ما حصل في إيران هو تململ على الجمود، ورفض للواقع السيئ الذي يراه الإيراني يوميا وتحاول السلطة أن تخلع على ما يجري شعارات لم تعد تجد سوقا رائجة لها. في إيران تياران أساسيان، وداخل كل منهما تيارات متغايرة لا تصل إلى حد التنافر الجامح: تيار السلطة، وتيار الإصلاح الديمقراطي. داخل تيار السلطة توجد فئتان تتصارعان على النفوذ، وتكنان الحسد لبعضها البعض، وتريد كل منهما إزاحة الأخرى حفاظا على المكاسب سواء كانت مادية أو أخلاقية. ولكي نكون أكثر تحديدا، هناك جناح رفسنجاني الذي استفاد كثيرا من الثورة، وكدس كميات هائلة من النفوذ والمال والسلطة، واستطاع أن يفرض تأثيره على مناحي الحياة السياسة والاقتصادية. ويواجه هذا التيار تيار يدعي "الأخلاقية" يتزعمه نجاد، ويرى أن تيار رفسنجاني يهدد طهارة الثورة، ويحد من طموحات إيران الكبرى في المنطقة، وكذلك يهدد التيار الأخلاقي عبر استعداء الجماهير عليه، وإفشال سياساته الاقتصادية، وتصوير سعيه وراء النفوذ في الخارج على أنه مغامرة صبيانية. هذان التياران كان من المحتم تصادمهما، لكن براعة مرشد الثورة علي خامئني، حالت، لغاية الآن، دون التصارع، وبقيا على خطين متوازنين لا يغلب أحدهما الآخر، ولا يعتدي أحد منهما على مكاسب ومنافع الآخر؛ هذه المعادلة تضمن أيضا للمرشد الكلمة الفصل والإدارة الكلية للبلاد دون منازع. في مواجهة هذا التيار ثمة تيار آخر يرى أن كلا من التيارين السابقين يتجاهلان الشعب وطموحاته ونزعته الإنسانية إلى الانفتاح والتطور، والابتعاد عن الحروب والفقر. وهذا التيار لا يحمل رؤية مفصلة للمستقبل، لكنه يشترك في قاسم أكبر، وهو المطالبة بالديمقراطية وحكم الشعب واحترام قراره. وقد استطاع هذا التيار "الإصلاحي" أن يعرف نبض الجماهير، ويسير في الخط الذي تطالب به، ولكن من دون استفزاز التيارين السابقين، ومن دون المطالبة بالتغيير الشامل، بل المطالبة بالتغيير المتدرج. وقد وجد تيار رفسنجاني في هذا التيار فرصته الأخيرة للحد من تمدد صلاحيات التيار الأخلاقي بقيادة نجاد، فانحاز بشكل واضح له، وطالب بأن يكون الشعب سيد قراره. ولذلك لا غرابة أن نرى نجاد يتهم رفسنجاني علانية بالفساد، لأنه يعرف أن الناس تعرف أيضا أن هذا الشخص يتصرف وكأنه "صانع الملوك" ويصفه الإيرانيون "بسمك القرش"، ولذلك فإن مهاجمته قد تستهوي الكثيرين، وتحمل تأييدا للتيار الأخلاقي في الحرب الداخلية الدائرة بين الأهل على السلطة. لقد انطلقت المعركة بين تلك التيارات على أساس أنها معركة ديمقراطية تترك للشعب حرية القرار، وكان كل منهما مقتنعا بأن الشعب سيكون في جانبه؛ لكن حسابات الحقل كانت غير حسابات البيدر، وتبين للتيار الإصلاحي أن ثمة تزويرا بالأصوات، بعدما وجدوا أن المناطق الشمالية من طهران التي لا تؤيد نجاد، قد صوتت له بأغلبية مطلقة! اندلعت الأزمة بعدما قرر المرشد الأعلى ترك سياسة الموازنة بين الأطراف، ورمى بثقله في ملعب نجاد، وصادق على انتخاب نجاد، تاركا الإصلاحيين في حالة من الذهول والغضب المكتوم. ويبدو أن المرشد قد رأى في التيار الإصلاحي توجها لا يسير في مصلحته، قد يؤدي في الصيرورة الديمقراطية إلى تلاشي موقعه الديني والمهيمن، وأنه من الأفضل وقفه قبل استفحاله. ومما يؤيد هذا التصور أن الناطق باسم موسوي في فرنسا أكد أن المرشد الأعلى اتصل بموسوي وهنأه قبل صدور النتائج، ونصحه بخطاب متوازن، لكن ليبلغ لاحقا من قبل ضابطين كبيرين من الحرس الثوري، أن الناجح هو الرئيس نجاد، وأن عليه أن يقلع عن التحريض. لقد فهم تيار رفسنجاني أن الحرب قد بدأت عليه وعلى صلاحياته، وفهم الرئيس موسوي أنه سيحرم من النصر، وعرف الشعب الإيراني أن قراره لا يحترم، فكانت الانتفاضة التي هزت كيان النظام الإيراني، وأربكته لدرجة قل أن عرفها حتى في حربه العصيبة مع العراق. لقد وصف نجاد معارضيه بأنهم "غبار" وردوا عليه "بأن الغبار سيعميه"، ونزل مؤيدوه للشارع، ونزل مؤيدو المعارضة، وسالت دماء، وتحولت إيران في غمضة عين من أنموذج يستهوي الكثيرين إلى أنموذج آخر لا يختلف في حيثياته عن نماذج استبدادية أخرى في هذا العالم الفسيح. لقد وقف الناس على السطوح يصرخون الله أكبر، وثار الطلاب في الجامعات، وهاجمهم رجال الباسيج، وتراجعت السلطة قليلا بقبولها إعادة فرز بعض الأصوات، لكنها لم تتنازل كليا بعد، لأنها تعرف أن أي تنازل متسرع سيتبعه مطلب آخر أصعب، ولذلك فإن التنازل بالمفرق أهون من التنازل بالجملة. كما تدرك التيارات المعارضة الأخرى أن حشر السلطة في الزواية سيهدم الهيكل على الجميع، والأفضل المساومة والقبول بحلول الوسط. لكن في النهاية ما هو أهم في القضية برمتها أن الشعب قد قال كلمته في نظام ادعى أنه "المثال" وأنه "الثوري" و"الطهوري". لم يعد النظام بمنأى عن الاتهام، ولم يعد بإمكانه أن يتصرف كيفما شاء، فالقادم من الأيام سيكون مختلفا عما سبقه، وعصر الثورة الوهاجة قد خف بريقه، وأصبحت إيران اليوم غير الأمس. وسواء توقفت التظاهرات أو استمرت، وسواء استهاب المحتجون في الشارع تهديد خامنئي أو تحدوه، فإن خطاب المرشد سعى إلى حسم أمور بدا لفترة ان ملايين الإيرانيين، الذين صوتوا للتغيير ونزلوا إلى الشارع احتجاجاً على ما اعتبروه تزويراً للنتائج، يمتلكون انطباعاً خاطئاً عنها، وأولها أن التغيير متاح عبر صناديق الاقتراع، وثانيها أن للرئيس والحكومة وزناً ودوراً مستقلين في إدارة شؤون البلاد وان الأخطاء التي يقولون إنها حصلت في السياسة والاقتصاد خلال عهد احمدي نجاد تعكس توجهاته وحده، وثالثها أن بإمكان الأجيال الشابة، ولا سيما تلك التي ولدت بعد الثورة، أن تتواصل مع العالم الخارجي بحرية وتتأثر بما يدور من حولها بلا رقابة. بدأ خامنئي خطابه بدعوة الشعب الإيراني كله للوحدة والصبر وبقراءة آيات قرآنية تتعلق بواقعة الحديبية التي مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، حيث كان المؤمنون محاطين بالكفار المدعومين من مكة فيما كان عدد المؤمنين قليلا ولكنهم كانوا يعتمدون على الله ثم على الصبر. وأنهى خامنئي كلامه بقوله إنه إنسان يملك روحا وجسدا ضعيفا (مشيرا إلى يده التي فقدها في انفجار قنبلة) وقال إنه مستعد ليكون راضيا بذلك إرضاء للمهدي المنتظر والثورة الإيرانية. هذه الكلمة عبرت بوضوح عن رؤيته وعن مدى استعداده للدفاع عن هذا النظام حتى لو تطلب الأمر التضحية بحياته. كانت خطبة خامنئي تهديدا واضحا للمعارضة وقادتها الذين لا يقبلون بنتائج هذه الانتخابات ولم يرضوا بنتائجها ويطالبون بانتخابات جديدة. خامنئي طالبهم بوضوح بوضع حد للفوضى في الشوارع وإلا "إذا استمروا بهذه الطريقة، فسأعود مرة أخرى وأخاطب الشعب بشكل أكثر وضوحا". عنى كلام خامنئي أن الانتخابات مجرد "زينة" يتبرج بها نظامه أمام أعين العالم، وان كل من يشارك فيها جزء من النظام نفسه، لا سيما انه يمر في مصاف عدة للمصادقة على ترشيحه. لكنه في الحقيقة لم يكن يخاطب مير حسين موسوي، بل كان يتوجه إلى 13 مليون شخص (بحسب الإحصاء الرسمي) منحوه أصواتهم وهم ينشدون التغيير من خلاله، راسماً سقفاً لتوقعاتهم وموضحاً أن كثافة المشاركة في الاقتراع تعني بالنسبة إليه تزكية للجمهورية الإسلامية وليس دعوة لتعديلها. ورغم التهديدات المعلنة والمبطنة التي انطوى عليها، إلا أن خطاب المرشد عكس أيضا تهيّبه مما حصل وقلقه من اتساعه، فاضطر إلى توجيه توبيخ علني إلى الرئيس المنتخب الذي اتهم هاشمي رفسنجاني بالفساد، مدافعاً بقوة عن سمعة احد أركان الجمهورية الإسلامية الذي وقف إلى جانب تعيينه مرشداً بعد وفاة الخميني، ومنتقداً الاستناد إلى الإشاعات في أمور يفترض أن يحسمها القضاء وحده. واضطر خامنئي أيضا إلى تأكيد انه لم يكن منحازاً إلى أي من المرشحين وانه لم يوصل رأيه المباشر إلى الناخبين على رغم انه يجد أفكار نجاد اقرب إليه من الآخرين. وظهر القلق أيضا في الهجوم غير المبرر على وسائل الإعلام الدولية التي فرضت السلطات قيوداً كبيرة على نشاطها داخل إيران، واتهمها بتضخيم ما يجري في شوارع طهران والمدن الأخرى، علماً أن الإيرانيين أنفسهم نجحوا في تجاوز الحظر الرسمي وأوصلوا صور تظاهراتهم إلى الخارج بوسائلهم الخاصة. قال خامنئي مخاطبا المرشحين اللذين يعتقدان أن هناك تزويراً وعمليات غير قانونية حدثت خلال هذه الانتخابات "أي احتجاج أو تحد يجب أن يأتي بشكل قانوني من خلال تسليمه إلى مجلس صيانة الدستور". ووصف خامنئي مطالب المعارضة بأنها "مطالب غير قانونية". وأضاف أن "مطالبهم هي بداية للدكتاتورية. " إنني أقول لكم إن استمرار هذا الوضع (المظاهرات في الشوارع)، ونتائج مثل هذا التصرف، ستعود نتائجه مباشرة على القادة خلف الستار". "القادة خلف الستار" ليسوا إلا "مير حسين موسوي و محمد خاتمي ومهدي كروبي"، والتهديد والتحذير الذي وجهه خامنئي إليهم يمكن أن يتوسع ليشمل الحصانة التي يمتلكونها والفرصة التي لديهم بالتحرك بحرية. منذ السبت الماضي فقط، اعتقل أكثر من 150 زعيماً سياسياً وصحفياً ونقلوا إلى أماكن غير معروفة. ليس هناك أنباء معلنة عن هؤلاء الناس أو الأشخاص المختفين أو أسماء الأشخاص الذين قتلوا في مواجهات الاثنين الماضي. اعتبر موسوي الذين فقدوا أرواحهم في هذا اليوم شهداء، وأشار إليهم خامنئي باختصار على أنهم "الناس الذين قتلوا في فوضى الشوارع". لا تزال هوية هؤلاء الأشخاص سرية ولم تقم لهم حتى مراسم دفن ولم يتم تسليم جثثهم إلى أهاليهم. مهما كان قرار موسوي وكروبي، وحتى لو عاد نجاد إلى السلطة لأربع سنوات أخرى، سينمو هذا الغضب بين الناس الذين يحسون بالإهمال والتهميش بشكل أسرع من قبل. هؤلاء الناس الذين قال عنهم نجاد إنهم "غبار" و"مثيرو شغب" لن يقبلوا رئاسته في الأيام القادمة وسيواجه النظام أزمة متصاعدة أكبر من أي أزمة واجهها منذ 1979. المطالب البسيطة بتغيير السياسيين والحصول على اقتصاد وحرية اجتماعية أفضل، تغيرت الآن إلى المطالبة بالانتقام من أولئك الذين ارتكبوا أعمال القتل يوم الاثنين وقاموا بضرب الناس بوحشية كبيرة خلال الأسبوع الماضي. لا تزال جراح الناس ساخنة وصور أولئك الحراس المدججين بالسلاح بأشكالهم المخيفة وهم يهاجمون الناس العزل ستلتصق بذاكرة الناس إلى الأبد. ماذا يمكن أن يفعله خامنئي أو نجاد بهذه الصور السلبية؟ هل فعلوا شيئا غير الانقلاب على مواطنيهم؟ وما هو الثمن؟ ربما ستتوضح الإجابة عن ذلك في المستقبل القريب. وماذا بعد؟ فيما تشهد إيران موجة احتجاجات شعبية واسعة تفجرت فور إعلان فوز الرئيس، محمود أحمدي نجاد، بولاية ثانية، بلغت لحد قتل سبعة أشخاص بعد مزاعم مهاجمتهم نقطة عسكرية في وسط طهران. وبعد مسيرات ضخمة خرجت في معظم مدن إيران للتنديد بنتائج الانتخابات. فإن أمام قادة النظام الإيراني أحد حلول ثلاثة: السيناريو الأول: إما التصديق على الانتخابات: وهذا السيناريو يصعب تصوره؛ لأنه في أغلب الظن سيزيد حماسة الجماهير خاصة بسبب الإجراءات الأمنية المشددة، ورد فعل السلطات الأمنية. وستشهد البلاد تدهورًا أمنيًا أشد، وهذا الإجراء سيزكي النار ولن يطفئها السيناريو الثاني: رفض نتائج الانتخابات: في حالة رفض نتائج الانتخابات وإثبات أن هناك حالات من التزوير فإن ذلك سيشكل ضربة قاضية للرئيس والمرشد الأعلى، والذي رحب بنتائج الانتخابات ونعت فوز نجاد بأنه يوم عيد للإيرانيين جميعًا، كما قد يسبب فوضى عارمة في البلاد. السيناريو الثالث: محاولة تسكين الوضع لفترة تسمح للنظام بالتقاط أنفاسه، وإعداد أوراقه، والقبض على الرموز المحركة للشارع أو التفاهم معها، بعد أن تكون هدأت حدة الثورة في نفوس الجماهير، وربما يخرج مير موسوي وتياره الإصلاحي ليهدئ الشارع بعد طمأنته أن الأمور على ما يرام، فهو في النهاية أحد رموز هذا النظام ولن يدع الأمر يخرج عن حد السيطرة. وخلاصة الأمر أن النظام الإيراني لم يصمد في أول امتحان دولي له. فبعدما كان يستمد تماسكه وعصبيته من حال العداء التي أحاط نفسه وأحاطه الغرب بها، وما إن تكشفت بوادر الرغبة في "مد اليد" إليه والحوار غير المشروط معه، حتى تراخت القبضات وتلاشى الاستنفار ونزل الإيرانيون إلى الشارع يطالبون بقيادة أفضل. *باحث في العلاقات الدولية والقانون الدولي- جامعة محمد الخامس-أكدال-الرباط