غير أن الإضراب العام لا يصنع ولا يقرر وفق أهواء ونزوات القادة النقابيين و بشكل عفوي، بل الظاهرة تنتج بحتمية تاريخية عن ظروف اجتماعية وسياسية، في لحظة معينة، انسحب الجناح النقابي من مؤتمر الحزب وانخرطت في تأسيس حزب المؤتمر الاتحادي، وبالمقابل ساهم الحزب في جمع شتات العمال والنقابيين وساعدهم على تأسيس الفيدرالية الديمقراطية للشغل وفق تصور تقدمي حداثي ديمقراطي عقلاني، وأبرز التاريخ كيف انتصرت فكرة الواقعية بأن الحزب أقوى من النقابة وأن الحركة النقابية في العلاقة مع الاشتراكية الديمقراطية، كالعلاقة بين الجزء والكل، وأن التمثلاث والتصورات والأفكار والقناعات التي يستلهمها ويتبناها ويدافع عنها الاشتراكي الديمقراطي هي نفسها وبنفس الفعالية والقوة نجدها عند العامل والمناضل النقابي، وأن النضال السياسي هو الذي يفتح للنضال الاقتصادي أفقا جديدا وأرحب لتحقيق مطالبه، وتسريع وتيرة الحركة النقابية والدفع بها إلى أقصى مدى وأبعد نقطة، ويكفي أن نستحضر نتائج الانتخابات البرلمانية لسنة 2002 والتي بوأت الحزب المرتبة الأولى، وكان عليه وفق المنهجية الديمقراطية قيادة الحكومة، غير أن أيادي خفية كانت لها كلمة أخرى بحسابات وأجندة سياسية مغايرة فخرجنا عن المنهجية، لكن الاتحاد الاشتراكي عاد لاستكمال الأوراش بوصلته الرئيسية إستراتيجية النضال الديمقراطي ، بما تعنيه من تبني المنهج العلمي في التحليل والتخلي عن ديكتاتورية البروليتاريا، فالمخاض الذي عاشته الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وحالة التشتت والانحصار والهون التي أصابت جسده هو ما دفعها لإعادة النضر في طبيعة اشتغالها وحدود عملها، وكيف يمكن لها الانبثاق من جديد والانعتاق من ترسبات وإرهاصات الماضي، والنضال جنبا إلى جنب، على الأقل إن لم يكن في حزب واحد فعلى الأقل في صف واحد ومعركة واحدة، فتوحيد النضال السياسي للاشتراكية الديمقراطية يفرض توحيد الحركة النقابية وترصيد بنيانها لكي يحقق النضال الاقتصادي أهدافه ومكاسبه لتحسين الأوضاع الاجتماعية للفئات المحرومة، لقد أبان حزب الاتحاد الاشتراكي عن مواقف واضحة وصريحة في اتجاه توحيد النضال السياسي للاشتراكية الديمقراطية، لتسرع وتيرة توسيع الرقابة الاجتماعية و تحسين الخدمات الاجتماعية، وغيرّ التكتيك البرلماني بتبني المساندة النقدية، والوقوف إلى جانب الحركة النقابية في معركتها من أجل الزيادة في الأجور وتحسين ظروف العمل وتحقيق الرفاه الاجتماعي والعدالة الاجتماعية لتحرير العمال من الاستلاب الذي تعيشه، وسجلنا بالملموس الموقف الشجاع والعملي للمكتب السياسي للحزب برفض القرار الحكومي الذي أراد اقتطاع أجور العمال المضربين عن العمل في يوم الإضراب العام الذي دعت إليه الحركة النقابية في القطاع العام، كما قامت الاشتراكية الديمقراطية في لحظات التأزم الاجتماعي وانعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية على الوضع المغربي بتبني الحركات الاحتجاجية الاجتماعية وبالأخص تلك التي كانت تدعو إلى تحديد أسعار المواد الغذائية وضد غلاء المعيشة بصفة عامة، في الوقت الذي كانت فيه النقابات تعيش في مخاض حل ملفاتها الاجتماعية وتجاوز أزمتها الداخلية التنظيمية والديمقراطية، لهذا على الحركة النقابية اليوم أن تحمي نفسها وتاريخ الطبقة العاملة النضالي، أمام مد وشجع بعض المفسدين الذين يريدون بيع العمال بالجملة للرأسمالية العفنة والرثة، ولخير نموذج على ذلك سيطرة أمثال شباط على نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، وعقد صفقة مع بعض المقاولين الذين لا تربطهم بالمواطنة إلا الخير والإحسان، ونحن أمام امتحان مجموعة من المعارك الانتخابية، التي تجمع بين النضالين الاقتصادي والسياسي، وجب علينا تحقيق التكامل المنشود الذي تتوخاه الجماهير الشعبية، أي على النقابات التي تدافع على تحسين ظروف عيش العمال والمحرومين والمقصيين، أن تكون واضحة في دعمها للقوى الاشتراكية الديمقراطية، والدعوة لتصويت القواعد العمالية عليها في الانتخابات الجماعية والبرلمانية، وبالمقابل على أحزاب الاشتراكية الديمقراطية تحديد وجهة النضال المستقبلي وتنظيم تكتيك النضال السياسي في كل مرحلة من مراحله وفي كل لحظة من لحظاته، أي ضرورة تصور ومنهج وخطة عمل واضحة حازمة ومتناسقة، لحقن الجماهير الشعبية بإحساس من الأمن والطمأنينة والثقة بالنفس، لأن الرأسمال المادي والرمزي للعمل السياسي هو الثقة وهو ما نطمح إلى استعادته، أمام إكراهات مرتبطة بالتحولات العالمية والتقنية التي أزاحت قطاعات صناعية وحرفية من الوجود وأضعفت أخرى وبالمقابل تقوت قطاعات صناعية ومعلوماتية وخدماتية لازالت الحركة النقابية والاشتراكية الديمقراطية عاجزة على تأطريها، هذا إلى جانب إشكال خطير تعيشه الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، وهو محاولة إبعادها من تسيير المدن وحتى الامتداد النضالي داخل المدن، التي تعتبر المركز الصناعي والتجاري والعمل السياسي وهو الذي يؤثر على البوادي التي في الغالب تعيش في الرتابة والهامش، فالمدن هي القادرة على المزج وتحقيق التكامل بين النضالين النقابي والسياسي وإنتاج الروح المشتركة التي تميز المناضل التقدمي سواء ضمن الاشتراكية الديمقراطية أو ضمن الحركة النقابية.