رحم الله القائد الشهيد صلاح خلف (أبو إياد)، الذي لا يمكن لأي فلسطيني أو عربي انخرط في مسيرة الكفاح الفلسطيني أو كانت له علاقة ما بها ولو عن طريق المتابعة، أن ينساه لألف سبب وسبب ، ويبدو أن الوقت قد حان لتوثيق السجل النضالي لكل أبناء الثورة الفلسطينية وفي مقدمتهم القادة الأفذاذ أمثال الشهيد القائد أبو إياد. عرفته شخصيا في عام 1970، وترسخ في عقلي ومخيلتي عندما كان يتحدث عن أهداف الثورة ووسائل النضال ، مركزا على معنى اعتبره أساسيا ، وهو أن البندقية التي لا تكون في خدمة هدف سياسي تكون (قاطعة طريق)، مستعرضا تجارب عديدة في مسيرة الثورات الفلسطينية المتعاقبة وكذا الثورات العالمية . وأذكر أنه وفي نفس اللقاء تحدث القائد الشهيد كمال عدوان مركزا على أن الثورة جهد انساني متكامل ، للرصاصة دور وللكلمة دور وللنغمة والريشة والدبلوماسية دور ،وهي كلها أدوار تكمل بعضها البعض دون أن يلغي أحدها الأخر،وإنما قد يتقدمه أو يترافق معه في ظروف معينة. هذه الذكرى تدفعني للحديث عما نسمعه هذه الأيام من موشحات النصر الذي يقال إنه تحقق في أعقاب العدوان الذي تعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة طيلة ثلاث وعشرين يوما ، والذي يقول البعض انه الحلقة الثالثة في مسلسل هزائم العدو الصهيوني ، عندما انهزم وانسحب من قطاع غزة عام 2005 وعندما انهزم في جنوب لبنان عام 2007. فماذا يعني الانتصار؟ وكيف يتم الانتصار؟ انه يعني كما علمنا القائد الشهيد ابو اياد تحقيق الهدف الذي جرى القتال من أجل تحقيقه . ويتم، كما علمنا القائد الشهيد كمال عدوان، باستخدام الوسيلة أو الوسائل المناسبة للزمن الذي وقع فيه. ولدى العودة إلى ما وقع في قطاع غزة نجد أنه لا يمكن تسميته حربا أو معركة ، لأن الحرب أو المعركة تستلزم وقوع قتال بين جيشين أو قوتين تصطدمان أو على طريقة الكر والفر ، وينتهي اصطدامهما باستسلام أحدهما وانتصار الآخر، أو بتكافؤ هما فتلتقيان على طاولة المفاوضات ليطرح كل منهما شروطه ومطالبه ويتفقان على حل معين ، أو يتدخل المجتمع الدولي أو طرف منه فيفرض وقفا للقتل وبدءا للتفاوض من أجل الوصول إلى حل معين . ما وقع في قطاع غزة هو عدوان من قبل الكيان الصهيوني بكل أنواع الأسلحة المعروفة وغير المعروفة، برا وبحرا وجوا، صواريخ ومدفعية ودبابات، أسلحة تقليدية وذات الدمار الشامل.. كل ذلك في مواجهة شعب أعزل أنهكه حصار ظالم خانق منذ سنين ، في رقعة ضيقة من الأرض لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومترا مربعا بالكاد تتسع لسكانها البالغ عددهم قرابة المليون ونصف ، بعض أبنائه يحملون أسلحة فردية تدفعهم الحمية الوطنية أو الدينية لبذل أي جهد لصد العدوان، جهد لا يتعدى قدرتي أنا الشخصية على مواجهة الملاكم الأسطوري محمد علي كلاي في أيام عنفوانه وقوته. هذا العدوان الذي لأسباب خاصة ارتآها المعتدون لم يصل إلى عمق ومركز قطاع غزة، حيث الكثافة السكانية واحتمال تكبده خسائر بشرية ومادية هو في غنى عنها ،توقف بمبادرة فردية منه ولأسباب وظروف قدرها هو . وما دام الذي وقع في قطاع غزة لم يكن حربا بالمعنى المتعارف عليه وكما أسلفنا ، فلا يمكن اذن الحديث عن انتصار بالمعنى الذي حدده علماء الإستراتيجية أو فقهاء الحرب. فالصهاينة الذين رفعوا أصابعهم بعلامات النصر وهم منسحبون من قطاع غزة ليسوا منتصرين في معركة مواجهة، لأن طائراتهم وبوارجهم ودباباتهم لم تواجه جبهة مقاتلة واشتبكت معها وانتصرت عليها. فهل قتل الأطفال والنساء وعموم المدنيين العزل هو الانتصار؟ وهل تهديم البيوت والمدارس والمساجد والمستشفيات الحكومية وكل البنيات التحتية في قطاع غزة هو الانتصار؟ قد يكونون انتصروا إذا استطاعوا أن يضمنوا استمرار التهدئة التي اتفقوا عليها مع حركة حماس ، لأنهم بذلك يكونون قد حققوا هدفهم من الحرب والمتمثل في حماية مستوطناتهم الجنوبية من صواريخ حماس وفصائل المقاومة الأخرى، رغم محدودية تأثيرها . وحركة حماس التي نظمت مسيرة بعد وقف إطلاق النار الذي أعلنته إسرائيل من جانب واحد، احتفالا بالنصر، ليس من حقها الادعاء بالنصر لأنها لم تقاتل وتصمد وتنتصر. نعم حدثت حالات قتال محدودة جدا، يكشف حقيقة محدوديتها حجم الإصابات في صفوف المقاتلين الذين استشهدوا فيها ( مع العلم أن شهداء فتح والفصائل الفلسطينية أضعاف شهداء حركة حماس). ليس من حق حماس الادعاء بالنصر، حيث لم نر ما كانت تهدد به قبل بدء العدوان من وجود عشرين ألف مقاتل تحت السلاح ينتظرون ساعة الصفر، ولم نر ما كانت تتباهى به من (القنابل البشرية الموقوتة) اللابسين أكفانهم ليتفجروا بدبابات الاحتلال أو في قلب القدس وتل أبيب. وإذا كان هناك من نصر، فإنه النصر الذي صنعته جماهير الشعب الفلسطيني بصمودها واستمرارها رافعة رأسها رغم كل الجحيم الذي تعرضت له ، دون أن تئن أو ترضخ. وكيف يمكن الحديث عن الانتصار ونحن نرى نتائج العدوان المتمثلة في : - سقوط أكثر من سبعة آلاف شهيد وجريح فلسطيني في منازلهم ومؤسساتهم وفي الأزقة والشوارع والساحات، لا يعرفون لماذا يسقطون ولا ماذا يفعلون. - تهديم عشرين ألف منزل كليا أو جزئيا وكل المؤسسات الرسمية المدنية والعسكرية و84 مدرسة والعديد من المساجد والمستشفيات وكل البنية التحتية في قطاع غزة . - سقوط عشرة قتلى فقط من الإسرائيليين ، باعتراف إسرائيل ، أو ثمانين قتيلا حسب قول الناطقين باسم حماس، في مقابل 48 مقاتلا شهيدا اعترفت بهم حماس. - تعزيز الانقسام القائم بين الضفة الغربية وقطاع غزة، مما يهدد بإقبار المشروع الوطني الفلسطيني الهادف إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة في حرب 1967 وعاصمتها القدس الشريف( مع تصاعد و تكرار تعابير شعب غزة و دولة غزة). - تعزيز مقولة قادة كالكيان الصهيوني بأنه ليس هناك طرف فلسطيني ليكون شريكا في عملية السلام. - تعزيز الوضع القائم المتمثل باحتلال قطاع غزة، ذلك بأن الاحتلال في العمل العسكري هو تمكن المحتل من التحكم بحياة ومعيشة وحركة الطرف الخاضع للاحتلال. وهذا ما هو واقع فعليا في قطاع غزة، يضاف إليه هدنة مدتها سنة كاملة، تنعم فيها كالمستعمرات الصهيونية الجنوبية بالأمان وتستمر إسرائيل في سياستها الاستيطانية وإقامة جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية. نستطيع أن نجزم بأن هذه النتائج كان مخططا لها قبل بدء كالعدوان بكثير، ولم يكن الهدف هو إنهاء وجود حركة حماس، ذلك انه وقبل بدء العدوان كتب الكثير من المفكرين والمحللين الصهاينة يدعون إلى فتح حوار مع حركة حماس ولو على حساب الرئيس أبو مازن والسلطة الوطنية الفلسطينية ، وكتب الكثيرون منهم أثناء العدوان مطالبين بعدم القضاء على قوة حماس والاكتفاء بتقليم أظافرها فقط، لأن لها أدوارا مازال بإمكانها أن تلعبها . ولعل من آخر هذه الأدوار إعلان الشيخ خالد مشعل من قلب عاصمة النضال والثورة والتقدمية التي تحتضن أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط تختزن الفسفور الأبيض الذي سقط به آلاف الشهداء والجرحى الفلسطينيين ، يعلن منها دعوته إلى إسقاط منظمة التحرير الفلسطينية وخلق مرجعية بديلة لها و هي نفس الدعوة التي سبق إعلانها في عام 1983 من قبل أحد الأنظمة العربية(الثورية) و أفشلها تمسك الفصائل الفلسطينية بمنظمة التحرير. هذه الدعوة التي لسنا بحاجة الى كثير من الجهد للرد عليها.. هذا دون أن ننسى أن هذا (المشعل) هو نفسه الذي صرح لصحفي فرنسي (كنا نتوقع أن يكون الرد الإسرائيلي فقط ليومين أو ثلاثة ولم نكن نتوقع حجم هذا الدمار) فدفع بشعبه إلى أتون تلك المحرقة لسوء توقعه، مع ذلك لا يزال قائدا بل ويزداد انتفاخا وافتخارا وعجرفة . ويكفي القول أن منظمة التحرير الفلسطينية هي بمثابة البيت المعنوي لكل الشعب الفلسطيني ، وحاضنة كل فصائل العمل الوطني الفلسطيني( غير مستجدة على النضال الفلسطيني) ، وهي التي نقلت الشعب الفلسطيني من طوابير على أبواب مراكز وكالة غوث اللاجئين الدولية إلى صفوف من المقاتلين في قواعد الثورة ، وحولت القضية الفلسطينية من قضية أناس مشردين يحتاجون للغذاء والمسكن إلى قضية شعب مناضل له حقوقه الوطنية ، وأجبرت المجتمع الدولي على الاعتراف بهذه الحقوق الوطنية وعلى إعطاء صفة العضوية المراقبة لها كحركة تحرر وطني، ولأول مرة في تاريخ هيئة الأممالمتحدة ، ووصل عدد الدول المعترفة بها أكثر من ضعف عدد الدول المعترفة بالكيان الصهيوني . قد تكون هذه بداية الأدوار، ولن نستبق الأحداث لنتحدث عن زيارة الشيخ خالد مشعل لطهران وغيرها من الأدوار المنتظرة .مع علمنا أن أصحاب هذه الأدوار قادرون جدا على إصدار الفتاوى (الشرعية) لتبرير أو إجازة أي شيء حتى ولو تجاوز كل الخطوط الحمراء الشرعية أو الوطنية، وهم قادرون على تغيير مواقفهم ببساطة متناهية كما فعلوا عندما رفضوا رفع الحصار وفتح المعابر مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي المختطف جلعاد شاليط في بداية العدوان وإعلانهم يوم 30 يناير أي- بعد توقف العدوان - عن التوقيع على اتفاق التهدئة مقابل رفع الحصار وفتح المعابر ، وكأن تمتيع الصهاينة بسنة كاملة من الهدوء أقل أهمية عند الصهاينة من حياة جندي واحد . وكما فعل الشيخ إسماعيل هنية عندما أعلن في الأيام الأولى للعدوان (أننا مع أية مبادرة تهدئة تحصل) لكنه بعد أن أعلن الشيخ خالد مشعل في دمشق بنفس اليوم (قرار الصمود مهما كان الثمن) ، عاد و أعلن ( أننا لن نتراجع حتى لو أبيدت غزة).