سجلنا في المقال السابق جملة تحفظات على القول بإمكانية إقامة «الليبرالية الجديدة في بلد متخلف» في زمن العولمة، مستحضرين فشل محاولات إقامة الاشتراكية في بلد متخلف، زمن "الأممية الاشتراكية" والمعسكر الشيوعي... وبما أن طابع التحليل النظري كان هو الغالب في المقال السابق فإننا نريد في هذا المقال أن نبرز ما يزكي ذلك التحليل من معطيات التجارب التي عرفها العالم العربي. ودون الدخول في التفاصيل يمكن أن نسجل الأمور التالية، وهي ذات دلالة خاصة فيما نحن بصدده. 1- معروف أن المغرب، مثلا، لم يخض في أي وقت من الأوقات، منذ استقلاله، أية تجربة مستوحاة من الاشتراكية، بل بالعكس، لقد بقي «ابناً مخلصاً» للمعسكر الرأسمالي مرتبطاً به تابعاً له. والقطاع الخاص فيه بقي مفتوحاً على الجميع، مغاربة وأجانب. أما القطاع العام فلم يكن نتيجة تأميمات، بل كان، في جزء منه، من موروث دولة الحماية الفرنسية، وفي جزء آخر من عمل حكومات الاستقلال التي اضطرت، أمام ضعف الرأسمالية الوطنية، إلى النيابة عنها والقيام بمهمتها. وهكذا سلك المغرب منهجاً ليبرالياً من خصائصه أن القطاع الخاص هو الذي "يرضع" القطاع العام! ومنذ سنة 1980 دخل المغرب في مسلسل إعادة الهيكلة التي فرضها صندوق النقد الدولي، الشيء الذي جعله يعرض تماماً عن مواصلة المجهود الذي كان يبذل من قبل في قطاع التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، الشيء الذي جعله يهوي إلى رتبة 125 على سلم "التنمية البشرية"، الرتبة التي وضعته في مؤخرة القافلة. ومع ذلك فإذا نحن قارنا وضع المغرب "الليبرالي" مع وضع جارته "الاشتراكي" صاحبة البترول (الجزائر) فإن النتيجة العامة لن تختلف كثيراً هنا عن هناك (سنة 2001). 2- أما جمهورية مصر العربية التي تبنت "الاشتراكية" (أو اقتصاد الدولة أو الاقتصاد الموجه) والتي تمت فيها إنجازات في مجال التصنيع والتعليم والخدمات الاجتماعية، فقد عدلت عن تلك الطريق قبل عشرين سنة (كان هذا الكلام في 2001) وسارت في طريق الانفتاح، طريق الليبرالية... ومع ذلك فيبدو أن ما حققه الانفتاح فيها خلال العشرين سنة الماضية (أكثر من ربع قرن اليوم)، في مجال التنمية البشرية، لم يتجاوز ما حققته "الاشتراكية" في السنوات العشرين التي سبقته، إن لم يكن الوضع أسوأ. «الليبرالية الجديدة» لم تترك على السطح غير "أنانية الغني" ونقيضها "أنانية الفقير"، وسط ضياع شبه تام لكل من الهوية والوطنية والقومية. 3- أما ما يشاهد اليوم في تونس من تقدم على مستوى التنمية البشرية والتقليص من الفقر، فلا يمكن تفسيره بدون استحضار المجهودات المتواصلة التي كانت تنتمي إلى نوع من "الاختيار الاشتراكي" ركز على التنمية البشرية خلال الستينيات والسبعينيات. ويمكن استعراض تجارب أقطار عربية أخرى، ولا ضرورة لذلك، فهي تندرج بصورة أو بأخرى في هذه النماذج الثلاثة (إذا نحن استثنينا دول الخليج التي لا يمكن إدخالها في الحساب لكون اقتصادها اقتصاداً ريعياً تماماً)، والنتيجة لن تختلف كثيراً عما قررناه، وهو أن المشكلة ليست في اختيار هذا النظام أو ذلك من النظم المتوفرة في "السوق"، وإنما المشكلة هي في كون ما خرج من جوف الوضع الاقتصادي المتقدم (تكنولوجياً وعلمياً) لا يمكن أن يثمر نفس الثمار إذا هو نقل نقلا ب"المفتاح" إلى وضع آخر متخلف، لا يتحمله أو لا يقدر على حمله. وإذا أضفنا إلى ذلك الدور السلبي، الذي يلعبه العامل الخارجي المتمثل في هيمنة الغرب سياسياً واقتصادياً، وسياسا الحماية التي يتبعها، إضافة إلى المنافسة العربية/ العربية التي يفرضها تشابه المنتوج (الفلاحي أو الصناعي... الخ) أدركنا مدى تعقيد المشكل الذي نحن بصدده، مشكل التنمية و"التقليص من الفقر". وبعيداً عن الكلام بلغة الحلول الجاهزة، أو الاختيارات الإيديولوجية المسبقة، يمكن القول إنه ما لم تُبَن التنمية على مبدأ "التجديد من الداخل" فلن تكون لها النتائج المتوخاة. و"التجديد من الداخل" يتطلب نوعاً من الكتلة التاريخية بين جميع العناصر والأطراف: بين الدولة والمجتمع، بين المجتمع والفرد، بين القديم والجديد، بين التقليدي والعصري، بين التراثي والحداثي، بين الريف والمدينة... الخ، (للتذكير نادينا بالكتلة التاريخية منذ 1982). والحاجة إلى كتلة تاريخية من هذا النوع تبررها ثلاثة معطيات خطيرة في الوضع العربي الراهن تعوق التقدم، بل تجعل التنمية المطلوبة متعذرة إن لم تكن مستحيلة: - هناك من جهة الهوة العميقة التي تفصل بين ما هو قروي وما هو مديني، بين ما هو قروي في الأرياف والمدن، وما هو مديني في المدن والأرياف، على مستوى الاقتصاد والاجتماع والفكر والثقافة. وهي هوة تكرس عملية إعادة إنتاج متواصلة لظاهرة اتساع الشقة بين نخبة مشدودة إلى الغرب ونخبة مكبلة بالماضي، نخبة مغتربة وأخرى منغلقة، نخبة تقرأ الماضي في المستقبل وأخرى تقرأ المستقبل في الماضي، نخبة تملك قوة المال وأخرى لا تملك سوى قوة "الغلو" في الدين والتطرف فيه وباسمه. - وهناك من جهة ثانية غياب التنسيق الجاد، والتضامن المتواصل والتكامل المتنامي، بين الأقطار العربية. والحاجة إلى التنسيق والتضامن والتكامل لم تعد قضية ترف إيديولوجي، بل هي اليوم، في عالم العولمة، ضرورة وجودية. إن "الكتلة الإقليمية العربية" هي كتلة تاريخية ضرورية بمعنيين: فمن جهة هي ضرورية لتغلب الدولة القطرية العربية على مشاكلها الخاصة، وهي أيضاً ضرورية لوقوف "العالم العربي" في وجه المنافسة والهيمنة داخل العولمة. - ومن جهة ثالثة ليست في أي قطر عربي قوة مهيمنة، هيمنة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، قادرة موضوعياً وذاتياً على "النيابة" عن الباقي في تحقيق التنمية والتقدم. إن شرط الاشتراكية كان هيمنة الطبقة العاملة، وشرط الليبرالية هو هيمنة الطبقة الرأسمالية. وحيثما تغيب إمكانية هيمنة هذه الطبقة أو تلك تصبح إمكانية تعميم مشروعها الإيديولوجي حلماً مستحيل التحقيق. والنتيجة أن الكتلة التاريخية التي تؤجل فيها المشاريع الإيديولوجية الفئوية الطبقية لفائدة المصلحة الوطنية، مصلحة الجميع، هي المخرج الوحيد في نظرنا من الوضع الذي يسود المنطقة العربية حالياً: وضع التفتت والحيرة وغياب أي مشروع للمستقبل. إن الليبرالية، الجديدة والقديمة على السواء، ليست - بسبب من طبيعتها ذاتها- مشروعاً للمستقبل، بل هي دوماً "مشروع الحاضر". ومن المؤكد أن ميولها وتوجهاتها ستتغير بمجرد ما تلمس أن الحاضر آخذ في التغير. أليست تقوم فلسفياً على مذهب التجريبية empirisme، وأخلاقياً على مذهب المنفعة pragmatism؟ واليوم، ولم يمر على هذه المقالة سوى ما يقرب من ثماني سنوات، لا غير، نرى بأم أعيننا ما آلَ إليه شأن "الليبرالية الجديدة"، أعني ما يعاني منه العالم أجمع مما أطلق عليه أولا اسم "الأزمة المالية العالمية"، ولا يتردد كبار الاقتصاديين الآن في وصف ما حدث ويحدث بأنه أزمة بنيوية في النظام الرأسمالي في مرحلته الأعلى، مرحلة الليبرالية الجديدة. واليوم وقد وقعت الليبرالية الجديدة في أزمة خانقة، يجدر بنا أيضاً أن نعود فنذكر قراءنا بأننا كنا قد انطلقنا في هذه السلسلة من المقالات بواحدة كان عنوانها "مؤتمرات القمة العربية... والواقع العربي"، نشرت في هذا المكان بتاريخ 08-04-2008، تعقيباً على مؤتمر القمة العربي المنعقد آنذاك في دمشق. وتشاء المصادفة أن تأتي خاتمة هذه السلسلة مع انعقاد "مؤتمر القمة العربية" في الدوحة! وإذا كان عنوان المقال الذي انطقنا به يحمل إشارة واضحة إلى ارتباط الواقع العربي بمؤتمرات القمة العربية، فإن الواقع الراهن هذه الأيام يربط مؤتمر القمة العربية الحالي، ليس فقط بالأزمة المالية العالمية وبنيتها الاقتصادية، بل أيضاً بانهيار "الليبرالية الجديدة" التي لم تترك على السطح غير "أنانية الغني" ونقيضها "أنانية الفقير"، وسط ضياع شبه تام لكل من الهوية والوطنية والقومية، تحت تأثير "التناقض بين خشونة البداوة ورقة الحضارة" حسب عبارة ابن خلدون. عن «الاتحاد» الإماراتية ففيما يدفع أوباما في اتجاه إقناع الآخرين بجدوى الأسلوب الأميركي ويحثهم على الاقتداء بخطة إنقاذ الاقتصاد من خلال ضخ أموال حكومية في دواليبه المتعطلة لتحفيز النمو وخلق الوظائف وتشجيع الاستهلاك، يرى قادة ألمانيا، وهي الدولة ذات الاقتصاد الأكبر في أوروبا، أن الخطة الأميركية طريق يصعب عليهم سلوكه، معبرين في الوقت نفسه عن عدم رغبتهم في تحمل ديون إضافية أو الإغداق على الاقتصاد. أما باقي الدول الأوروبية فهي مازالت منقسمة على نفسها ولم توحد بعد تصوراتها حول كيفية الخروج من الأزمة، وهذا ما يعني في حالة الاتحاد الأوروبي الذي يسعى إلى تحقيق الانسجام بين كافة الأعضاء أنه من غير المحتمل التوصل إلى قرارات فاعلة كتلك التي ينتظرها أوباما. وقد كانت لافتة في هذا الاتجاه تصريحات رئيس الاتحاد الأوروبي في دورته الحالية ورئيس وزراء جمهورية التشيك، 'ميريك توبولانيك'، التي أدان فيها مقترحات أوباما للنهوض بالاقتصاد ووصفها بأنها بمثابة 'الطريق إلى الجحيم'، فيما جاءت كلمات محافظ بنك إنجلترا أكثر دبلوماسية عندما قال إن بلاده لا تستطيع إقرار خطة جديدة للإنقاذ على الشاكلة الأمريكية. والحقيقة أن هناك أسباباً عديدة تحول دون اتباع ألمانيا وباقي الدول الأوروبية الطريق الذي اختطته أمريكا لنفسها والمتمثل في زيادة الإنفاق الحكومي لإعادة تحفيز الاقتصاد واستعادة الثقة إلى القطاع المالي المتعثر، فهم يعتبرون أن نظام الرعاية الذي توفره حكوماتهم بما يتضمنه من مساعدات البطالة وغيرها قادر على مواجهة تداعيات الركود، ما يجعل مسألة ضخ أموال إضافية في عجلة الاقتصاد غير ضرورية في الوقت الحالي. ويخشى الأوروبيون أيضاً من أن يؤدي الإسراف في الإنفاق إلى مفاقمة عجز الموازنات، كما يشتكي آخرون من أن الأزمة الحالية هي من صنع الولاياتالمتحدة ولا شأن لهم بإنقاذ الاقتصاد العالمي، وبالطبع يشكل الموقف الأوروبي عقبة حقيقية أمام أوباما الذي يسعى إلى إقناع شركائه بالعكس. وحتى لو اعترفت أمريكا بدورها في اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية وتفهمت الانتقادات الأوروبية سيكون على أوباما التعامل مع الكونغرس الذي لاشك أنه سيمتنع عن إقرار تدابير جديدة لو شعر بأن أمريكا تعمل بمفردها لإنقاذ الاقتصاد، ولا سيما أن مكاسب التحرك الأميركي تتعدى الحدود ويستفيد منها الآخرون. وقد رأينا كيف أن جزءاً من أموال برنامج الإنقاذ تستخدم لشراء البضائع الأجنبية ومنح القروض للشركات غير الأمريكية، وبالطبع لن يكون من السهل على أوباما تمرير ذلك سياسياً حتى لو كان مفيداً من الناحية الاقتصادية، إذ يحتاج أن يوضح للداخل كيف أن العالم أيضاً منخرط في عملية الإنقاذ، وبأن الحمل ليس ملقى فقط على كاهل الولاياتالمتحدة. لذا وتفادياً لأي إحراج مع الكونغرس، استمات سيد البيت الأبيض في حث الأوروبيين على تبني خطة إنقاذ شبيهة بتلك التي اعتُمدت في أمريكا، حيث دعا الأسبوع الماضي إلى ضرورة 'تحلي قادة مجموعة العشرين بالمسؤولية لاتخاذ خطوات جريئة وشاملة ومنسقة' تبدأ 'بتدابير سريعة لتحفيز النمو'. غير أن هذه التصريحات تنطوي على مخاطر كبيرة لأنه في حال عدم استجابة الأوروبيين لدعوات أوباما سيُحكم على القمة بالفشل، ولتجنب ذلك سيحرص قادة الدول المجتمعون على إصدار بيان يركز على العمل المشترك وتنسيق السياسات والتأكيد على ضرورة الاستمرار في مباحثات التجارة الحرة وغيرها من الأمور التي يمكن الاتفاق حولها دون ملامسة القضايا الخلافية. وفي هذا الإطار أيضاً يُتوقع من قادة الدول المجتمعة الاتفاق على زيادة التمويل للدول الفقيرة، وهي الخطوة المهمة المرتبطة بمصلحة الدول الغنية أكثر من أي دوافع خيرية ما دام الفقراء يستهلكون أيضاً. لكن ما أن تنتهي القمة التي تستمر يوماً واحداً حتى يعاود أوباما العمل على إقناع الأوروبيين بالإنفاق على الاقتصاد، وسيكرر الاتحاد الأوروبي تحفظه بدوره، إلا إذا تعمقت الأزمة الاقتصادية في أوروبا وتوسع الركود ما قد يقنع المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بالاستجابة لدعوات أوباما وإقرار المزيد من الإنفاق. وهكذا وفيما يخوض أوباما صراعاً مريراً مع الكونغرس لإقرار خطة الإنقاذ والتسويق لبرنامجه الاقتصادي في الداخل، سيعمل أثناء القمة على نقل حملته إلى المسرح العالمي ليكتشف ربما أن تفويضه الدولي لم يعد بذات القوة. (* ) كاتب ومحلل سياسي أمريكي عن «لوس أنجلوس تايمز»