انتقل إلى عفو الله، المناضل السياسي والنقابي والجمعوي الدكتور محمد حرفي، رفيق الشهيد عمر بنجلون، الذي عاش ردحا من شبابه قرب سيرة الشهيد المهدي بنبركة. وقد عرف الفقيد تجربة الاعتقال السياسي في سنوات الرصاص، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والتي خطها في كتاب « مذكرات من زمن الرماد» ، ونستعرض في هذه الورقة، قراءة في الكتاب قام بها الكاتب والباحث سامح درويش.
صدر كتاب « مذكرات من زمن الرماد» للمناضل السياسي والنقابي والجمعوي الدكتور محمد حرفي سنة 2019 عن منشورات» إيدسيون بلوس»/مطبعة النجاح الجديدةبالدارالبيضاء، متضمنا ستة وثلاثين مقطعا تغطي مجمل الوقائع والأحداث والتأملات التي تشكل مضمون الكتاب، علاوة على تقديم لمعدّ المذكرات و سرد كرونولوجي لأهم المحطات في مسارات صاحب الكتاب التعليمية والمهنية والجمعوية والسياسية والنقابية، ليتم تخصيص زهاء الربع الأخير من الكتاب – الذي يمتد على 224 صفحة – لحوار مع صاحب الكتاب، وشهادتين وبعض الملاحق والوثائق التاريخية التي رأى الدكتور محمد حرفي ضرورة في إلحاقها بالمذكرات من قبيل صك الاتهام، وبيان المجلس الوطني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية الموجه إلى الشعب المغربي بمناسبة انتخاب مجلس النواب بتاريخ 19 ماي 1963، ونص مرافعة الدكتور عبد اللطيف بنجلون بصفته رئيسا للفريق النيابي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ونص الحكم في قضية المؤامرة على سلامة الدولة . في تجنيس الكتاب: من عنوانه، يضع الكتاب نفسه ضمن دائرة جنس» المذكرات» باعتباره نوعا أدبيا سرديا له خصائصه ومقوماته، يتبوأ فيه صاحب المذكرات موقع السارد والشخصية الرئيسة معا، ليروي وقائع وأحداثا كان فاعلا فيها أو شاهدا على حدوثها، مما يجعل من جنس» المذكرات» من جهة أولى نوعا من الكتابة التاريخية، وشكلا من توثيق وتقييد لحظات حية يمكن أن تصبح في ما بعد مصدرا لكتابة التاريخ الصحيح، ويجعل منه من جهة ثانية كتابة أقرب ما تكون إلى السيرة الذاتية، باعتبار أن الكاتب يروي فصولا من حياته في ظرفية خاصة تمثلت في محنة الاعتقال السياسي. فإذا كانت «المذكرات» تقدم وصفا وتوثيقا للوقائع والأحداث التي عاش الكاتب في صلبها أوعايشها عن قرب، محاولا تحليلها وتعليلها وتأمل مجرياتها بشكل يقترب من الموضوعية والتجرد في الغالب من أهواء الذات، فإن «السيرة الذاتية»، تقدم أطوارا من حياة صاحبها من خلال إيلاء الأهمية لتقديم خبراته ومؤهلاته ومنجزاته وتفاصيل مسار حياته الخاصة، مما يضفي على جنس « السيرة الذاتية» تلك الشحنة الواضحة من الذاتية. ولما كانت « المذكرات « لونا أدبيا قائما بذاته، له خصائصه التي تميزه عن غيره من الأنواع الأدبية السردية المجاورة وتساهم في بناء ميثاق محدد مع القارئ ، وله مكوناته التي يتقاطع في بعضها مع أنواع أخرى مثل الرواية واليوميات والسيرتين الذاتية والغيرية، فإن تفكيك وتحليل عناصر كتاب « مذكرات من زمن الرماد» يمكن أن يقرب القارئ بشكل منهجي من الحقائق والعبر والمضامين التي تنضح بها هذه المذكرات، إذ نقف عند العناصر التالية: أولا- الوعاء الزمني للوقائع والأحداث : تغطي مذكرات من زمن الرماد الفترة الزمنية الممتدة من مساء يوم 15 يوليوز من سنة 1963 حيث كانت الانطلاقة من مدينة وجدة في اتجاه الدارالبيضاء رفقة الشهيد عمر بنجلون، إلى غابة يوليوز من سنة 1965، أي على مدى سنتين، وهي الفترة التي قضاها صاحب هذه المذكرات أب الأجيال الأستاذ محمد حرفي في السجن، مؤديا بذلك ضريبة النضال رفقة ثلة من رجال ونساء الحركة الاتحادية من أجل وطن حر وديمقراطي يضمن لمواطنيه أسباب الكرامة ورغد العيش. ثانيا – الحيّز المكاني لمجريات المذكرات: تجري وقائع وأحداث هذه المذكرات في فضاءات الاعتقال والأمكنة المرتبطة به، ويتجسد ذلك في أمكنة متحركة مثل سيارة «الفولس فاكن» الشهيرة في تاريخ حزب القوات الشعبية، وهي تنهب الطريق بين وجدةوالدارالبيضاء، أو مثل سيارة البوجو 403 الرمادية التي استعملت من طرف الشرطة لنقل صاحب المذكرات من معتقل إلى آخر، أو أيضا مثل « الفركونيت» التي كانت ضمن موكب نقل المعتقلين من دار المقري إلى السجن المركزي. كما يتجسد المكان في المذكرات في أمكنة ثابتة مثل مقر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدارالبيضاء، أو مثل مقر الكوميسارية أو مثل « دار المقري» الشهيرة في تاريخ التعذيب السياسي بالمغرب الحديث، أو أيضا مثل قاعة المحكمة والسجن المركزي بالقنيطرة وغيرها من الأمكنة التي كان يتم نقل صاحب المذكرات إليها مكبلا معصوب العينين. ثالثا – الموضوع الرئيس للمذكرات: يتمثل الموضوع الرئيس في « مذكرات من زمن الرماد» في تجربة الاعتقال السياسي في مغرب ما بعد الاستقلال، وخاصة في ما سمّي من طرف أجهزة الدولة بملف « المؤامرة على سلامة الدولة»، وما سمّي من طرف الحركة الاتحادية المعارضة آنئذ بملف « المؤامرة على حزب القوات الشعبية». رابعا- الشخصيات الفاعلة في المذكرات: كل شخصيات هذه المذكرات هي شخصيات واقعية، بدءا من السارد الأستاذ محمد الحرفي، مرورا بالمناضلين الذين كانت لهم أصواتهم في هذه المذكرات من أمثال عمر بنجلون، الفقية البصري، عبد الرحمان اليوسفي ، صفي الدين الأعرج، البشير الفجيجي، العربي الشتوكي، محمد بنقدور، محمد المكناسي،عبد اللطيف جبرو، محمد بنشواط، عبد الرحمان المتوكل، محمد بوعلي،العكسة، عبد المومن الديوري، شيخ العرب أحمد أكوليز، محمد الحبيب الفرقاني، وغيرهم، علاوة على عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي وعبد الكريم بن جلون من هيئة الدفاع على المتهمين، وصولا إلى شخصيات الجلادين أو ما كان يسمى بحجاج دار المقري، وبعض حراس السجون الذين تركوا بصمة طيبة على نفسية صاحب المذكرات من أمثال حارس السجن « عمي بوبكر». خامسا – أوجه الصراع إبان عيش الأحداث أو استرجاعها: بطبعه الإنساني لا بد لأي معتقل سياسي من المرور بلحظات قاسية من التوتر والصراع الداخلي ومن الوقوع فريسة الهواجس والظنون، حتى أن بلوغ ذرى هذا التوتر والصراع قد أوصل الكثير من المعتقلين إلى حافة الانتحار أو الجنون أو الإصابة بإعاقات وأمراض عضوية قاتلة، ولعل أن تكون هذه الشحنة الإنسانية من التوتر والصراع هي ما يضفي على نوع المذكرات الأدبي جمالية متفردة و جاذبية خاصة من حيث علمنا بالشخصية الواقعية التي عاشت هذا الصراع، وعلمنا أن وصف لحظات الصراع وتدوينها ليس من صنيع المخيلة بقدر هي من صنيع الواقع الذي عاشه صاحب المذكرات. ويمكن أن نسوق في هذا الباب على سبيل التمثل تلك الحالات النفسية والوجدانية التي كان يمر منها صاحب مذكرات من زمن الرماد في أثناء نقله من مكان إلى وجهة يجهلها، أو تلك التي كانت تنتابه وهو ينتظر المناداة عليه إلى جلسات الاستنطاق التي كانت جلسات تعذيب بالدرجة الأولى، بل أيضا تلك الوضعيات النفسية التي تغذيها الهواجس المتولدة عن عزلة الزنزانة، أو عن تقليب احتمالا المصير الذي يبدو للسجين السياسي مجهولا في كثير من الحالات. غير أن السجين محمد حرفي كان في الغالب – حسب ما هو وارد في المذكرات – مسلحا للانتصار على قساوة الصراع الداخلي باستعماله وصفات نابعة من ثقافته وقوة عزيمته وصدق تضحيته، حيث كان يلتجئ تارة إلى قراءة وحفظ القرآن الكريم، ويعمد تارة أخرى إلى المطالعة وتعلم اللغة الفرنسية التي لم تكن قد أتيحت له الفرصة لتعلمها، أو إلى المطالعة وحضور الحلقات التكوينية التي كان ينظمها المعتقلون أنفسهم، ويستقوي تارة ثالثة باستحضار تضحيات من سبقه من المناضلين والمقاومين واستلهام ثباتهم من أمثال علال بن عبد الله ومحمد الزرقطوني، وحمان الفطواكي، وأحمد الراشدي وغيرهم ممن قدموا أرواحهم فداء للوطن وللمبادئ التي آمنوا بها، بل إنه يعترف في الجزء العشرين من المذكرات أنه استطاع أن يهزم التوتر والصراع بواسطة المسرح الذي أعاد إليه توازنه داخل الزنزانة، وهو يسترجع بعض الحوارات التي ظل يحفظها من تشخيصه لأدوار مسرحية عندما كان يزاول التمثيل المسرحي داخل فرقة النجم الوجدي. سادسا – أسلوبية المذكرات وبناؤها اللغوي: بحكم الميثاق الذي يبنيه جنس المذكرات مع القارئ في أفق خلق أفق انتظار قائم على سرد ورواية أحداث ووقائع واقعية عاشها صاحب المذكرات أو كان فاعلا أو قريبا منها، فإن البناء الأسلوبي واللغوي للمذكرات يقوم في الغالب على لغة واضحة، تلقائية وصادقة، بعيدا عن أي فذلكات بيانية أو بلاغية، وبعيدا عن أي تصنع أو استعراض تعبيري لا يمليه مقام سرد الوقائع وتوثيقها. ذلك – بالذات – ما يصنع جمالية المذكرات، وما يحقق للقارئ متعة التلقي بالرغم من قساوة ما يتم حكيه أحيانا، وذلك بالذات ما يجعل من « مذكرات من زمن الرماد» نصا أدبيا باستحقاق، نص يسري بين جمله وعباراته ومفرداته نسغ جمالي خالص يشد القارئ ويحفز الجوارح على تتبع وملاحقة الوقائع والأحداث بلذة ونهم، نص يتوسل قاموس اللغة السيارة ويصل به إلى بناء لغوي مشّوق، إذ ما نقرأ الفقرة الأولى من المذكرات حتى تشتعل فينا رغبة مواصلة القراءة واستكشاف ما تخبؤه الفقرات والصفحات الموالية. ولعل ما يضفي على «مذكرات من زمن الرماد» للمناضل محمد حرفي ملحا أدبيا إضافيا ميله من حين لآخر إلى تقديم تأملات خاصة غنية بالعبر والقيم والاستشرافات، تأملات توقف لوقت معين كرونولوجية سرد الوقائع لتحلق بالقارئ في أجواء الفكر والثقافة وتحليل ما يقع بوعي متقد، بل إن الحكي في هذه المذكرات يصل من حين لآخر إلى مستوى شفاف من السرد الأدبي، ويمكن أن نسوق في هذا السياق هذا المقطع من ص 77 من الكتاب، حيث يقول ذ. محمد حرفي : « إن أي مكان لا يخلو من شر وخير، ومن أشرار وأخيار، ففي كل مستنقع أزهار قد تغطي عن بصرك رؤية ما به من بشاعات، وفي كل دغل ما يسليك عما تسمعه من نعيق الغربان وضجيج الحشرات، وفي كل واد تنساب سقسقة ماء تخفف عنك وطأة ما يمكن أن يزعجك ..» خلاصات مركزة: إن مذكرات أي شخص وخاصة مذكرات نساء ورجال الفكر والثقافة و السياسة والنضال، تعد بحق شهادة على مرحلة من التاريخ، ووثيقة يمكن اعتمادها في كتابة التاريخ الصحيح أو تصحيح بعض المغالطات والتحريفات التي يمكن أن تلحق به لدواعي مختلفة. في هذا السياق تندرج بدون أدنى شك مذكرات الأستاذ محمد حرفي التي يصح تصنيفها ضمن مذكرات القادة السياسيين والفاعلين الثقافيين المميزين الذين طبعوا التاريخ بعطاءاتهم وتضحياتهم ، والذين سيظل لهم صدى في الأجيال اللاحقة. إن صاحب مذكرات من زمن الرماد سيظل شاهدا صادقا على فترة عصيبة من تاريخ المغرب الحديث، تلك الفترة التي غطت عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، الفترة التي دأبنا على تسميتها بزمن الرماد وسنوات الرصاص، الفترة التي كانت حافلة بالأحداث والتراجعات التي رهنت مستقبل المغرب وأعاقت نماءه وازدهاره لعقود بعد ذلك. إن العنوان العريض لمسار الأستاذ محمد حرفي والطابع الدامغ في شخصيته هو كونه مناضلا وحدويا، مناضل يؤمن بضرورة التحام القوى التاريخية الحية في بناء مجتمع مزدهر ومتماسك، مناضل يرفض التشرذم والانشقاقات، وهو من رفض مغادرة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعدما غادره أعز رفقائه وأصدقائه إلى وجهات حزبية أخرى، وهو من رفض مغادرة نقابة الاتحاد المغربي للشغل بعدما غادرها جل رفاقه وأعز أصدقائه إلى مؤسسات نقابية أخرى، وهو من لم تخر عزيمته أبدا في غمرة الدفاع عن مشروع وحدة المغرب الكبير، وعن مشروع الوحدة العربية.