لم يكد يمر الشهر الأول على تسلم إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما مقاليد الأمور بعد، ولم تتبلور مواقفه وسياساته الواضحة والقاطعة تجاه العديد من القضايا المركزية التي جعل منها برنامجه الانتخابي أولويات، حتى وجد نفسه الآن، مع إدارته، غارقين في تداعيات أزمة اقتصادية خانقة تزداد بشاعة وقسوة، لتفقد ملايين الأمريكيين وظائفهم وتدفع بالعجز الاقتصادي إلى مستويات غير مسبوقة قد تتجاوز تريليوناً ونصف تريليون دولار. وفي هذه الأثناء خاض أوباما صراعاً مع "الجمهوريين" في الكونجرس لتمرير حزمة التحفير الاقتصادي المليارية. وعلى رغم فرض الشأن الاقتصادي الداخلي نفسه على إدارة رئيس رفع طيلة حملته الانتخابية شعار "التغيير" في جميع المستويات، وعلى رغم التعثر في التعيينات مع استقالات مبكرة لشخصيات نافذة بسبب فضائح عدم دفع ضرائب مستحقة، فإن على إدارته أن تقاتل عى جبهتين اثنتين في الوقت نفسه، لتثبت قدرتها وكفاءتها وهي التي ورثت عبئاً وإرثاً ثقيلًا للغاية من إدارة بوش السابقة. هذا طبعاً دون إغفال تفاصيل ونثريات واهتمامات داخلية أمريكية أخرى لا تقل أولوية لتهدئة الجبهة الداخلية الشائكة والمعقدة التي ما زالت تنتظر من إصلاح النظام الصحي، وتوفير تأمين صحي لأكثر من 40 مليون أمريكي، ونظام التأمين الاجتماعي، وغيرها من الوعود الطموحة التي يبدو أن الأزمة الاقتصادية لن توفر المال المطلوب لتحقيقها بيسر وسهولة. غير أن هناك عدة أسباب تدعو للانتظار والمراوحة من إدارة أوباما قبل التعرف على استراتيجيتها وسياساتها الخارجية، وطريقة أدائها في مواجهة استمرار التطور المتلاحق للأوضاع الراهنة وديناميكيتها وتفاعلها. ومن ذلك عدم تبلور أو وضوح مواقفها حتى الآن وانهماكها في الاستماع وصياغة مواقف وسياسات حول العديد من القضايا لتأخذ وقتها للتعرف وتكوين التصورات قبل الإمساك بالملفات الصعبة والمعقدة العديدة. إن تفاعل واستمرار تطور بعض القضايا والمحاور المختلفة على المستوى الدولي وامتداداتها الإقليمية التي لا تزال قيد التبلور والتشكل، ستمثل تحدياً إضافياً مستمراً لإدارة أوباما دون شك، وآخرها إغلاق قيرغيزيا لقاعدة "ماناس" الجوية الاستراتيجية في ما يشبه صفعة روسية مبكرة للإدارة الأمريكيةالجديدة، على رغم اعتراف أميركا بأهمية تلك القاعدة لقواتها في أفغانستان. وهذا المؤشر أيضاً مما يؤكد الحاجة إلى الانتظار، والقراءة المتأنية للسياسات الأميركية قبل اعتمادها. وفي المقابل هناك التحديات والوعود والاستحقاقات الكبيرة التي وعد بها أوباما حول الكثير من القضايا الخارجية بملفاتها المتشعبة والمعقدة مثل طبيعة العلاقة مع روسيا والصين، والعلاقة مع الحلفاء الأوروبيين. وتبرز أزمة الصراع العربي/ الإسرائيلي وتحديات برنامج إيران النووي، واستحقاق الانسحاب من العراق، وتصاعد الحرب في أفغانستان، والوضع في باكستان، ومشاكل الاحتباس الحراري، كأولويات ضاغطة تفرض نفسها على إدارة أوباما التي تبدو كما لو كان محكوماً عليها بأن تقاتل مبكراً، وعلى جبهات لا حصر لها. وستولي إدارته، دون شك، أهمية وأولوية للانسحاب من العراق، بشكل خاص، في مقابل رفع الجاهزية والتعبئة لمواجهة مستنقع أفغانستان لتطويق خطر "القاعدة" و"طالبان". وتأتي ضرورة إعطاء عملية السلام بين العرب وإسرائيل أولوية إضافية الآن بعد أن أصيبت بمقتل بفوز الأحزاب اليمينية المتطرفة في انتخابات "الكنيست" التي نسفت فرص السلام. وقد يبدو للبعض الاكتفاء الآن بإرسال المبعوثين جورج ميتشل للمنطقة، وريتشارد هولبروك لباكستانوأفغانستان، وبدايتهما بمجرد زيارات استماع وإنصات واطلاع، بدون الكشف عن استراتيجية متكاملة، أو ممارسة ضغط على الطرف المعتدي، أي إسرائيل، كما لو كان إهداراً للوقت وإضاعة للفرص. وهناك الوعد بفتح نافذة حوار مع إيران. ولكن إدارة أوباما من خلال التصريحات والتهديدات لا تزال تضع شروطاً لذلك منها وقف تخصيب اليورانيوم، ووقف دعم ما تصنفه أميركا منظمات إرهابية مثل "حزب الله" و"حماس". وفي ذلك لا يبدو أن هناك تغييراً قريباً تجاه إيران، بل الأرجح هو استمرار مقاربة سياسة العصا والجزرة. وطبعاً لا تظهر إدارة أوباما تغييراً كذلك الذي يريد رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني في حديثه عن إمكانية الانتقال من جولات ملاكمة إلى جولات شطرنج، بين الطرفين. وكل هذه الضغوط في الموقف على جبهة الملف الإيراني لا تخلو من دلالة الآن قبل استحقاق الرئاسة الإيرانية في الصيف القادم، مع آمال أن يفوز المعتدل خاتمي. وهناك إعادة ترتيب العلاقات مع روسيا التي ستحتل أولوية واضحة عند إدارة أوباما أيضاً، ولكن يبدو الحديث عن التغيير معها إلى حد الآن شكلياً أكثر منه جذرياً، مع عدم الوعد بشكل حاسم بوقف نشر برنامج الدرع الصاروخية وشبكات الرادارات في أوروبا الشرقية، وكذلك رفض إدارة أوباما قطع وعد لروسيا برفض ضم أوكرانيا وجورجيا ووقف توسع حلف "الناتو" إلى مناطق نفوذ موسكو المعهودة. وكل ذلك لاشك أنه ما زال يزعج روسيا التي تسعى لفرض حضورها في مناطق نفوذها الاستراتيجية التقليدية، خاصة بعد نقلة، أو جولة الشطرنج الروسية بإقناع قيرغيزيا بطرد الأميركيين من قاعدة "ماناس". وفي المجمل فقد يكون مبكراً الآن الحكم على توجهات إدارة أوباما، ولكن ما رشح من مواقف وتصريحات للرئيس، ونائبه بايدن في مؤتمر ميونيخ للأمن، وتصريحات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، وجولات المبعوثين ميتشل وهولبروك الاستماعية، كلها مؤشرات واضحة على تبني نوع من سياسة المراوحة والانتظار سيصبغ مواقف الإدارة خلال المدة القريبة القادمة. إنها إذن مرحلة مواجهات في جولات شطرنج عديدة ستطغى عليها المراوحة والاستماع لبلورة مواقف وسياسات انتظاراً لاستحقاقات عديدة لا تملك إدارة أوباما الكثير من القدرة على التأثير في صياغتها، ابتداءً من مخاض الحكومة الإسرائيلية القادمة ومدى تطرفها، إلى المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية ومدى واقعيتها. ومن انتخابات الرئاسة الإيرانية إلى التحرك الروسي والموقف الصيني. وصولاً -وهذا هو مربط الفرس- لكيفية إدارته للوضع الاقتصادي الخانق، وطريقة استجابته لسياسات مواجهة الكساد الكبير في الداخل الأميركي المحبط وتداعياته الخطيرة على جميع الأصعدة. (*) كاتب كويتي