يلاحظ بشدة غياب التوعية والتحقيق الطبي اللازم بخصوص زواج الأقارب الذي أضحى منتشرا بين العائلات من منطلق الحب و«دْيالْنَا فدْيَالْنا» و«بنت العم» و«بنت الخال»، الأمر الذي أضحى معه هذا الزواج يشكل نسبة مرتفعة، وبسبب عدم إجراء فحص طبي للزوجين قبل الزواج يساهم في تهديد سلامة الأجيال والمجتمع بانعكاسات عوامل الوراثة وبالأمراض والإعاقات من قبيل التشوهات الخلقية والعيوب البدنية والمنغولية والنمو غير المكتمل والتخلف العقلي والحساسية. وحسب بعض الخبراء، فإن الخطر قد يحدث قبل الولادة مثل تسمم الحمل والإجهاض، وربما ليس بالكثرة التي يعتقدها أو يؤكدها البعض من خلال بعض الدراسات، إلا أنه هناك استثناءات ومن واجب الزوجين القريبين توخي الحذر والحيطة حتى ولو من الصعب ثني بعضهم عن الزواج فيما بينهم حين تحضر قوة الحب أو العامل الأسري، وبينما شجع الإسلام على الزواج وحث عليه، تاركا حرية الاختيار لكل شخص يرغب فيه، سواء كان رجلا أو امرأة، فزواج الأقارب، بحسب أراء طبية متطابقة، لايعني دائما أن هناك خطرا على الأبناء من الأمراض الوراثية، بل إن لزواج الأقارب في حالات أخرى فوائد إذا وجدت صفات وراثية جيدة بالعائلة مثل الذكاء والجمال. زواج أقارب ينجب ثلاثة أشقاء مكفوفين بإلحاح من أسرته، تزوج عبد الكريم لگناوي بخنيفرة من ابنة خالته فاطمة نشابي، المنحدرة من قرية بويجمان، ولم يكن يعلم بما قيل ويقال عن علاقة زواج الأقارب بالأمراض والعاهات والإعاقات التي تصيب مواليد هذا النوع من الزواج، او ما يصطلح عليه طبيا بالأمراض المنقولة عن طريق الوراثة المتنحية، خصوصا إذا كان الزوجان يحملان نفس الجينات، أو لعل عبد الكريم اعتقد أن كل ما يقال عما يسميه الأطباء بالهيموفيليا والتلاسيميا والهيموغلوبين ما هي إلا إشاعات وبدع، مما حمله على عدم الاهتمام بإجراء فحص طبي قبل الزواج. إلا أنه وقف على حقيقة الأمر بعد أن أنجبت زوجته ذكرا (بدر) الذي ما إن استنشق أنفاسه الأولى، في اليوم العاشر من يونيو عام 1993، حتى لوحظ أنه ولد مكفوفا، ولم يكن من والده عبد الكريم إلا أن يسلم أمره لله قبل أن يتقدم بطفله إلى المستشفى الإقليميبخنيفرة، ومنه إلى مستشفى ابن سينا بالرباط، قبل أن تجنح به ظروفه الصعبة إلى المعتقدات الشعبية المعروفة عندما وجد نفسه بقلب الأضرحة والأسياد، والفقهاء وباعة الأعشاب، عل عمى طفله يكون عابرا نحو الشفاء. وفي الوقت الذي أقنعه فيه أحد الأطباء المختصين في الوراثة بالتوقف عن الإنجاب على اعتبار أن احتمال إنجابه لأطفال يبصرون يبقى من المستحيلات، كانت زوجته حينها حاملا، ولم يستطع عبد الكريم إخضاعها لعملية إجهاض انطلاقا من أمله الكبير الذي تملك عاطفته الأبوية؛ وبالتالي اعتبر مسألة الإجهاض من المحرمات. وشاء القدر أن تضاف إلى بيته، يوم 23 يوليوز 1997، طفلة ثانية مكفوفة أطلق عليها اسم (هدى)، وحينها اتفق الزوجان على الرضا بالمكتوب وعدم الإنجاب. غير أن خطأ في تنظيم النسل جعل الزوجة تحبل مرة ثالثة، ولم يكن بمقدور الزوج -كالعادة- سوى الاستسلام لما قد يأتي به مصيره بأمل أن يحظى بطفل سليم، وجاء يوم 14 ماي 2006 الذي وضعت فيه زوجته حملها ورزق الزوجان بطفلة مكفوفة (نورة). وكم كان حظهما مؤلما في إضافة بنت ثالثة إلى شقيقيها المحرومين مثلها من نعمة البصر. لم يكن أب الأشقاء المكفوفين، والمولود عام 1968 سوى رجل من عائلة فقيرة أبا عن جد، تراه كل يوم يسوق «تاكسي صغير» في دروب المدينة، وقد ظل ذلك الباحث عن لقمة العيش ينتقل بين عدة حرف لم يكن آخرها عمله في الخياطة لفترة طويلة بوجدة. وبينما ليس باستطاعة الإنسان أن يختار لنفسه ما يشاء، فقد تبنى هذا الأب صراعا قويا من أجل ضمان استقرار الأسرة بأن سجل ابنه (بدر) بمؤسسة محمد الخامس لإنقاذ الضرير بفاس. وبالنظر لبعض الظروف القاسية، انقطع هذا الابن عن الدراسة ليلتحق لفترة قصيرة بمعهد ديني بخنيفرة. أما شقيقته (هدى)، فقد ولجت أحد المساجد العتيقة وغادرته بعد مدة وجيزة، ويجهل ماذا يخبئ الغد لشقيقتهما الصغرى (نورة) التي تتلمس طفولتها على سكة الظلام. جميع الأشقاء المكفوفين هم الآن في وضعية مؤلمة ولا ينتظرون غير الشفقة والعون الصحي والنفسي، والدفع بهم إلى الاندماج والتأقلم مع الحالة ليحيون حياة طبيعية. وكلما ازداد نموهم كبرت حاجتهم للرعاية خلف النور ولحقهم في الترفيه واللعب والقفز مثل كل أقرانهم. وبقدر ما أن الأب والأم في أشد الحيرة والتمزق، فلا خيار لهما غير الحرص على ألايحس أي واحد من أبنائهما بالنقص والحرمان، وكلاهما مقتنع بأن رباط زواجهما بات متلاصقا ولا حل غير مشاركة أحدهما الآخر رحلة الحياة بحلوها ومرها، ومن حين لآخر يفشي الزوج لأقرب الناس إلى قلبه أن عذاب الضمير وثقته في إنسانية الحياة يمنعه من التفكير في أي حل رهيب من قبيل الانفصال عن زوجته أو في التخلي عن واجبه تجاه أبنائه المكفوفين، من حيث لا ذنب لهذا أو ذاك في شيء، كما لا علاج للمصاب غير الصبر الجميل وانتظار رحمة الله وانتباه المسؤولين والمحسنين والهيئات والجمعيات المهتمة بالطفولة لحالهم. و... طفل يصبح معاقاً في الثالثة من عمره طفل آخر من خنيفرة، اسمه عبدالجليل سيسوان، استنشق أنفاسه الأولى في الرابع من نونبر عام 2003، من أبوين مرتبطين بخاتم القرابة، وفتح عينيه في حالة طبيعية كباقي الأطفال، يبتسم ويحبو قبل أن يقف على قدميه للعب واللهو، وبصورة مفاجئة ومذهلة اختاره القدر، بعد ثلاث سنوات من عمره، صبيا معاقا بمجرد إصابته بمرض غريب على مستوى جهازه العصبي خلال شهر أكتوبر من عام 2007، وإثره لم يعد عموده الفقري سوى لحمة رخوية، فغادر مقعده بروض للأطفال كان قد ولجه لتعلم القراءة والحساب. ومنذ ذلك الحين ;انقلبت سعادة والديه رأسا على عقب إلى درجة أن والده، محمد سيسوان، أجبرته ظروف هذه المأساة إلى تقديم استقالته من الجيش في سبيل التفرغ لابنه والتنقل به بين المستشفيات والأضرحة وقراء الرقية من باب الأمل في الشفاء الذي لايزال أشبه بوهم صعب التحقيق. الوالد لجأ بابنه إلى مستشفى محمد الخامس العسكري بالرباط، حيث لقي اهتماما خاصا على مستوى الفحوصات والتحاليل، إلا أن كل شيء تبخر في مواجهة والد الطفل من طرف أحد الأطباء بأن الأمل في شفاء ابنه ضئيل جدا لحد الانعدام، ونصحه بمغادرة المستشفى دونما الحصول على ورقة الخروج، وعجز الوالد عن مطالبة الطبيب بما ينبغي من التفاصيل مادام جنديا، وعاش الوالد في حيرة من أمره وهو يتأبط انخراطه في التعاضدية العسكرية، ولعله لم يقتنع بنصائح الطبيب المشرف عندما فتح قلبه في رسالته ل «الاتحاد الاشتراكي» بالتساؤل: أليس هناك اتصالات أو أعمال تنسيق بين المستشفى العسكري والتعاضدية من جهة، وبينهما والمصالح الاجتماعية من جهة أخرى؟ لماذا لم يكلف الطبيب نفسه عناء الاستشارة مع جمعية أطباء الاختصاص داخل المغرب أو خارجه؟ علما أن حالة ابنه تعتبر من الحالات النادرة بحسب بعض الباحثين، وكلها تساؤلات واحتمالات لم يجد لها الوالد جوابا قبل أن يتوجه بطفله إلى طبيب مختص بفاس. وعلى مدى ثلاثة أشهر وهذا الطبيب يصف للطفل أدوية تخدير لم تعط أية نتيجة شافية. وبفعل المحنة والألم، حمل الوالد فلدة كبده إلى طبيبة بمستوصف «البيبات» بالرباط، هذه التي نصحته بإخضاع ابنه لإجراء بعض التحاليل تكلفتها 5000 درهم، ووصفة دواء لايوجد إلا خارج المغرب بمبلغ 193 أورو (ما يعادل حوالي 2000 درهم)، أرقام باهظة لم يستطع الوالد المسكين توفيرها، علما أن مصاريف الحياة المعيشية تثقل جدا كاهله. وأمام هذه المعاناة، اضطر الوالد إلى تقديم استقالته من طرف الطبيب ولجنة المعاش، في أفق أن يتم تقاعده لإجراء التدابير اللازمة حيال الطفل الذي فتحت إحدى الطبيبات أمامه بصيصا من الأمل بالقول إن شفاءه ممكن إذا ما تم إخضاعه لعملية جراحية على مستوى جهازه العصبي. وإلى حدود الساعة، لم يتوقف والد عبدالجليل سيسوان عن مناشدة جميع المحسنين والأطباء، والهيئات والمنظمات النشيطة في مجال الطفولة والجهات المعنية بقضايا الأسرة والأشخاص المعاقين، مد يد المساعدة له ماديا ومعنويا وطبيا للاحتواء محنته وإنقاذ ابنه من الوضعية الصحية المأساوية التي يعاني منها، وهو الذي لايقضي أيامه إلا في دفء صدر والدته الحنون (نجود) التي لايزداد حزنها الأمومي إلا عمقا لا يحفف منه إلا إيمان بقدوم المعجزة. إنها أسرة أخرى تعيش حزنها اليومي تحت رحمة الصمت في انتظار رحمة قلوب نبيلة. المولودي الذي أصيب بشلل كلي مس كل أعضائه حتى النطق حيث لم تكن له القوة لإبراح مكانه وعبد الفتاح الذي ولد هو الآخر شبيها للمولودي في الإعاقة في حين أصيب كل من سعيد وصاليحة بشلل جزئي بعد الولادة ورغم ذلك فقد تمكن الاثنان من مزاولة بعض الأعمال الفلاحية البسيطة. كانت أمي فاطمة كلما عادت من الحقول تتجه توا إلى الغرفة التي كان يقيم بها المولودي للاطمئنان عليه وإطعامه وتغيير ملابسه، بل كانت تحرص على تنظيفه شخصيا وهي نفس المعاملة التي كان يحظى بها عبد الفتاح. كانت عملية قاسية جدا بالنسبة لأم صبور ابتلاها الله وحباها صبرا جميلا. كانت تتمنى ونحن صغارا أن يغادر الوملودي إلى دار البقاء قبلها حتى لاتغادر هي الحياة وتترك المولودي عرضة للضياع وعدم الاهتمام وهو ما استجاب الله له، حيث توفي المولودي الذي رغم الإعاقة فقد كان حكيما ومتعقلا يذكر الله طيلة الوقت هو الذي غادر الحياة بعد ستين سنة تقريبا وخلفت وفاته حزنا كبيرا لدى كل أفراد العائلة رغم أنه لم يكتب لي حضور جنازته. عبد الفتاح، الذي مازال حيا يرزق، أمانة تركتها أمي فاطمة التي غادرت الحياة قبل خمس سنوات لدى شقيقه الأكبر الذي تسلم مشعل الإشراف على الحقول الشاسعة التي تركها العمدة الحاج العربي -رحمه الله- رغم أنه هو الآخر يعاني من مشاكل صحية متعددة في القلب إلا أنه دائم الاهتمام بعبد الفتاح ودائم السؤال عن صاليحة وسعيد اللذان تزوجا وأنشأ كل واحد منهما بيته وأسرته. الوضعية الصحية لهؤلاء الأشقاء الأربع استدعت من عامل إقليمخريبكة الأسبق أن يمنحهم مأذونية تتمثل في رخصة نقل لسيارة أجرة من الصنف الأول دون أن يكونوا قد تقدموا بطلب من أجل ذلك بعد أن وقف شخصيا على وضعيتهم الصحية والاجتماعية. الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على شهادتي هذه المؤثرة في حق أم وزوجة صادقة تحملت إعاقة أربعة أبناء دون أن تكون في حاجة إلى مساعدة من الدولة تستحق هذه المرأة تكريما خاصا منا جميعا هي التي اعتادت على أن تطعمنا رغيفا ساخنا ممزوجا بالعسل الصافي والزبدة البلدية وحريصة على أن ننام جميعا في البيت المخصص للضيوف وأن تقدم لنا بداية كل صباح بيضا مسلوقا وتمنح كل واحد منا دجاجة وبيضا أثناء العودة إلى المدينة هي التي اعتادت أن تزورها عندما اشتد بها المرض وبلغت من العمر عتيا. فلك منا دعوات الرحمة والمغفرة ولعزيزنا المولودي وأن يرعى الرب صاليحة ذات الجمال الأخاذ وسعيد الذي يفقد مزاجه كلما مس أحد حماره الذي كان يستعمله في تنقلاته وعبد الفتاح الذي لايعرفني بحكم إعاقته القاسية والشاملة.