بعد أن احتضنه «موريس نادو»، الذي كان أول من نشر له في فرنسا، ثم «رولاند بارطيز» و«جاك ديريدا» في ما بعد، يقدم عبد الكبير الخطيبي نفسه على أنه «غريب خبير». في سن السبعين، يقوم هذا الكاتب المغربي، الذي رأى النور بمدينة الجديدة في الحادي عشر من فبراير 1938، بإعادة نشر أكثر مؤلفاته أهمية وتصنيفها ضمن ثلاثة أجزاء حسب أجناسها الأدبية. قصائده هي النصوص الوحيدة التي تم إرفاقها بملحوظة تقول: هذا ليس شعرا، باستثناء المجموعة الأولى التي تم نشرها لأول مرة قبل ثلاثين عاما، بل هي بالأحرى انعكاس للشكل والسلوك الشعريين بخصوص سؤال الحب ومفهومه المتعدد. « المحبة : علاقة تسامح محققة، هي القدرة على العيش سوية، بين الأشخاص، والحساسيات، والأفكار، والأديان، والثقافات المتعددة». مؤلَف متعدد الأشكال، غير أنه متجانس، لأن ما يسود فيه تيمات متناغمة هي تيمات التغيير، والهوية، والنقد العقلاني للإسلام، وروحانية الإشارة، وميتافيزيقية الحب، والحياة التي يُنظر إليها على أنها تحول أولي، والحضور الدائم للموتى. وبالنظر إلى تكوينه كفيلسوف وعالم اجتماع، فإن مما لا شك فيه أن عبد الكبير الخطيبي يجد نفسه في التنظير السياسي أو الأدبي أكثر مما لو كان الأمر متعلقا بالمجال الإبداعي الصرف. أما الجنس الروائي فقد كان، رغم التجميع الذي يقترحه ناشره هنا، قليلا ما يتناوله هو نفسه، لأن «روايته» الأولى تعتبر في حقيقة الأمر سيرة ذاتية فكرية، بنغمة شعرية مستوحاة على نحو مميز. تحكي «الذاكرة الموشومة»، التي تم نشرها ضمن مجموعة «الرسائل الجديدة» لدى «دونويل» سنة 1971، سفر مغربي بالجديدة، والصويرة، ومراكش، والرباط، وباريس، ولندن. وتعلم ذلك «التغيير» الذي سيترك لمسته على مستقبل الكاتب، كما كتب ذلك في ما بعد: «إنه لغز انفصال جماعي وضروري ضد اللاتسامح واللاكرامة، ضد التخريب الذي لا يراعي الإنسان وما وراء الإنسان». عندما كان كاتبا يافعا، وهو لا يتجاوزه ربيعه الثاني عشر، بعث إلى الإذاعة وإلى الجرائد بقصائد باللغتين العربية والفرنسية «بعد تأثره الكبير بالكاتب بودلير » تمخض عنه إعجاب بلا حدود، استغله عبد الكبير من خلال إتقانه العربية والفرنسية ووعيه المتنير بخصائص كلتا اللغتين، وكتابتهما، ووظائفهما السيميولوجية المتنوعة. مما قربه أكثر من «ديريدا» و«بارطيز» الذي كتب يقول «يجمعنا الاهتمام بنفس الأمور، بالصور، بالإشارات، بالآثار، بالحروف ولاعلامات». لكن عند الكتابة بالفرنسية، فإنه يتطرق أيضا للمشكل الكبير الذي يعرفه أدب مستعمَر يسعى للانعتاق. كيف يمكن التعبير عن الثقافة العربية بلغة المستعمِر؟ سؤال يطرحه العديد من الكتاب المغاربيين المنتمين إلى جيله. وفي علاقة غير واضحة الملامح مع العدو، «في وقت الإستقلال، بدا الفرنسيون الذين استعمرونا، كما تقول والدتي، كالأطفال الذين تم فصلهم عن ثدي أمهم. وذلك الفصل هو الوحيد الذي كان بإمكانه تفسير جنون المعتدين علينا». وشيئا فشيئا، بدأت كتابات الخطيبي تتخذ شكل سرد تقليدي سيما مع رواياته: «ستوكهولم»، «Triptyque de Rabat»، أو الرواية التاريخية لحج فنان عاشق. لكن بداياته كانت شعرية بامتياز، أو بالأحرى ما كان ينظر إليه على أنه غناء شعري، يصور من خلاله أحداثا عاشه في شبابه، وبالأخص انزعاجه من عنصرية الفرنسيين خلال حرب الجزائر، في متم سنوات الخمسينات من القرن الماضي، وكان حينها طالبا بجامعة السوربون. «هل كان لي، وأنا في بلد أجنبي، الحق في مشاهدة تقزز الآخر؟ وعندما لا يتحكم في كراهيته، فإنها تفككه. عانيت من كوني هدفا لكراهيته، وتمنيت نسيان الشتيمة، لكن اللعبة كانت مغرية». «كتاب الدماء»، الذي نشره «غاليمار» سنة 1979 والذي ربما يظل أكبر الإنتاجات الأديبية الخطيبي، الذي وجد فيه النغمة التي تجمع نثره الشعري، وإلهامه الكلاسيكي، وتجديده الأسلوبي في الجنسين معا. «حرر فيك طبيعة الطائر طبيعة كل الكائنات المستحيلة! حرر فينا جرح كونك مزدوجا: لن يُقدَم أي حيوان شرس ولا أية إشارة متوحشة قربانا تحت رحمتك.» وسيجتمع مرة أخرى بهذه اللمسة الأسطورية في آخر إنتاجاته «Féerie d un mutant» (2005). روحانية لائكية لكن خيار كتابة المقالات هو الذي يسمح بوضع قياس حقيقي لمستوى الإنتاج الأدبي: من خلال الحوار الذي يخلقه مع مؤلفين يقدرهم. يجمعهم هوس الخطاب، وروحانية لائكية، وتنظيم رمزي للعالم. لكن قبل خلق ذلك الحوار، متسائلا عن انتمائه للثقافة الإسلامية، فهو يعترض على كل تمظهر تقليداني، دون أن يتنكر للتقليد الثقافي الذي ينحدر منه، وكما كتب عن ذلك سنة 1988، فإن « التقليدانية ليست هي التقليد، بل هي منسيته. وباعتبارها كذلك، فإنها تحدد أنطولوجية هذه العقيدة: على رأسها إله ثابت والد، غير مرئي وغائب (...). والتقليدانية تقتات على كراهية الحياة، ثم تلتهم نفسها، وبتعاقب السنين، تغدو وحشا وشيطانا». عشرون عاما بعد ذلك، يصف الخطيبي نفسية الهجمات الانتحارية والإرهاب عموما في إطار تيمة «الإنسان القنبلة». وإذا كانت مقالاته تتضمن تطورات مثيرة حول الفن، والجسد، والأصولية، والمقدس، فإن تحليلاته في «Un captif amoureux» هي التي تبدو أكثر دقة. وبعد مرور بضعة أشهر على رحيل «جون جيني» سنة 1986، عمل الخطيبي على قراءة ونقد والتعمق في النظام الشعري للكاتب المتعاطف مع القضية الفلسطينية، وذلك من خلال تسليط الضوء على طبيعة مشروعه السياسي والأدبي. ليس ذاك فقط أحد أجمل نصوص الخطيبي، الذي خلق منه ما يشبه مرآة كاشفة، بل هو أيضا أحد أنصف الأعمال التي استلهمت «جيني»، «إنه كاتب الموت أو ملاك تحت رحمة شيخ هرم». ( عن «لوموند» الفرنسية - مارس 2008 )