خمسة عشر يوما مرت على بدء آخر نسخة من المجازر الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، والتي تتركز هذه المرة في قطاع غزة. لسنا بحاجة لوصف المجزرة، لان التغطية الإعلامية - رغم كل ملاحظاتنا عليها - جعلت الغالبية العظمى من الجماهير العربية تعرف الكثير من تفاصيل المعركة وتهتريء أعصابها من هول وكثرة ما شاهدت، ولكننا نجد أنفسنا مضطرين للتوقف عند بعض المحطات التي نرى أن بعض اللبس يلفها بسبب ما خالطها من طروحات متضاربة: أولا: إسرائيل لا تبحث عن مبررات .. القاعدة الأساس في النظرية والنظرة الصهيونية إلى الشعب الفلسطيني هي أن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، أي أن كل فلسطيني مطلوب القضاء عليه , لان وجوده نقيض لما يسمى «الشعب الإسرائيلي» وعلى ذلك فإن الكيان الصهيوني لم يكن بحاجة لمبررات لاقتراف مجزرة غزة كما أن القول بان الخلافات الداخلية الفلسطينية أعطت الفرصة للصهاينة لاقتراف ما اقترفوه, قول مرفوض لان الصهاينة اقترفوا عشرات المجازر ضد الشعب الفلسطيني حتى وهو في قمة وحدته الوطنية كما أن القول بان الفرقة الفلسطينية تحول دون دعم القضية الفلسطينية أو تقلل منه, مرفوض أيضا لان من يستنكف عن دعم القضية الفلسطينية الآن كان يستنكف عن دعمها والفلسطينيون في أوج وحدتهم الوطنية هذا مع تأكيدنا بان الوحدة الوطنية الفلسطينية مطلب فلسطيني وعربي وإسلامي , وأن وجودها كان سيجعل وقع المجزرة وخسائرها أقل, وخسائر العدو أكثر والأمر المفرح في هذه الأيام العصيبة أن مقاتلي كل الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة يقاتلون جنبا إلى جنب, ونأمل أن تتطور هذه الوحدة القتالية الميدانية إلى وحدة وطنية كاملة. ثانيا : بين التجاذب والتكاذب.. عندما يلتقي المثقفون وحتى البسطاء في كل أقطار وطننا العربي, يتحدثون بألم عن واقع الأنظمة العربية ويصلون إلى حد القول بأن لا خير يرتجى من هذه الأنظمة، ومع ذلك سرعان ما نجدهم ينسون ما قالوه عند حدوث أي أزمة في أي قطر عربي ويبدؤون بالصراخ: «على الأنظمة العربية أن تفعل وان تفعل...الخ». وعندما نتعمق في مواقف مختلف الأنظمة العربية , نجد أنها تتفاوت فقط في حدة النبرة عند الإدلاء بالتصريحات أو الخطب, أي أن التقصير يلفهم جميعا من نواكشوط إلى مسقط, مع تفاوت بسيط يتعلق بالإمكانيات المادية أو القو ة العسكرية أو القرب الجغرافي من فلسطين ومع ذلك نجد العديد ممن تطلق عليهم القنوات الفضائية العربية: خبراء أو مختصون أو مفكرون أو محللون، يكرسون كل وقتهم وقدراتهم لشتم هذا الرئيس أو ذاك وفي الغالب من غير رؤسائهم، وكأن غيره تقوم طائراته ودباباته بقصف تل أبيب. وإذا عدنا إلى بداية مأساة فلسطين، نجد أنها كانت دائما محط تجاذب بين الحكام العرب: عبد الله ملك الأردن وفاروق ملك مصر، عبد الكريم قاسم حاكم العراق والرئيس جمال عبد الناصر في مصر، وملوك السعودية، صدام حسين وحافظ الأسد، معمر القذافي و أنور السادات... الخ. وفي يقيني أن هذا «التجاذب» كان أقرب إلى «التكاذب»، لأن كل حاكم عربي كان يريد أن تبقى فلسطين ورقة في جيبه لاستخدامها داخليا أو خارجيا وقتما يشاء, لا أكثر ولا أقل نقول هذا دون أن ننسى محاولات التجاذب والتكاذب من الدول غير العربية في المنطقة. ولماذا حفلات الشتائم الدائمة هذه؟ ألا ينطبق على هؤلاء الشتامين أو الرداحين مقولة: « أشبعتهم سبا وفازوا بالإبل»؟ أو ليس هناك وسائل أخرى للضغط على الحكام العرب لاتخاذ مواقف أفضل؟ ثالثا :الإعلام العربي بين الفرجة والنضال .. المعروف علميا أن الإعلام المعتمد على الصوت والصورة هو الأكثر نجاعة و يراد من تكراره التأثير على قلوب وعقول المتلقين، من أجل القيام بردة فعل , ولكن هذا التكرار من الممكن أن يعطي نتائج عكسية وقد قامت بعض القنوات العربية وخاصة قنوات « الجزيرة » و «العربية» و «المنار» بدور إيجابي في نقل الأحداث على مدار الساعة، وكان من نتيجة ذلك وأسباب أخرى تنظيم مئات المسيرات الصاخبة والهادئة تضامنا مع أهالي غزة في كل المدن العربية ومع ذلك بقي الموقف الرسمي العربي على حاله تقريبا, مما يعني وجوب البحث عن وسائل أخرى لتغيير هذه المواقف وهنا يصبح استمرار بث نفس المشاهد المأساوية معرضا لإعطاء نتائج عكسية مثل: التعود.. بحيث لا تعود هذه المشاهد مؤثرة على العواطف، أو أن تتحول المشاهدة إلى نوع من الفرجة أوخلق حالة من اليأس تنطبق عليها مقولة «مافيش فايدة». مما يتطلب أن تصبح الأخبار فيها قليل من الصور وكثير من التحليل والتعليق المدروس جيدا، مع جمع كل الصور والأصوات وتقديمها كوثائق لمحكمة الجنايات الدولية في روما من اجل تقديم قادة الكيان الصهيوني أمامها كمجرمي حرب، إذ ما الفرق بين ما يتهم به قادة يوغسلافيا السابقون وما يفعله قادة الكيان الصهيوني تحت سمع وبصر العالم؟ نقول هذا مع تسجيلنا لبعض الهفوات التي تصل أحيانا إلى جرائم تقترفها بعض القنوات الفضائية العربية التي لازال بعضها يصر على أن يرينا وجوه القادة الصهاينة أطول مدة ممكنة، وإسماعنا أصواتهم حتى وهم يسبوننا أو يقلبون الحقائق أو يبررون عدوانهم ويتهمونا بأننا نحن المعتدون. في الختام لابد من القول أن الصدق والصراحة هو ما نحتاجه هذه الأيام العصيبة. فأن تقوم مواطنة بسيطة في السودان بنزع أساورها وتقديمها لشراء دواء لجرحى غزة، أو أن تقوم مجموعة من الفنانين بحفلة يخصص ريعها لإغاثة منكوبي غزة، أفضل من خطاب عنتري شتائمي يقوله هذا الحاكم أو السياسي أو الجمعوي، خطاب ينتهي مفعوله مباشرة بعد الانتهاء من إلقائه، حيث يكون قد أفرغ شحنات انفعاله وانفعالات الجماهير التي استمعت إليه.