أتمنى لك صيفاً جميلاً. بكل إخلاص ع. الخطيبي