إلا أنه نتيجة للمعارضة القوية التي لقيها هذا المشروع فقد تم تعديله بالتفكير في تكليف النقيب بالمهمة بدلا من السيد رئيس كتابة الضبط، و هو الأمر الذي رفضه آنذاك أغلب المسؤولين المهنيين، مما أدى إلى التخلي مطلقا عن الفكرة من أساسها في ظهير 8 نونبر 1979،3 و لم يتم الاحتفاظ إلا بالمقتضيات المتعلقة بالقاصرين اليتامي في الفصل السادس من الظهير.4 إنه بالنظر لما أصبح يثيره موضوع الودائع من جدل، يزداد بازدياد الحالات المحدودة التي يتم فيها التصرف أو الاحتفاظ بغير حق بهذه الودائع، بلغت لحد الطعن في الجسم المهني برمته،5 فإن المحامين أنفسهم، و خلافا لمعارضتهم السابقة، تبنوا التفكير الجدي في إيجاد حلول ناجعة تحافظ للمهنة على كرامتها و مصداقيتها و تمنح للموكلين ضمانات أكبر لحماية مصالحهم، بل وتحمي المحامي ذاته من كل المغريات التي قد يكون لها عواقب غير محمودة عليه و على المهنة. و انطلاقا من التجارب التي سارت عليها أغلب التشريعات المقارنة فقد أسفر الأمر عن اقتراح خلق جهاز يحمل اسم »حساب ودائع و أداءات المحامين« في إطار النظام القانوني للمؤسسات المهنية و بإشراف مباشر منها، يتكفل بمهمة حفظ ودائع الموكلين بشكل آمن ويوفر كل الضمانات. و منذ خروج المقترح المذكور لحيز الوجود، ثم تبنيه فيما بعد من طرف المشرع، فإنه أثار قريحة العديد من المحامين بين محبذ و ناقد. فإذا كانت الغالبية العظمى من المحامين تعتبر المقترح وسيلة إيجابية لدرء نقاط الضعف التي تؤثر على الممارسة المهنية من حيث التشكيك في مصداقية و تجرد المحامي، فإن هناك أصواتا أخرى انتقدت بشدة هذا التوجه و اعتبرت أن اقتراحه هو الذي يمس بتلك المصداقية و هذا التجرد. و إذا ما وقع غض الطرف عما تثيره شريحة صغيرة من المحامين بالنظر لمساس المقترح بمصالحها غير المشروعة، فإن المعارضين الآخرين يركزون رأيهم على عناصر مبدئية. و هكذا فإن هؤلاء المنتقدون يصرحون بكون المشرع كلف المحامي بالترافع نيابة عن الأطراف و مؤازرتهم و الدفاع عنهم و تمثيلهم أمام محاكم المملكة و المؤسسات القضائية و التأديبية لإدارات الدولة و الجماعات و المؤسسات العمومية و الهيآت المهنية.. و تقديم كل عرض أو قبوله، و إعلان كل إقرار أو رضى و رفع اليد عن كل حجز و القيام بصفة عامة بكل الأعمال لفائدة موكله و لو كانت اعترافا بحق أو تنازلا عنه.6 و يستمر أصحاب نفس الرأي في التأكيد على أن الثقة اللامتناهية التي وضعها المشرع بمقتضى القانون المنظم للمهنة في المحامي، من بداية المسطرة القضائية إلى نهايتها، ستتوقف مباشرة بمجرد أن يصل الملف لمرحلة التنفيذ وقبض منتوج العمل، الذي يدوم في بعض الأحيان لعدة سنوات، فترتفع الثقة و تستبدل بجحود مطلق وطعن مفترض في ذمة المحامي الذي توضع أمامه علامات المنع لبلوغه المحطة النهائية لمسيرة الثقة. و في رأينا المتواضع، و رغم ما تنطوي عليه وجهة النظر أعلاه من تحمس و تحيز للمشاعر المهنية لا يمكن إلا أن يقدر في أصحابها غيرتهم على مهنتهم، فإن الأمر ينبغي أن لا يأخذ من جانبه العاطفي المحض، بل بالبحث بكل هدوء و تعقل عن الصالح المهني واستبعاد كل ما من شأنه أن يشكل عائقا لممارسة المحامي لعمله دون أن يكون متأثرا بشبهات تخدش في سمعته، مع عدم التفريط في المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها المهنة. إن المهمة الأساسية للمحامي تتجلى بشكل جوهري في الدفاع عن مصالح موكله و عدم إهمال أي سبب مشروع يوصل لهذه الغاية، و السعي بكل الوسائل القانونية لتوصل الموكل بالحقوق التي أقرت له بها المحاكم. أما عملية قبض القيم و الأموال فإن الأمر يتعلق بمجرد إجراء مادي، قد يكون يمثل بالملموس النتيجة النهائية للعمل و الجهد المبذولين طيلة حقبة من الزمن، إلا أنه ينبغي ألا يؤخذ عدم القيام بعملية الأداء بين يدي المحامي على أنه طعن في أخلاقيات هذا الأخير أو بمثابة توجيه اتهام مسبق له بارتكاب محتمل لمخالفة مهنية. إن النتيجة الطبيعية التي يسعى إليها كل ذي حق عندما يلجأ للمحامي لمساعدته على التوصل به هي الحصول على الحق المذكور، و عندما يتعلق الأمر بأموال و قيم فأن يحصل عليها صاحب الحق من جهاز يخلقه المشرع للتكفل بهذه المهمة، ليس من شأنه أن يدخل أي خلل في علاقة المحامي بموكله، بل بالعكس فإن الإجراء المذكور يحصن هذه العلاقة لأنه يبعد عنها كل الشبهات و أسباب التشكيك، علما أن المقتضيات المقترحة لتنظيم »حساب ودائع و أداءات المحامين« تحتوي على نصوص تضمن للمحامي الحقوق التي قد تكون له على المبالغ المستحقة له في الأموال المودعة بهذا الحساب، بشكل يوفر ضمانات أكبر من تلك التي كان معمولا بها قبل صدور القانون 28.08. و بذلك ستكون هذه المؤسسة المهنية حارسة للأموال المودعة لديها، و تتجلى التزامات هذه الحراسة في المراقبة القبلية و البعدية للودائع و طرق صرفها بواسطة الصندوق. و ما أتمنى شخصيا من الزملاء هو أن يعتبروا الجهاز الجديد شريكا يرفع عنهم كل الإحراجات المرتبطة بمعاملاتهم المالية مع الموكلين، و محاور مفيد لهم لتجاوز الصعوبات التي تعترضهم في هذا الإطار وليس منظومة للمراقبة. و حتى عندما يتعلق الأمر بعنصر المراقبة فإنه لا ينبغي أخذه من جانبه القدحي، كما هو معمول به عادة داخل المؤسسات الرسمية للدولة حيث لا تتحرك فرق المراقبة إلا عند وقوع مساس بالمال العام، مما جعل المجتمع يعتبر المراقبة مرادفا لحصول سرقات أو تحويلات مبهمة للأموال. إن المراقبة التي ينبغي الأخذ بها في الإطار المهني ترتكز على تطبيق مبدأ الشفافية المطلقة على التعاملات المالية للمحامي سواء إزاء الموكل أو إزاء المؤسسات المهنية، و هو ما ينتج عنه حتما الاطمئنان على مصالح الموكلين من جهة، و من جهة أخرى تؤدي تلك المراقبة إلى إبعاد المحامي عن كل سلوك غير محمود و من تم حفاظه على قوته و شجاعته و قدرته على مجابهة أي كان في نطاق المشروعية و القانون، و أخيرا سد أفواه الأبواق التي ما فتئت تنهش في الجسد المهني. 1- فتحت المسطرة الجنائية الجديدة ثغرة صغيرة بتمكين المحامي من الحضور لدى الضابطة القضائية، و إن كان ذلك لا يتناسب مع طموحات المحامين، إلا أنه يشكل بداية مشوار من المأمول أن يتطور مستقبلا للقيام بدور الدفاع والمؤازرة و ليس لعب دور مجرد شاهد على التعامل مع الشخص الموضوع رهن الحراسة النظرية في حالة تمديدها. 2- مرسوم ملكي رقم 816.65 بتاريخ 19 دجنبر 1968 الذي تنظم بموجبه نقابات المحامين و مزاولة مهنة المحاماة. 3- ظهير شريف رقم 1.79.306 صادر بتاريخ 9 نونبر 1979 يتضمن الأمر بتنفيذ القانون رقم 19.79 الذي تنظم بموجبه نقابات المحامين و مزاولة مهنة المحاماة. 4- تنص الفقرة الثانية من الفصل 6 على ما يلي : »غير أنه إذا كان المستفيد قاصرا يتيما يتعين على المحامي عند قبض ما يجب قبضه نيابة عن هذا القاصر أن يقدم ملفه إلى النقيب قصد تقدير الأتعاب و المصاريف التي يمكن أن يستخلصها مما قبضه، و يجب على المحامي أن يدفع الباقي إلى القاضي المكلف بشؤون القاصرين في أجل شهر من يوم القبض، و في حالة عدم قبول هذا التقدير من طرف المحامي أو موكله تتبع مسطرة الطعن في تقدير الأتعاب.« 5- أصبح تدخل المؤسسات المهنية لمختلف الهيئات يتم بشكل مكثف كلما تطلب الأمر هذا التدخل، كما تدل عليه مختلف القرارات التأديبية التي يتعلق جلها بميدان الودائع. 6- المادة 28 من الظهير الشريف رقم 162-93-1 صادر في 22 من ربيع الأول 1414 (10 سبتمبر 1993) معتبر بمثابة قانون يتعلق بتنظيم مهنة المحاماة.