عرف مجتمعنا في العهد السابق محاولة لبروز بعض رجال الأعمال الذين يشتغلون انطلاقا من مبادراتهم الخاصة، فقد كانت لهم مشاريعهم الخاصة رغم كونهم مُراقَبين نسبيا من قِبَلِ الدولة ومستفيدين من النظام... أما اليوم، فقد تغير الأمر كثيرا، وأصبحنا نلاحظ بروز مبادرات تهدف إلى الهيمنة المطلقة للحاكمين على الاقتصاد، إذ يقوم هؤلاء بمراقبته والتحكم فيه... فلا يمكن لأحد أن يتخذ أية مبادرة اقتصادية بدون رضاهم وموافقتهم وجعل نفسه رهن إشارتهم. ومن لا يقبل بهذا، لا يمكنه أن يُطَوِّر أي مشروع اقتصادي، أو يتخذ أية مبادرة في هذا المجال... وإذا كان الحاكمون يهيمنون على المجال السياسي ويحتكرون العملية السياسية بكل تفاصيلها، فإنهم قد انتقلوا أيضا إلى فرض هيمنتهم على المجال الاقتصادي، إذ إنهم يتحكمون في الصناديق والمؤسسات العمومية التي ليست للحكومة أية سلطة فعلية عليها، كما أنهم يمتلكون مجموعات اقتصادية خاصة... وهذا ما مكنهم من فرض هيمنتهم المطلقة على كل الأنشطة التجارية والمالية والصناعية التي تكتسي طابعا استراتيجيا بالنسبة للاقتصاد المغربي ومستقبله... ويمكن أن نؤكد في هذا الاتجاه بأن مفعول قرارات هذه المؤسسات ومخططاتها أهم من مخططات الحكومة وقراراتها على مستوى الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية... وهذا ما يشكل خطرا كبيرا على البلاد، حيث أصبح مستقبلها في يد هذه المؤسسات وغيرها من المجموعات الاقتصادية، إذ لن يستطيع الاقتصاد المغربي اتخاذ المبادرة انطلاقا من ذاته، بل أصبح تابعا للحاكمين، مما أفقده استقلاليته وقدرته على النمو... وهكذا، صار الحاكمون يراقبون المجالين الاقتصادي والسياسي في آن واحد، الأمر الذي يعد في نظر الملاحظين، ضربا من ضروب الاستبداد... ومن زاوية الحكامة، فإننا عندما نلقي نظرة على القانون المالي، نجد أن الحكومة لا تقوم بتدبير الميزانية المخصصة للاستثمار، بل تسند هذه المهمة لصناديق مخصصة لذلك وكذا مؤسسات عمومية... فالحكومة مكلفة فقط بتدبير ميزانية التسيير، ولا تدبر سوى جزء ضئيل من الأرصدة المخصصة للاستثمار، مما جعلها مجرد مجموعة من الموظفين. وهكذا، فقد انتقل الإشراف على الاستثمار إلى مؤسسات عمومية ووزارة الداخلية... وهذا ما جعل الحكومة تفقد القدرة على تدبير الاقتصاد، الأمر الذي يحرمها من أي وجود أو فعل اقتصادي. وما يسمى بالأوراش الكبرى فهي ممولة من قبل «صندوق الحسن الثاني» والمؤسسات العمومية و»صندوق الإيداع والتدبير»... ويوجد على رأس هذه المؤسسات أشخاص بدؤوا يشكلون نوعا من الأعيان الاقتصاديين... وهذا ما نتج عنه استيلاء الحاكمين على كل شيء، مما نجم عنه تفشي اقتصاد الريع وثقافته... وهكذا، فإن الحكم يسير في اتجاه خلق طبقة اقتصادية جديدة بهدف تمكنه من مركزة الشأنين السياسي والاقتصادي في آن. وهذا ما تطلب منه القيام بترجمة سياسية لأهدافه الاقتصادية لكونه في حاجة إلى غطاء سياسي لتبرير مركزته لهذين المجالين. ويشكل الحزب الجديد ترجمة فعلية لهذا الهدف، إذ يرجى منه أن يشكل ذراعا سياسيا لهذا التمركز الاقتصادي... وهكذا، فليس الأعيان الجدد سوى واجهة يضبط الحكم من خلالهم المجال الاقتصادي والسياسي ويتحكم فيهما. وهذا ما يميز الأنظمة الاستبدادية في نظر بعض الملاحظين... وإذا كانت الدولة تفضل النهوض على الأعيان، فإن طبيعة هؤلاء تتناقض جوهريا مع الحداثة والديمقراطية. كما أنهم يكلفون الدولة أموالا جد طائلة، بل إنهم لا يحملون أي مشروع، ويساهمون بقسط وافر في الفساد والإفساد، ولا يؤطرون المجتمع...، الأمر الذي يُنَفِّر أغلبية المواطنين من الانتخابات ويدفعهم إلى مقاطعتها. وهذا ما يعمق فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع. وعندما يمارس الحاكمون سيطرتهم على الاقتصاد، فإن هذا يؤدي إلى الحجز على هذا الأخير، إذ يصير غير منتج على المدى المتوسط والطويل. فالاقتصاد المغربي غير قائم على القواعد الحقيقية لاقتصاد السوق، إذ تغيب حرية المنافسة وحرية المبادرة... وهكذا، توفرت الشروط الضرورية لسيادة الريع بكل أنواعه... وإذا كان لإصلاح القضاء دور في نمو الاقتصاد وازدهاره، فمن الملاحظ أنه لا توجد لحد الآن الشروط الدستورية الضرورية لإنجاز إصلاح القضاء وتحديثه وضمان استقلاليته ونجاعته ومساواة المواطنين أمامه... ويرى بعض المهتمين أنه بدون هذه الإصلاحات لن يكون خطاب إصلاح القضاء سوى خطاب للاستهلاك الإعلامي... يتم الحديث في بلادنا عن ممارسة سياسة اجتماعية من قِبَل الدولة، لكنها كما تمارس الآن عندنا ليست سوى مجرد عملية ذر الرماد في العيون وشرعنة البؤس، ومأسسة التسول بما في ذلك ما يمارسه كبار النخبة السياسية... تنهض السياسة الاجتماعية على تقديم الخدمات العمومية الضرورية في مجالات التعليم والصحة والسكن والتشغيل والنقل... لكنها عاجزة عندنا عن توفير هذه الشروط، بل إنها غير قادرة على التوزيع العادل للثروة، مما استحال معه إحداث توازن اجتماعي... وهكذا، فإن السياسة الاجتماعية تكون فاشلة عندما تقتصر فقط على إخفاء ما يحدث من تفقير للفقراء وإغناء الأغنياء. والدليل على فشل هذه السياسة في المغرب، هو وجود احتقان اجتماعي تعكسه حركات احتجاجية مستمرة قد تتطور إلى مآس خطيرة. ويظهر لي أن الفئات الاجتماعية الوسطى تتعرض للتفقير والتخريب، الأمر الذي سيقضي تماما على القواعد الاجتماعية للأحزاب، وخصوصا تلك التي تشارك في الحكومة الحالية... يشكل تقديم الدولة للخدمات السالفة الذكر جزءا من حقوق المواطنة التي ينبغي أن تنهض بها الدولة بتغطية ما تتطلبه من مصاريف وموارد من ميزانيتها العامة. وبدون ذلك، تكون علاقة الدولة بالمواطنين غير قائمة على أسس ديمقراطية. وعندما تشيع الأمية وتعتل صحة المواطنين، ولا يشارك هؤلاء في السلطة ولا في تدبير الثروة، ولا يكون لهم حق التصرف والتغيير، فإن الدولة تصبح دولة لا ديمقراطية، لأنها لا تعترف بحقوق المواطنة... ونظرا لتفاقم الأوضاع عندنا والتأثير السلبي للأزمة العالمية، فإن سنتي 2009 و2010 ستكونان من الصعوبة بمكان، مما يستوجب قيام الدولة بدور الضبط الذي يمكن من إحداث التوازن وتوفير الشروط الضرورية لممارسة سياسة اجتماعية فعلية... وهكذا، فنحن في حاجة إلى إصلاحات هيكلية للدولة. وإذا أحجمت هذه الأخيرة عن الشروع في إصلاحات دستورية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، فقد تنجم عن ذلك مواجهة مفتوحة بين الدولة والمجتمع. إننا لا نهدف من وراء ما نقول إلى مجرد النقد من أجل النقد، بل إننا نفعل ذلك بدافع الرغبة في تقدم البلاد واستقرارها...