إسهامًا منا في تجاوزِ بعضِ ألوانِ سوء فهم التي ترفُدُ سؤالا ملتبِسًا مثل التساؤل الرائج في نقاشاتنا المغربية اليوم: هل مغربُ «إمارة المؤمنين» دولة «عَلمانية»؟؛ ووعيا منا بالالتباس الذي يُحِيط بكل أبعاد هذا التساؤل الظاهرةِ والضامِرةِ؛ نرى لزاما تقديمَ بعض الإيضاحات حول ثابت «إمارة المؤمنين» في الثوابت الدينية المغربية؛ وإضاءةَ الأفق الاستثنائي الذي تفتحهُ هذه المؤسسة لتجاوز آفاتِ الدولة اللائكية والدولة الدينية على السواء. حين نتحدث عن الثوابت الدينية في المغرب فإننا لا نتحدث عن عناصر واختيارات تناهض التطور والتغير، بل عن مقومات هي التي تتيح لهذا التطور أن يكون في خدمة المجتمع وتماسكه وانسجامه ووحدته. فالثابت، حسب المفكر المسلم الشيخ عبد الواحد يحيى (رونيه غينو): «ليس هو ما يناهض التغيير، بل ما يعلو على التغيير»، ومن ثم، فالثوابت لا تعني رفض التعدد أو الاختلاف كما قد يتوهم البعض، بل هي التي تمثل المشْتَرَك الذي يتيح للتعدد أن يكون غنًى لا تمزيقا، وللاختلاف أن يكون رحمةً لا فُرقة وتشتيتا؛ إذ لا بد من مشْتَرك متَّفَقٍ عليه يشكل الأرضية التي تجعل من التعددَ الذي يقطنها غنى وثراء، ومن الاختلاف الذي تُوَجِّههُ رحمةً واختلافا منتِجا وإيجابيا. وكثيرة هي السياقات التاريخية التي عرفت ذنيك التعدد والاختلاف محرومًا من الأرضية المشترَكة ومن الحواضن الثابتة، فكان أن صار التعددُ فيها مصدرَ فتنة، والاختلافُ فيها سبب تنابذ باسم الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح. فيما يتيح التمييز بين المشترَك الثابت ومدارات الاختلافِ المشروع، إدراكَ سر انتشارِ الإسلام وامتداده في الزمان والمكان؛إذ هو واحدٌ في متعالياته العَقَدية والتعبدية والأخلاقية والتشريعية، متعددٌ في تنزيلاتِه التي ما فتئت تراعي مقتضياتِ أحوال الزمان والمكان والإنسان في السياقات التاريخية والجغرافية والثقافية والحضارية المختلفة. وهذا من عظمة الإسلام الحنيف التي أتاحت له أن يكون رسالةً عالمية تتبناها شعوب وقبائل ومجتمعات وثقافات مختلفة الأعراف والأعراق واللغات والذاكرات والأحوال التاريخية، لكنها وجدت في رحموتية آفاق تنزيلِه ورحابتها ما يتيحُ لها أن تنتمي إلى الإسلام الكوني من داخل ثقافاتها المخصوصة. وهذا واحدٌ من مقومات خلود هذا الدين إلى يوم الدين، وامتدادِه في الأزمنة والأمكنة المختلفة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ويشكل ثابتُ إمارة المومنين، على هذا المستوى، الإطارَ الناظم الذي يحافظ على ذلك المشتَرَك التديني بين أهل المغرب، بما هو شرطُ كلِّ وحدة، وصمّام أمان من كل فُرقة مذهبية أو تمزّقٍ للأمة، أو تطييفٍ لها باسم الحقيقة الدينية الواحدة والكتاب الإلهي الواحد والنبي الخاتِم الواحِد. وهنا، لا بد من التأكيد أن مؤسسة إمارة المومنين هي تعاقدٌ بين المأمومين والإمام، أي بين الأمةِ المبايِعَة والإمامِ المبايَع، له حقوق وعليه واجبات كما هو شأن نفسه بالنسبة للأمة، مما يعني نأيَ هذه المؤسسة عن كلِّ فهم تيوقراطي يقارنها بحكام القرون الوسطى ممن كانوا يحكمون في السياق المسيحي باسم الحق الإلهي. فنحن هنا أمام عقد بيعة له مقومات التعاقد الاجتماعي، المبني على الشرعيتين الروحية والاجتماعية، وليس مبنيا على التسلط والقهر بانتحال حق إلهي كان الإكليروس يذودون عنه ضمن تحالف الاستبداد والسلطة الكنسية في أوروبا العصر الوسيط. وهذا ما يجعل من النموذج المغربي لإمارة المومنين نموذجًا متفردا يقوم على التعاقد الاجتماعي الذي يمثله عقد البيعة، وانطلاقا من شرعية دينية وحضارية وتاريخية تضمن للأمة وحدتها المذهبية، وشخصيتَها الحضارية، واستقلاليتها التاريخية. وهو نموذج أيضا قابل للاستلهام المعاصر للخروج من حَدِّيَّة وإميَّةِ الدولة الدينية أو الدولة اللائكية. إن إمارة المومنين تنقذنا من هذه الإمِّيَّة؛ بحيث يشكل فيها الدينُ مصدرا أخلاقيا وروحيا وحضاريا لتفعيل الحركة التاريخية للأمة، بعيدا عن التطرف في إقصاء الدين من المجال العام كما هو حال الدولة اللائكية، وبعيدا عن تطرف الحُكم باسم الحق الإلهي وإضفاء القداسة المتعالية على نظامٍ اجتهادي قائم على التعاقد الاجتماعي، فذلك تطرف آخر يشكل مطبَّ الدولة الدينية من جهة ثانية. وبهذا تقوم مؤسسة إمارة المومنين بتثمير حضور الدين في المجتمع والسياسة دون أن يكون لا ملغيا ومقصيا، ولا حاضرا بشكل يعلل التسلط والاستبداد كما حصل في أوروبا الوسيطية. وطلبا لبيان هذا الأمر، ننطلق بالنظر من دستور 2011، ومن بعض خطابات هذه المؤسسة الدالة في هذا السياق. جاء في الفصل 41 من دستور 2011: «الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية. يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه.ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى المعتمدة رسميا، بشأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة. تحدد اختصاصات المجلس وتأليفه وكيفيات سيره بظهير. يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر». وفي الفصل 46 : «شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام». بتأمل هذين الفصلين، نجدنا إزاء عمق كبير في الجمع بين المسؤولية والشرعية الدينيتين للإمامة العظمى، وبين المسؤولية والشرعية الاجتماعيتين للملك المواطِن. وفي هذا تحقيق لفرادة في الشرعية الجامعة بين السماء والأرض، بين الدين والمجتمع؛ شرعيةٍ لا تُقصي الدين ولا تُلغيه من الاعتبار كما هو شأن الأنظمة الانغلاقية اللائكية، ولا تجعله مستنَدا لتفويض إلهي قروسطي كما هو شأن الأنظمة الانغلاقية التيوقراطية. إن البيعةَ في نظام إمارة المومنين هي تعاقدٌ اجتماعي بين حاكِم ومحكوم تقوم على حقوق وواجبات يلتزم بها التزاما كلُّ طرفٍ من أطراف هذا التعاقد، وهذا ما يحرر نظام إمارة المومنين من كل نزعة استبدادية في الأرض باسم السماء، مثلما أن نظام البيعة موصول من جهة ثانية بالشرعية الدينية التي يكفلها الانتسابُ لآل البيت، ووظيفةُ حماية الملة والدين التي يضطلع بها أمير المومنين، مما يحرر الاختيارَ المغربي من تطرف اللائكية الذي يقصي كل دور للدين في الحياة العامة والمجتمع كما قلنا، وهو الإلغاء الذي يتعرض اليوم للنقد والمراجعة داخل البيئات الغربية نفسها. الأمر الذي كان قد نبَّه عليه أمير المومنين في خطابهِ أثناء زيارة البابا فرنسيس إلى المغرب في 30-03-2019، حين أكد على أهمية الدين ودوره في الإسهام في حلِّ جملة من القضايا العالمية والكونية مثل التربية والفقر والهجرة والبيئة…أي حينَ أكَّدَ أن الدين ينبغي استحضارُه في السياق المعاصر بما هو جزءٌ من الحلِّ لا بما هو جزء من المشكلة؛ بخلاف الصورة التي يقدمهُ بها النظامان التيوقراطي واللائكي على السواء. ولهذا حين يقول أمير المومنين في الخطاب المذكور: «واليوم، فإني بصفتي أمير المؤمنين، أدعو إلى إيلاء الدين مجددا المكانة التي يستحقها «؛ فإنه يدعو إلى الخروج من التطرفين اللائكي والتيوقراطي، والذهاب إلى تمثل النموذج المغربي الوسطي والمعتدل الذي وصفه جلالته ب «الفكر الديني المتنور»، ضمن خطابه في حفل تنصيب «المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة»بجامع القرويين بفاس، بتاريخ 14 يونيو 2016. هذا النموذج الذي يقترح على الإنسانية الحديثة حَلًّا لإعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة؛ بحيث يخرج من قيدِ ثنائية الدولة الدينية أو الدولة اللائكية إلى «دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية»؛ كما جاء في «جواب المجلس العلمي الأعلى عن استفتاء أمير المؤمنين حول المصالح المرسلة» الصادرة بتاريخ 17 رمضان 1426ه الموافق 21 أكتوبر 2005. وبهذا الاعتبار، لا يمثل علماءُ الأمة في هذا المجلس أيَّ وصاية كهنوتية على عقول وأرواحِ الناس كما حصل في كنائسِ القرون الوسطى، وإنما يمثلون جهة «الخبرة القادرة على الدلالة على مراد الشرع»، نقرأ في هذا الجواب أيضا: «ومهمة العلماء في هذه الدولة هي أن يمثلوا جهة الخبرة القادرة على الدلالة على مراد الشرع، وهم يؤدون عملهم من موقع تأهلهم العلمي وقدرتهم على الكشف عن الحكم الشرعي، لا من موقع تفرُّدِهم بخصوصية معنوية تمنحهم سلطةً دينية لا تُرَاجع. وأقوالهم معرَّضَة للانتقادِ وللنقض إن أعوزها الدليل الشرعي أو انهارت أمام دليل شرعي أقوى، وقد قال الباقلاني:»إن المسلمين لا يحكمهم معصوم ولا عالِم بالغيب»، فمن ثم لم تكن الدولة الإسلامية دولةً تيوقراطية ولا دولةَ تفويض إلهي، وإنما كانت دولةً مدنية ذات مرجعيةٍ إسلامية لا غير». من هذا المنظور المتميِّز، الذي تبيِّنُه النصوصُ المرجعية الناظمة لنظام الإمامة في المغرب، وكذا الممارسةُ الرشيدة والسديدة لإمارة المومنين ضمن هذا الأفق، يقدم المغرب أنموذجًا متفرِّدا في السياق الحديث لإعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة، يقول الأستاذ أحمد التوفيق في كلمة له أثناء حفل استقبال أمير المومنين للحبر الأعظم فرنسيس بمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات بتاريخ 30-03-2019: «في سياق إمارة المؤمنين، تجد حلَّها كثيرٌ من الإشكاليات التي قد يشكو منها تدبيرُ الدين في جهات أخرى، ومنها إشكاليةُ حضور الدين في الدولة، وحمايته، وعلاقته بالسياسة، وبالحركات المسماة بالإسلامية، وبتطبيق الشريعة، وبالتيارات المتشددة، وبالحريات، وبالقيم الكونية، وبالتعليم الديني، وأخيرا مسألة العلاقة بالعلماء»؛ بمعنى أن إمارة المومنين، بهذا المنظور، تقدِّم مقترحا متفردا لإعادةِ ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة في السياق الحديث، بما يخرجنا من ضيق ثنائيات وإميات: إما الدولة الدينية أو الدولة اللائكية؛ دولة شرعية السماء والغيب، أو دولة شرعية الأرض والشهادة؛ بحيث يتم استحضار الشرعية الدينية داعمةً ومدعومة بالشرعية الاجتماعية؛ وهكذا تتقدمان بما هما شرعيتان متكاملتان متضافرتان لا متناقضتان متنافرتان؛ بحيث نستفيد من مزايا النظام الديموقراطي الحديث دون الوقوع في مطبات التفريطِ في مزايا الأثر التوحيدي والروحي والأخلاقي والإنساني لحضور الدين وقيمه النبيلة في المجتمع والتاريخ. طبعا، مثل هذا المنظور يقتضي، من ناحية أخرى، اعتمادَ التجديد المتواصل لأمر الدين بما يلائِم صيرورة المجتمع وتغير التاريخ، وهو ما تضطلع به بجرأة ومسؤولية وتنويرية مؤسسةُ إمارة المومنين، ذاك ما أوضحه بعمق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في درسه الافتتاحي للدروس الحسنية الرمضانية الأخيرة (1445ه)، كما يدل على ذلك عنوانه: «تجديد الدين في نظام أمير المؤمنين». وبإجمال، فإن القصد الرئيس من هذا المقال هو بيان خصوصية التجربة المغربية في ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة، بما يجعلها تفيد من مكتسبات الدولة الحديثة، ذات المعالم «العَلمانية»، لكن في ذات الوقت تحتفظ بخصوصية البعد الروحي والتشريعي والأخلاقي للدولة في المرجعية الإسلامية، وذلك بما يتيح لها تجاوزا عمليا لتطرف «العَلمانية» في علاقتها بالدين وأبعاده الكونية الروحية والأخلاقية، وكذا تجاوز آفاتِ الدولة «التيوقراطية الدينية» التي تضفي القداسة على ممارسات واجتهادات بشرية في الحكم والتدبير، وتوقع المجتمع في مطبات لا تقل ضراوة عما توقع فيه العلمانية المتطرفة. إن الأنموذج المغربي يسعى إلى تجاوز النقص في النموذجين اللائكي والديني على السواء، وكذا تجاوزِ أسباب الاستبعاد المتبادَلِ بينهما، ومن ثم صياغة أفق ثالث يقوم على «فكر ديني متنور» يحتفي بالدين والإيمان وامتداداتهما في المجال العام على خلاف التطرف اللائكي، ويحتفي بالديموقراطية والعقلانية وحقوق الإنسان والمشاركة في الحكم والتدبير والقبول بشرعية الاختلاف على خلاف التطرف الديني أو الحكم التيوقراطي. ذاك ما تحققه مؤسسة إمارة المومنين، في نظرنا، بما هي عنوان دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية. معالم تجديد الدين في نظام إمارة المومنين: ألقى الأستاذ أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، درسه الافتتاحي للدروس الحسنية الرمضانية لهذا العام (1445ه/2024م) حول موضوع «تجديد الدين في نظام أمير المؤمنين»، وقد أثار هذا الدرس جملة تفاعلات وردود تراوحت بين التقدير والتثمين والنقد المسؤول؛ فيما تجاوزت بعض الردود المنفعلة حدود الحوار المعرفي واللياقة العلمية. وإدراكا لأهمية هذا الدرس المعرفية والتشخيصية والاستشرافية، نبسط أمامكم جملة طرر وملاحظات نطرحها للنظر والتفكير والمذاكرة: 1- مثل سائر دروس الأستاذ أحمد التوفيق، يحتاج هذا الدرس إلى تأن في الإنصات، ورويّة في القراءة، واستجلاء منهجي لتعدد أبعاده وتنوع روافده ودقةِ بنائه. دون ذلك، فإن كل تعامل تجزيئي معه، واقتراب ابتساري من محاوره، لا محالة موقع في سوء فهمه، والشطط في الحكم عليه. وذاك ما سجلناه في عدد من الردود المتسرعة، التي لم تصغ إلى نص الدرس في تعدد وتكامل مداخله الشرعية والروحية والتاريخية والسياسية والفلسفية، بحيث بدا لنا من بعض الردود المتسرعة والمتشنجة أنها، مثلا، لم تلتفت إلى كون المحور الأول من الدرس، والخاص ب»مسألة التجديد كما طرحت عند المسلمين وعند غيرهم في الماضي والحاضر»، والذي جمعَ فيه المحاضر بين الرصد الدقيق والنقد العلمي لإبراز تلك الطروحات؛ هذا المحور النظري والابستمولوجي يعد مُحَدِّدًا رئيساً للمحورين اللاحقين؛ والمتعلقين ب»تجديد الدين في نظام إمارة المومنين»، وباستشراف «آفاق هذا التجديد على مستوى الأمة». ومعنى ذلك أن المحاضر أسَّسَ نظريا وإبستمولوجيا ونقديا لطرحه، ومن ثم فكلُّ فهم للقضايا العشرين التي أجمل فيها «عمل إمارة المومنين منذ أزيد من عقدين من الزمن في باب حفظ الدين وتجديده»، وكلُّ فهم لحديث المحاضر عن أطراف إصلاح التدين من إمامة وأمة وعلماء، تشخيصا وبيانا واستشرافا، لا يمكن أن يكون فهما سليما وسديدا دون ربط ذلك بالمحور الأول المحدِّد للخلفية النظرية والمعرفية للدرس. وهذا هو سبب اختلال وانحراف عدد من القراءات التي اجتزأت، مثلا، القضية الثالثة عشرة من القضايا العشرين المذكورة، وهي الخاصة بالتعامل مع الأبناك، دون اعتبارها ضمن الرؤية الكلية للدرس تأسيسا وتشخيصا واستشرافا؛ مما جعل مناقشتها من زاوية أحادية فقهية وغير تجديدية وغير تكاملية مع باقي زوايا النظر، تجنيا على الدرس، ونقاشا منحرفا يقع خارج الأفق الذي أَطّرَ به المحاضر مقاربته لموضوعه. 2- لما كان المحور الأول من الدرس مُحَدِّدا للمحورين التاليين، وجب علينا الانتباهُ إلى أن الأستاذ التوفيق، بعد أن أصَّل مفهوم التجديد في الحديث النبوي، ووقفَ عند تعدُّدِ مدلوله بحسب علماء الأمة بين التجديد الفردي والجماعي، وبَيْنَ الحُكْم العادل وفهم النصوص، وأجملَ تعلُّق موضوعه بالنصوص أو فهمِها أو العمل بها؛ نجدُه يعرضُ بكثافةٍ لبعض معالم الإصلاح والتجديد عند نماذج من المصلحين والمجددين المسلمين في العصر الحديث، وخصوصا بعد صدمة الحداثة حين وجدوا أنفسَهم في مواجهة الغرب وحضارته. ها هنا نجد الأستاذ التوفيق يوجّه نقدا تركيبيا لهذه الطروحات الإصلاحية والتجديدية به يؤسس لبيان «تجديد الدين في نظام إمارة المومنين».وهو نقد كشف فيه عن قصور عملِ هؤلاء المجددين سواء في تقديم تحليل عميق لعلاقة المسلمين بالغرب، أو في فهم الحضارة الغربية بكل مكوناتها، أو في فهم ديناميتها الداخلية في العلم والفكر والسياسة والاجتماع؛ وكذا قصورهم في فهم مفارقاتها بين خطابها القيمي التحريري وممارساتها في سياق الاستعمار والاستغلال الاقتصادي؛ مما جعل المحاضر يَخْلُصُ إلى أن الأمر المطروح على المجدِّدين لا يتعلق بالتبعية للحضارة الغربية أو رفضها بل بالسؤال الرئيس: هل الهدف من الأخذ بالحضارة الغربية مادي أم أخلاقي؟؛ ولم تقف مراجعة الأستاذ التوفيق لتلك الطروحات التجديدية عند نقد انسجانها بثنائية التبعية للغرب أو رفضه؛ بل ذهب إلى حد نقد بعض ما زاد في عقمها، مثل رفعها لبعض الشعارات دون الاهتداء إلى مضامينها الصحيحة، كما هو شأن شعار «الإسلام صالح لكل زمان ومكان»؛ أو كما هو شأن كلام الإمام مالك في قوله: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما أصلحَ أولَها»؛ حيث بَيَّنَ المحاضر أن الشعار الأول لم يغب قط عن علماء الأمة، لكن بعض المصلحين فهموه بما لا يستوعب التاريخ وتحولاته دون أن يتعارض ذلك مع أساسيات الدين، مثلما بيَّنَ المحاضر أن الإشكال في الشعار الثاني هو «التشخيص الدقيق للعنصر الكيماوي الذي أحدث الصلاحَ في الأول»، والذي حدده في العنصر الجوهري الذي هو التزكية. – هكذا، يبدو من الإضاءات الوجيزة السابقة، أن عدمَ استحضار مركزية العنصر الأخلاقي في الإصلاح من جهة، وعدمَ اعتبار التحول التاريخيّ والابستيمي في التعامل مع التجديد من جهة ثانية، وعدمَ مراجعة مضامين بعض الشعارات التي تُفهَم خارج الاعتبارين الأخلاقي والتاريخي من جهة ثالثة، وعدمَ الذهاب إلى روح التجديد في الدين والمتمثلة في الوصول إلى الحياة الطيبة التي وعدَ بها القرآنُ الكريم من جهة رابعة...كل ذلك جعلَ دعواتِ التجديدِ عقيمة، الأمر الذي استطاع تجديدُ الدين في نظام إمارة المومنين استيعابَه، ومن ثم تفادي الوقوع في آفاتِه بدءا من الجواب عن المسألة الأعوص؛ وهي «مشروعية النظام السياسي بمقياس النموذج الأمثل في تاريخ الإسلام»، والتي عولجت في النموذج المغربي باختيار نظام إمارة المومنين منذ عهد الأدارسة. في سياق هذا المنظور الرحب يأتي رصدُ المحاضرِ للقضايا العشرين ضمن حديثه عن تجديد الدين في إمارة المومنين، وكذا تشخيصُه واستشرافه لعمل ثلاثية الإمامة والأمة والعلماء؛ والتي تناولها في المحور الثالث. 4- الناظر في القضايا العشرين التي بسطها المحاضر في المحور الثاني يجدها شاملة لمسائل الإمامة ومشروعية الحكم، وحفظ الكليات الخمس من حماية للنفس والعقل والعرض والدين والمال، وكذا صون الحريات العامة، وضمان موقع الاجتهاد في نظام إمارة المومنين، وتحصين الأسرة ومكانة المرأة، والعناية بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحماية القيم الروحية والخصوصية المغربية في بناء حضارة الإسلام، ورعاية نهج الوسطية في العقيدة، وحماية الأرض كجزء من حماية الدين، ثم صيانة الروابط العلمية والدينية والمشترك العقدي والمذهبي مع بلدان إفريقيا. كل هذه القضايا طرحها الأستاذ التوفيق بتركيز وتكثيف، يلخص مسارا تجديديا قاده أمير المومنين على مدى أكثر من عقدين، وأحدث طفرة دينية في المغرب؛ سواء في الخطاب أو المؤسسات أو الوظائف أو المكانة الروحية والإشعاعية العالمية للنموذج التديني المغربي. وعلى أساس هذا الرصد راح المحاضر يتناول المحور الثالث المتعلق بتشخيص واستشراف عمل ثلاثية الإمامة والأمة والعلماء؛ حيث ركز في هذا التشخيص والاستشراف على مشروع "تسديد التبليغ" الذي تبنته مؤسسة العلماء، والذي يقوم على أمرين؛ الأول هو شرح جملة من الحقائق للناس مثل أهمية العمل في الدين، وتحمل المسؤولية إزاء الله والنفس والمجتمع، والتحلي بالتوحيد بوصفه سبيل الحرية، وتثمير العبادات في السلوك، وطلب الحياة الطيبة التي وعد بها الله سبحانه المتحقق بشرطي الإيمان والعمل الصالح. والثاني شرح السلوكات المطلوبة من الناس لبلوغ الحياة الطيبة المنشودة؛ مثل المداومة على محاسبة النفس، واعتبار برهان الإيمان هو الشكر وبرهان الشكر هو الإنفاق، وأداء حقوق الله من خلال أداء حقوق الغير وحقوق النفس، واعتبار الأولوية في أكل الحلال هي الإخلاص في كل عمل مأجور وفي كل العقود والمعاملات، واعتبار العمل بالقانون من المعروف والإخلال به من المنكر، وتجنب جميع أنواع التبذير. وقد أكد بذلك المحاضر على الدور التخليقي الذي يجب أن يضطلع به العلماء، مقالا وحالا، وبتعاون مع كل من الأسرة والمدرسة والمؤسسات المدنية والروحية التي تشاطر المؤسسة العلمية نفس المقاصد. وقد أكد الأستاذ التوفيق على مركزية البعد التخليقي في مشروع تسديد التبليغ، ودوره في تحقيق التجديد، والذي مداره تحرير الإنسان من الأنانية، «هذا التحرير، كما يقول المحاضر، الذي وصف بفضله الإسلام في العهد الأول بأنه فتح مبين»، مضيفا: «وإذا تجدد هذا الفتح فسيكون أجره، إن شاء الله، في صحيفة هذا النظام الذي هيأ له الظروف والأسباب». وهو البعد الذي يعتبر حاجة كونية لمواجهة ثقافة الاسترقاق الاستهلاكي الذي يهدد الإنسانية المعاصرة في هويتها الروحية والإنسانية، كما يؤكد ذلك عدد من حكماء الفكر المعاصر. 5- ليس القصد من هذه الطرر تلخيص درس غني وكثيف مثل درس الأستاذ التوفيق حول «تجديد الدين في نظام إمارة المومنين»، ولكن الغاية، هي استبعاد تلك المقاربات السطحية الاختزالية التي لا تنظر إلى هذا الدرس في تكامل أبعاده وضمن رؤيته الكلية التي تستوعب الدين والتاريخ والسياسة والفلسفة والأخلاق، والتي تأخذ في اعتبارها مصادر انتماء الأمة في الماضي وحركيتها للإجابة على إحراجات الحاضر بنظر متجدد في الواقع والمآلات، مثلما تأخذ في الاعتبار المحاورة النقدية للمرجعية الفقهية والمعرفية والتاريخية الموروثة، وكذا المرجعية الفكرية والفلسفية الغربية الحديثة، مع البحث عن الصلات والجسور بينهما، والتركيز على المشترَك لتثمير ما هو كوني في ثقافتنا هنا والآن. لذا، مثلا، لم يكن حديث الأستاذ التوفيق في القضية الثالثة عشرة عن التعامل مع الأبناك حديثا فقهيا أو من باب الفتوى، وهو المبجِّل لمشيخة العلماء والحريص على احترام الاختصاصات الحصرية لمؤسسة المجلس العلمي الأعلى، بل كان ذاك الحديث تنبيها إلى اعتبارات اقتصادية وتاريخية وفلسفية لابد من النظر فيها عند الحديث الديني في مسألة التعامل مع الأبناك؛ وذلك لتجاوز الإحراج الذي يقع فيه المسلم اليوم، سواء في تعاملاته الفردية أو ضمن المنظومة الاقتصادية العالمية. وهو في ذلك يستأنس بما ذهب إليه أحد كبار المصلحين الباكستانيين العالم فضل الرحمن الذي قدم المشورة للحكومة الباكستانية حول الفوائد البنكية، معتبرا «أن الحل ليس هو منع أبناك الفوائد تحت الضغط الشعبوي الذي يغذيه فقه متهرئ ملوث بالسياسة، بل الحل في تنمية الاقتصاد حتى تضعف الفجوة بين العرض والطلب". الأمر الذي لا يعني أبدا إبداء السيد الوزير لنظر فقهي في مسألة الربا، فقد استشهد بكلام أمير المومنين الذي ما فتئ يؤكد فيه أنه «لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا»، كما أشار إلى أن من «تجديد إمارة المومنين في هذا الباب إحداث معاملات بنكية تسمت بالمالية التشاركية»، والتي يعتبر المرجع في عملياتها هو المجلس العلمي الأعلى الذي أصدر لحد الآن أكثر من مائة وسبعين فتوى في الموضوع، وإنما القصد من إشارة الوزير معاودة التفكير في مدى مطابقة مفهوم الربا لكل أشكال المعاملات البنكية وخصوصا فوائد القروض؛ وذلك باستحضار حكمة التحريم وعلاقة القرض بالضرورة والفائدة بالأجل والاستثمار ونمو الاقتصاد؛ والنظر قبل هذا وذاك في آليات اشتغال المنظومة الاقتصادية المعاصرة وفق المقاصد والكليات الشرعية، مع اعتبار مقومات هذه المنظومة المختلفة جذريا عن الواقع الذي عالجه فقهنا الموروث، ودون استبعاد أي بعد من الأبعاد المحددة اليوم لهذه المعاملات البنكية ضمن الدينامية الاقتصادية المعاصرة، والتي صارت واقعا بشريا عالميا. 6- السؤال في درس الأستاذ التوفيق كما نراه، وفي العمق، ليس سؤال تحليل أو تحريم، بل سؤال إقدار المسلم اليوم على التفكير السليم في قضايا معاصرة انطلاقا من كليات الدين، والاجتهاد في نحت مخارج تخرجه من إحراجات واقع شكيزوفريني انفصامي بين إيمانه وواقعه، مما يؤثر على معنى إيمانه وروح تدينه أخلاقا ومعاملات. لقد فتح السيد الوزير ، بجرأة وإيمان، أفق النظر التجديدي من داخل الدين في هذه المسألة، مما يقتضي نقاشا جديا وجادا وتجديديا، لكن يبدو أن السياق التجاذبي بين فريقين نقيضين أحدهما يرفع شعار «الخوف من الدين»، والثاني يرفع شعار «الخوف على الدين»، إذا استعرنا لغة المحاضر في درس حسني سابق، وكذا خلط غالب الفريقين بين الدين الوحياني المتعالي الخالد والتدين بما هو فهم وممارسة بشريان تاريخيان للدين...، وكذا عدم استيعاب الكثيرين لتحولات الواقع المعاصر معرفيا وتاريخيا واقتصاديا وتواصليا، وعدم التقاطهم لروح هذا الدرس الافتتاحي أصولا وتحليلا واستشرافا، وعدم استحضارهم للخلفية التاريخية والفلسفية والروحانية والكونية التي تحكم تجديد الدين في نظام إمارة المومنين؛ كل ذلك يجعلنا نسير نحو تفويت فرصة نفيسة لمناقشة علمية وجدية حول جم من المسائل بشكل علمي وتنويري وتجديدي منتج وخلاق، وخال من العنف اللفظي والرمزي، سواء منه الممارس باسم الدين أو باسم الحداثة.