«آدم، رأى النور بشكل عادٍ وطبيعي، عندما كنا نتواجد أنا ووالده بحكم عمله بإحدى المدن بشمال المغرب، كان نموه طيلة السنتين الأوليين طبيعيا ولم نسجل بشأنه أية ملاحظات رغم كون والده طبيبا ، باستثناء كثرة الحركة والاحتجاج، وهو الأمر الذي اعتبرنا أن مرده إلى التساهل في الاستجابة لرغباته وإلى الدلع. إضافة إلى أنه غير اجتماعي ، وهو مافسرناه أيضا بالوحدة التي كنا نعيشها بعيدا عن أسرنا، إلا أن ذلك كله لم يكن ليحد من المشاريع والتصورات التي كانت تؤطر جلساتنا ونقاشاتنا حول أي مستقبل نريده له، تربية ، تكوينا علميا ورياضيا... وأي رجل سيكون مستقبلا، سيما بالنظر إلى وقوفنا على مستوى ذكائه الذي خُيل لنا معه أن إبننا سيكون ناجحا دراسيا وسيتفوق على أقرانه. خلال هذه الفترة سننجب إبنة هي مولودنا الثاني، وهي التي جعلتنا نفطن إلى أن خللا ما يعانيه آدم، فعلى النقيض منها كان مشتت الانتباه ولايركز في نظراته على مخاطبه وعلى مجموعة من الأشياء، وكان يجد صعوبة في النطق، وصعوبة في التعاطي مع النظافة الخاصة، إلا أن كل هاته الأمور لم تكن لتزعزع اعتقادنا بأن إبننا عادٍ كغيره، لأن مشكل الإعاقة معروف وعلاماته تظهر على المصاب بها، وهو ما كان ينتفي في حالته. بعدها بمدة انتقلنا للعيش بالدارالبيضاء، وشرعنا في أجرأة مشاريعنا، إذ انطلق والده في أشغال تشييد منزل خاص، مع تطلع لإعداد الطابق الأرضي من أجل احتضان مشروع عائلي، ولهذه الغاية التحقت بإحدى المدارس الخاصة، وولج آدم بدوره مدرسة خصوصية وهناك لم يندمج مع باقي الأطفال وأسرّ لنا مربوه بأن هناك مشكلا ما، إلا أننا لم نعر الأمر اهتماما، وأدرجنا سلوكاته ضمن خانة الشغب الطفولي، إلى أن استدعينا مرة لاجتماع بالمؤسسة قيل لنا إنه مخصص لآباء الأطفال فلم نجد بالقاعة سوانا، حيث تم إطلاعنا على أن إدارة المدرسة قامت بجلب أخصائية نفسانية لمدة أسبوع مكثت مع إبننا دون أن نكون على علم بالأمر، توصلت إلى أنه يعاني من مشاكل غير محددة. مشاكل لم نعلم طبيعتها أو أسبابها، وفسرناها أحيانا بأنها حُمق، خاصة أنه كانت تنتابه لحظات ضحك هستيرية غير مفهومة، فوجدت نفسي ووالده في دوامة من اللوم والعتاب المتبادل التي تبرر حالته بأن لها علاقة بالسلوك والتربية التي كان كل منا يلقنها له خاصة عبر ممارسة الضغط والرغبة في الانضباط تارة و «الفشوش» تارة أخرى. فشرعنا نعرضه على الأطباء الذين منهم من اعتبر أنه يعاني الصمم وهو ما يؤثر على وضعيته النفسية، لنلج عالم الفحوصات والتحاليل، وبدأنا فعلا نفكر في إجراء عملية جراحية له لمعالجة السمع كلفتها 50 مليون سنتيم ، إلى أن زرنا طبيبا آخرهو من فاجأنا بمرض لم نكن نسمع به من قبل ولم نكن على علم به، وهو التوحد الذي يعاني منه إبننا! أسئلة كثيرة وجدتني أطرحها على الطبيب بشكل عفوي بمعية زوجي حول أسباب المرض، أعراضه وعلاجه، وإن كان ذا ارتباطات وراثية، سيما وأن إحدى الطبيبات في معرض تشخيصها ذات مرة ربطت حالة إبننا بحالة قريب لزوجي هو من ذوي الاحتياجات الخاصة. ومن بين الأجوبة التي وردت على لسان الطبيب أن الوضعية النفسية للأم خلال فترة الحمل من شأنها إصابة الجنين بالتوحد، أو علاقتها بطفلها خلال الأسابيع والشهور الأولى من ولادته، وأضاف بأنه من الأفضل ألا ننجب مرة أخرى. وحول سؤال عن وضعية شقيقته أخبرنا أنه من الممكن أن تكون طبيعية ومن الممكن أيضا أن تعرف حالتها مضاعفات مستقبلا! غادرنا العيادة مصدومين لهول الوقع علينا، ومنذ ذلك الحين بدأت أبحث عن كل ما له علاقة بالتوحد عبر الشبكة العنكبوتية ومن خلال الكتب والمراجع وغيرها، وكنت كلما عثرت على أمر جديد بهذا الخصوص أعرضه على زوجي الذي لم يكن يعيرني اهتماما، بل أصبح غير مكترث لأمرنا جميعا، ولم تعد له الرغبة في الأكل والشرب وفي الجلوس معنا، وأصبح لايدخل البيت إلا لماما، وانكب على مطالعة كتب مثيرة بالنسبة لي من بينها كتاب «لاتحزن»، إلى أن جاء يوم أحزنني هو فيه، عندما أخبرني أننا نشكل خطرا على المجتمع بإنجابنا لأطفال معاقين، وعليه من الأفضل أن نفترق، مضيفا، سأنفق على إبنك أموالا طائلة دون أن أستفيد منه في شيء! كلام جارح بالنسبة لي، انضاف ليزيد من حجم المعاناة التي صرت أعيش تفاصيلها ليل نهار، فانطلقت أحاول تهدئة الوضع والتخفيف عنه، وبأنه يجب علينا الإيمان بالقضاء والقدر، وأن نرعاه بما تأتى لنا من قوة ومجهود وأن نهتم بشقيقته، وبأنه يمكننا إنجاب أطفال آخرين، إلا أن عزيمته وإصراره كانا أكبر من تبريراتي، مستدلا على طرحه الجديد بمشهد لمتسول يتجاذب أطراف الحديث رفقة إبنه الصغير قائلا « إيوا شوفي، كلشي عندو لولاد عاديين واش أنا ما عنديش الحق حتى أنا نحس بنفس الإحساس»!؟ كنا قد وصلنا إلى الباب المسدود، حمّلني والد إبني مسؤولية ما يقع له، ولم تنفع تدخلات أصدقائه والمعارف في ثنيه عن عزمه، إذ انفصلنا عن بعضنا دون طلاق رسمي لمدة سنة لم نعد نعيش خلالها سويا بعد زواج دام خمس سنوات، إلى أن صدر حكم / قرار الطلاق من المحكمة، التي حكمت لي ولابني وابنتي بمبلغ 3500 درهم شهريا، كان لايسلمني منها بعد مدة سوى 1500 درهم والباقي يمنحه لمدرسة خاصة كواجبات للاهتمام بآدم، بعد جهد جهيد من أصدقائه الذين أمام امتناعه عن إلحاقه بأية مؤسسة أخبروه بأنهم هم من سيتكلفون بذلك، إذ كان يرفض ويجيبني بقوله: « ما تصدعيش راسك، أُدرسي واتركيه في المنزل، راه ما كاينش شي جهة اللي غادا تنفعوا، ودابا ندفع ليه في شقة يكبر ويعيش فيها» مضيفا « راه ما يمكنش نبقى نصرف على مشروع فاشل»! إبان ذلك حصلت على دبلوم الدراسة، والتحقت بسوق الشغل، ولم أعدم الحيلة أو الجهد أو الرغبة في البحث عن مستقبل أفضل لابنيَّ اللذين لم يعد والدهما يرغب في زيارتهما ، والذي عقد قرانه على سيدة أخرى أنجب منها إبنة، بينما كان يطالبني بألا أتزوج، وإن أنا أقدمت على ذلك، كان يحذرني من مغبة الإنجاب! الأزمات قوتني بحمد الله ، فأنا كنت طيلة فترة زواجي أعتمد على طليقي الذي كان يتكفل بكل شيء ولم أكن أعرف أي باب أدخل أو أخرج منه، واليوم تتحسن ، بفضل الله ، حالة آدم الذي تغير وانخفضت حدة حركاته وتصرفاته، وتعلم أن يكتب الحروف وأن يشكل الأسماء، وتمكن من تشكيل الألعاب وتركيبها، وإضافة إلى القاعة التي يتلقى تكوينه بها على يد مرافقة خاصة، فإنه يحضر حصصا دراسية مع شقيقته بمعية أطفال آخرين واستطاع أن يندمج معهم، وأنا أتكفل بطفليَّ بنسبة 100% دون كلل أو تعب، سلاحي في ذلك الصبر والعزيمة والسند والتكافل الذي تتقاسمه معي عدد من أمهات أطفال وطفلات هم بدورهم يعانون من التوحد. إلا أن ذلك لا يمنع من استمرار استغرابي واندهاشي لقرار طليقي الذي فضل الانفصال محملا إياي تبعات الأمر كله رغم تكوينه العلمي والمعرفي الذي يجب أن يؤهله للنظر للأمر بمنظور آخر. لا أخفيكم سرا أنه مرت علي لحظات عصيبة طرحت خلالها أسئلة حول الداعي في استمرار وجودي وصلت حد التفكير في الانتحار ، وأحمد الله أنني لم أضعف ولم أسقط ضحية لهذا الهاجس».