كما سبق القول في المقال السابق، فإن معالجة اشكالية الأزمة الاقتصادية والمالية التي تجتاح العالم اليوم، ستؤدي إلى إعادة الاعتبار للسياسة بسبب استنجاد المكونات الاقتصادية بأدوات تدخل الدولة. هذا سيؤدي بالضرورة إلى انبعاث جديد للفكر الاشتراكي الديمقراطي. يجب أن نعترف بأن هذا الفكر قد واجه في الثلاثين سنة الاخيرة، صعوبات مؤكدة لحد أن البعض اعتبره سجين مأزق يحول دون تطوره بشكل يساير التغيرات التي يعرفها العالم، وذلك لاعتبارين اثنين: -الاعتبار الاول: غلبة التيار الليبرالي التي تأكدت سنة عن سنة منذ بداية الثمانينات، بل ربما منذ أواسط السبعينات، عندما انتهت مرحلة النمو المستمر التي دامت ثلاثين سنة (ماسمي بالثلاثين المجيدة). فالانكماش التضخمي الذي توّلد عن هذا الوضع إثر الصدمة الاولى للنفط (1973) وتفاقم الحجوزات الداخلية والخارجية للعديد من الدول، دفع بالمد الليبرالي بأن يبشر بسياسة جديدة، سياسة تقول بضرورة تقليص تدخل الدولة بترك المجال لفعل آلية المرونة في سوق العمل، بل والتخلي عن أدوات المراقبة والضبط في مجال النشاط البنكي والاسواق المالية واعطاء الاولوية للعرض (نظرية فريدمان ومدرسة شيكاغو) على حساب الطلب. ومما ساعد هذه الطفرة الليبرالية التطور التكنولوجي المعتمد على وسائل الاتصال التي أصبحت قاطرة للتنمية في البلدان المتطورة وبعدها في البلدان الاسيوية. -الاعتبار الثاني: يرتبط بانهيار النظام السوفيتي بسبب تصوره الذاتي المتمثل في اعتماد نظام الحزب الوحيد وهيمنة المنظومة العسكرية والمغالاة من الناحية الاقتصادية في اعتماد المركزية المؤطرة من طرف بيروقراطية لم تستطع ان تتكيف مع مستلزمات التباري الدولي والتطور التكنولوجي. إثر زوال الاتحاد السوفيتي واندماج أوربا الشرقية في المجموعة الاوربية وبروز نموذج جديد في الصين بتبنيها لمقتضيات اقتصاد السوق مع الحفاظ على مركزية الحزب الشيوعي الذي أصبح عمليا هو حامي المنظومة الاقتصادية الجديدة. بالرغم من هذه التحولات التي خلقت متاعب للفكر الاشتراكي، تمكنت العديد من الاحزاب الديمقراطية الاشتراكية في أوربا وفي أمريكا اللاتينية من تدبير شؤون بلدانها بعد فوزها في الانتخابات، خاصة منذ أواسط التسعينات إلى منتصف العقد الحالي، هذا الحضور في تدبير الشأن العام جعل الاشتراكيين الديمقراطيين يقبلون مقتضيات اقتصاد السوق وطنيا، وأكثر من ذلك في إطار عولمة تهم التجارة والمال والتكنولوجيا، محاولين في ذات الوقت ادخال اصلاحات تصحيحية على المنظومة الاقتصادية السائدة بالاهتمام بإعطاء عناية أكثر من اليمين للجوانب الاجتماعية (السكن، الصحة) بجانب الاهتمام بقضايا الثقافة والمساواة بين الجنسين وبكل ما يتصل بالحريات الفردية والجماعية، وفي السنوات الاخيرة بقضايا البيئة. ولقد حاولت بعض الاحزاب الاشتراكية في البلدان النامية، وما كان يسمى من قبل بالعالم الثالث، بمبادرات ذات طابع مذهبي ونضالي باتصال أحيانا بوضع سياسات تنموية. في هذا المجال، لابد أن نشير إلى العطاء الذي ارتبط بالتقرير الايديولوجي للمؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي سنة 1975، والذي ربط بكل وضوح تطور البلاد من خلال علاقة جدلية بين التحرير والديمقراطية والاشتراكية والتي أضيفت إليها اخيرا الحداثة. هذا الاختيار هو الذي أعطى الانطلاقة لتعميق النضال الديمقراطي وكرس مفهوم التعددية السياسية وساهم في بداية انفراج الجو السياسي وبعد ذلك إطلاق سراح المعتقلين وعودة المنفيين وفتح المجال للاصلاحات التي عرفتها البلاد منذ نهاية التسعينات. في الواقع، أن ما اعتبر مأزقا للفكر الاشتراكي ناتج عن ارتباط مفهوم الاشتراكية بالنموذج السوفيتي دون اعتبار انحرافاته، سواء السياسية أو الاقتصادية، والتي عرفت فشلا واضحا ليس فقط في الاتحاد السوفيتيي، بل كذلك في العديد من البلدان العربية والافريقية. هكذا اتضح أن الاشتراكية في الاصل هي امتداد للديمقراطية، سواء في المجال السياسي، أي الحد من هيمنة الاقلية أو في الحقل الاقتصادي، أي العمل على تحسين توزيع الدخل الوطني. والاشتراكية الديمقراطية هي التي تربط بوضوح حركية آليات السوق كمصدر للفعالية بحركية التوزيع المنصف كأداة لتحقيق التضامن والعدالة. الاشتراكية الديمقراطية تعني الحفاظ على الدولة لحماية الديمقراطية وللعناية بالموارد البشرية وإتاحة أكثر ما يمكن من الفرص لأكبر عدد ممكن من المواطنات والمواطنين، والاهتمام بقضايا المساواة في مفهومها الشامل بين النساء والرجال، بين المدن والقرى وبين الجهات والاهتمام كذلك بقضايا البيئة باعتبارها ملك المجموعة البشرية في الحاضر والمستقبل. الاشتراكية الديمقراطية تعني في العالم المعولم اليوم حماية البلدان الفقيرة وإعطاء الاعتبار لقضايا التنمية في العلاقات بين الدول، ليس فقط بين الشمال والجنوب، بل حتى بين بلدان الجنوب، حيث تتسع موشرات التناقض. في هذا الإطار ستعطي الأزمة الحالية فرصة للاشتراكيين الديمقراطيين لإغناء تراثهم النظري، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين السوق والدولة، والعلاقات بين الدول والمجموعات. فإذا كان الليبراليون بتحمسون اليوم لتدخل الدولة ويستنجدون بها لإنقاذ المنظومة التحويلية من مخاطر الافلاس ولحماية المنظومة الانتاجية من الانكماش، بل حتى من الانهيار، فإن على التوجه الاشتراكي الديمقراطي أن يبتكر المفاهيم وأدوات العمل الضرورية لجعل الدولة قادرة على تفعيل تدخلاتها وتكييفها مع مستلزمات العولمة والتطور التكنولوجي، وسيكون عليه أن يكون حاضرا في إبداع وسائل الخروج من الأزمة، وفي ذات الوقت تهييء المستضعفين دولا وقطاعات وفئات ليتمكنوا من التأقلم مع التحولات الكبيرة التي سيعرفها العالم ما بعد الأزمة. في أواسط التسعينات كانت الأممية الاشتراكية قد احدثت لجنة تفكير في العلاقة بين الاشتراكية والعولمة، ترأسها فلبي كونزاليس رئيس الحكومة الإسبانية السابق، وشارك فيها كاتب هذا المقال، إلى جانب آخرين مثل مارتين أوبري، الكاتبة الأولى للحزب الاشتراكي الفرنسي. واليوم سيكون على الفكر الاشتراكي الديمقراطي في إطار الأممية الاشتراكية وعلى مستوى الأحزاب، أن يقوم باجتهادات جديدة تأخذ في الاعتبار الأزمة الحالية و تداعياتها. مواجهة الانفصال مغاربيا بين الأمس واليوم أنطلق هنا من ملف قضيتنا الوطنية بعد الندوة الصحفية التي نظمها المسؤولون الحكوميون المكلفون بمتابعة تطورات هذا الملف، حيث اعطوا التوضيحات الضرورية بعد تعيين المساعد الجديد للأمين العام للأمم المتحدة المكلف بمصاحبة المحادثات بين مختلف الأطراف. أرجع لهذا الموضوع من زاوية أدبية أولا، حيث أرجو من المتخصصين في الآداب أن يقرأوا من جديد الرواية الجميلة «الصحراء» للكاتب الفرنسي لوكلزيو الحاصل على جائزة نوبل للآداب لهذه السنة. هذا النص يمكن أن يعتبر منفذا أدبيا لتأكيد مغربية الصحراء من الداخلة الى العيون الى السمارة مدينة الشيخ ماء العينين. لغة هذا النص تشكل دليلا واضحا على العلاقة العميقة والقوية بين هذا الفضاء الصحراوي المغربي والمغرب في كليته من مدن الصحراء المذكورة إلى تزنيت، الى مراكش، وإلى فاس عبر الروابط الثقافية والتاريخية المتجذرة. وأعود لهذا الموضوع من زاوية تاريخية ثانيا، تتعلق بالذكرى الخمسينية لمحاولة فرنسا تأسيس ماسمي ما بين 1958 و1959 بالمنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية. لقد حاولت فرنسا من خلال هذا المشروع جمع كل المناطق الصحراوية في كيان موحد وفصل الصحراء الوسطى عن الجزائر. كان ذلك بعد اكتشاف النفط والغاز بهذه المناطق في خضم حرب التحرير الجزائرية. وطبعا قاومت الثورة الجزائرية عن حق هذا المشروع الانفصالي، ورفضه المغرب معها (في اتصال معروف بين بوتنيدو مدير ديوان الجنرال دوكول آنذاك، وعبد الرحيم بوعبيد وزير الاقتصاد والمالية)ّ. فالمغرب لم يكن بجانب الجزائر رسميا وشعبيا في ثورتها من أجل التحرير فقط، بل قاوم كذلك بقوة كل مشروع يستهدف تقسيم الجزائر وفصل صحرائها عنها.وأرجع للندوة الصحفية وإلى أحد الجوانب التي ظهرت فيها، ويتعلق الأمر بإدعاء البوليساريو ومسانديه بأن المغرب يستغل اقتصاديا خيرات الصحراء المسترجعة. فالمغرب في كليته، ومنذ استرجاع الصحراء، وظف اعتمادات ضخمة في هذه المناطق العزيزة من خلال مجهود كبير همّ الصحراء والبنيات التحتية والتجهيزات الاجتماعية الأساسية، وهو عمل أدى إلى انشاء أنوية محترمة للانتاج في مجال الصيد البحري وبعض الصناعات واستخراج فوسفاط بوكراع. رغم ما تتحمله ميزانية الدولة من تكاليف خاصة في قطاع الفوسفاط. ومع ذلك لن ندخل في مقاربة حسابية بالنسبة لملف الصحراء المغربية. فكل هذه التكاليف هي جزء من كلفة الدفاع عن الذات والثوابت، ونتائجها ستكون مهمة في المستقبل،طبعا لصالح هذه الأقاليم الصحراوية و لصالح المغرب، ولصالح المغرب العربي في كليته. سيكون من المفيد للمتتبعين لهذا الموضوع، الرجوع إلى ندوة كانت جمعية الاقتصاديين المغاربة قد نظمتها في يناير 1984 وجمعت أشغالها في كتاب حول «الاندماج الاقتصادي للأقاليم الصحراوية والتنمية الوطنية». إن ماكسبناه بالطبع منذ استرجاع هذه الأقاليم مرتبط بترسيخ الثوابت وصيانة الكيان والدفاع عن الذات. وان مواجهة الانفصال هي جزء من كل ذلك. هذا ما نريد قوله لإخواننا الجزائريين لنذكرهم بمخاطر الانفصال التي كانت تهدد ثورتهم التحريرية منذ خمسين سنة، ونذكرهم بما قاموا به وما قمنا به إلى جانبهم لمواجهة المشروع الاستعماري. واليوم، خمسون سنة بعد مؤتمر طنجة، وبعد المشروع الانفصالي الاستعماري يجب أن نتصالح. هذا ما يريده المغرب وهو يقترح مشروع الحكم الذاتي باعتباره أحد المحاور الأساسية لهذه المصالحة داخليا وعلى المستوى المغاربي. لنرجع الآن إلى الأزمة الاقتصادية والمالية التي يبحث العالم عن سبل الخروج منها. ونرجو أن نلتقي نحن المغاربيون لتكون منطقتنا حاضرة في تدبير ومعالجة ما بعد الأزمة. هذا الحضور لا يمكن ضمانه إلا إذا انخرطنا من جديد في تعاون حقيقي وتخلينا عن ثقافة الانفصال والتقزيم من أجل بناء فضاء التضامن والتآزر.