كانت لائحة قراءاتي الأساسية عندما كنت طالباً في كلية 'سانتا كروز' بجامعة كاليفورنيا، في بدايات السبعينيات من القرن الماضي، تضم كتاباً من تأليف مؤلف 'أوروجواياني' يدعى 'إدواردو جالينو' عنوانه 'شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة: خمسة قرون من نهب قارة' وهذا الكتاب الذي وجه للولايات المتحدة وأوروبا نقداً مريراً لاستغلالهما القارة، كان كتاباً عادياً نسبياً في كلية كان يُدرِّس فيها الفيلسوف الماركسي النقدي 'هربرت ماركوز' ويعمل فيها 'هويي نيوتن' أحد مؤسسي حزب 'بلاك بنثر لمناهضة التفرقة العنصرية' معيداً، وقد غاب هذا الكتاب عن ذاكرتي لسنوات طويلة، حتى شاهدت على شاشة التلفزيون الرئيس الفنزويلي 'هوجو شافيز'، وهو يهدي نسخة منه إلى الرئيس الأميركي 'باراك أوباما' أثناء فعاليات قمة الأميركتين التي عقدت مؤخراً، وبعد أن شاهدت ذلك، بحثت عن كتابي الذي بات بالياً في مكتبتي وبدأت أعيد قراءته، كي أرى ما الذي تغير في القارة منذ تاريخ نشره وحتى اليوم، وما الذي بقي على حاله. وفي البداية تلزم الإشارة إلى أن هذا الكتاب قد نشر في فترة مضطربة من تاريخ القارة. ففي عام 1973 وهو تاريخ نشر نسخته الورقية، كان الرئيس التشيلي سلفادور ألليندي قد أقصي من الحكم بواسطة انقلاب عسكري، ما دفعه للانتحار في قصره الرئاسي بعد ذلك، وفي ذات العام وقع انقلاب في أوروجواي أجبر 'جالينو' اليساري، مؤلف هذا الكتاب على الهرب إلى الأرجنتين، قبل أن يجبره انقلاب عسكري آخر على الهروب من ذلك البلد أيضاً، وفي تلك الأثناء كان الفقر يغذي سياسات الغضب عبر القارة، ويغذي رومنطيقية كوبا الكاستروية، ويؤدي في ذات الوقت إلى أعمال قمع دموية من قبل مختلف حكومات الطغم العسكرية، وكانت هذه الفترة أيضاً، حتى لا ننسى، مصدر إلهام راديكالي لشاعر تشيلي الأشهر 'بابلو نيرودا' وللموسيقي 'فيكتور جارا'، ولمؤلف شهير مثل 'جالينو' المذكور، وأسماء أخرى عديدة، والفكرة المركزية في كتاب 'شرايين مفتوحة' هي أن الهيمنة الاقتصادية والسياسية على قارة أميركا اللاتينية في البداية من قبل الأوروبيين، وفي فترة متأخرة من قبل الولاياتالمتحدة، خلقت قارة لا تزال حتى الآن في خدمة احتياجات الآخرين، فاستخراج الذهب والفضة والنفط والحديد وزراعة السكر والموز والقهوة والمطاط كلها خدمت الدول المتقدمة 'التي كانت تربح من استهلاك هذه المواد أكثر مما تربحة أميركا اللاتينية التي تنتجها'، وقد كتب 'جالينو' بعبارات غاضبة تنتمي إلى بلاغة تلك الفترة عن 'شركة الفواكه المتحدة' كما كتب في المقدمة أن أميركا اللاتينية قارة يعيش فيها 280 مليون مواطن نصفهم على الأقل يعيشون في منازل وأكواخ عشوائية، وثلثهم على الأقل من الأميين، ويموت واحد من أطفالها جوعاً أومرضاً كل دقيقة تقريباً، والحقيقة أنني تأثرت بما قرأته في هذا الكتاب آنذاك، ولكن لم تتح لي فرصة رؤية هذا الواقع البائس وجهاً لوجه إلا عندما رحلت إلى المكسيك لتعلم اللغة الإسبانية، فهناك رأيت أن الفقر ليس شيئاً مطلقاً وإنما هو درجات وأصناف وأجناس: فالذين يعيشون في منازل عشوائية حجرية، أفضل حالا من الذين يعيشون في منازل عشوائية طينية بدون نوافذ، والذين يأكلون الفول والأرز، والخبز اليابس المصنوع من دقيق الذرة ثلاث مرات في اليوم، أفضل حالا من الذين يأكلون مرتين أو مرة واحدة ولا يتناولون سوى الخبز اليابس والملح، وكانت السياسة أيضاً تبدو مختلفة من المكسيك، ففي ذلك الوقت نشرت صحيفة مكسيكية مقالا عن فرق موت يمينية تعمل تحت إمرة النظام العسكري في جواتيمالا، قائلة إن تلك الفرق هي من إفرازات الانقلاب المدعوم من قبل 'سي،آي،إيه' الذي وقع عام ،1954 وهو انقلاب كان 'جالينو' قد كتب عنه في 'شرايين مفتوحة'، وفي المجمل فقد كان التاريخ حاضراً بقوة آنذاك، تماماً مثلما هو الآن في أميركا اللاتينية، فاليوم، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والفشل الاقتصادي لكوبا يبدو كتاب 'شرايين مفتوحة' وكأن الزمن قد تجاوزه: فالحكومات العسكرية التي كانت موجودة في جنوب ووسط القارة زالت وحلت محلها حكومات مستقلة، يقودها رؤساء منتخبون ديمقراطياً، لا يتلقون أوامرهم من 'شركة الفواكة المتحدة' التي كانت تهيمن على القارة، أو حتى من الولاياتالمتحدة ذاتها، ولا ينفي ذلك طبعاً أن أميركا اللاتينية، حتى بعد مرور كل هذا الزمن على كتاب 'جالينو' لا تزال موبوءة بالفقر وعدم المساواة المتخلفة عن قرون الاستعمار كما وصفها في كتابه، صحيح أن نسبة الفقراء الآن أقل مما كانت عليه في أيام نشر الكتاب، إلا أن الزيادة الكبيرة في تعداد السكان جعلت أعداد الفقراء في القارة كبيرة أيضاً، وصحيح كذلك أن متوسط الدخل في دول القارة أعلى مما كان عليه منذ عقود، إلا هذه الزيادة لا تقارن بنسبة زيادة الدخل في أميركا الشمالية، وهو ما ساهم في زيادة الفجوة بين القارتين بدلا من تضييقها، وعلاوة على ذلك، تفاقمت ظاهرة اللامساواة في الدخل في أميركا اللاتينية بسبب تركيز الثورة في أيدي عدد يقل باستمرار من الناس، واستمرار هذه التحديات الاقتصادية، والاجتماعية، ربما يشرح السبب الذي دعا رئيساً شعبوياً مثل 'شافيز' لأن يهدي أوباما المصلح نسخة من هذا الكتاب الذي يشرح جذور الفقر التي تعاني منها القارة الجنوبية، وعلى رغم أن ما كتبه 'جالينو' قد يكون مضى أوانه حقاً، إلا أن ذلك لا ينطبق على عبء التاريخ والاقتصاد الذي لا يزال حاضراً بقوة في القارة اللاتينية. كاتب ومحلل سياسي عن «واشنطن بوست»