لقد تتبعت باهتمام مجموع الحلقات التي نشرتها جريدة «الاتحاد الاشتراكي» ابتداء من عدد: 9293 بتاريخ 6 أكتوبر 2009 على شكل استجواب مطول، مع الأخ الطيب منشد، بصفته النقابية والحزبية. ولاشك أن المسؤوليات النقابية، والحزبية التي تحملها الأخ منشد، بالإضافة إلى علاقته مع قادة الحزب ومناضليه، ساعدته على إبراز بعض القضايا الهامة التي ارتبطت بمسار الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبمراحل تطور الكنفدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل، ومكنته من إعطاء معطيات ذات أهمية، ومن تفسير بعض المواقف أو بعض الأحداث التي وقعت في سياقها التاريخي، والتي سلط عليها الأضواء كمناضل أولا في هذا التنظيم الحزبي والنقابي، وكمسؤول ثانيا في قيادتهما. إن إعطاء مثل هذه المعطيات عن أحزابنا الوطنية ومنظماتنا النقابية، بشكل عام، لهو سلوك جدير بالتقدير، خصوصا إذا جاء على لسان أحد المسؤولين الصادقين الذين تربوا في أحضان هذا الحزب وهذه المنظمة، وأعطوا من راحتهم ووقتهم وجهدهم وتفكيرهم بسخاء، من أجل تقوية بناء هذا الحزب، وتوسيع تنظيم هذه النقابة. لم تترسخ بعد في بلادنا ثقافة كتابة يوميات الأحداث ومذكرات الأشخاص والسيرالذاتية، من طرف أشخاص تحملوا مسؤوليات حزبية أو نقابية. أو مروا بتجارب نجحوا أو أخفقوا فيها، في عالم المال والأعمال، أو عالم الفن والرياضة، أو عالم السياسية والثقافة، أو عاشوا مخاض الحملات الانتخابية والصراع داخل قبة البرلمان وكواليس مجالس الجماعات المحلية والغرف المهنية، أو عانوا المعاناة الشديدة، من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة في مواجهة التسلط والاستبداد والقمع، من خلال جمعيات حقوق الإنسان، أو من خلال تجارب جمعيات المجتمع المدني في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وجمعيات التنمية والبيئة في الأحياء والقرى. إن بلادنا غنية برجالها ونسائها الذين أعطوا الكثير لهذا الوطن، في مختلف المجالات والميادين على امتداد التراب الوطني عموديا وأفقيا. فكما أن تربة هذا الوطن أنتجت طفيليات اغتنت على حساب الانسان الفقير، وتسلقت سلم الغنى الفاحش بسرعة وبدون تضحيات، وأحيانا بدون كد ولا اجتهاد، واستطاعت أن تحتل مواقع بارزة في عالم السياسة أو المال، بل أحيانا مواقع القرار هنا أو هناك، معتمدة على الوصولية والانتهازية واستغلال الفرص، وتسخير العلاقات، فإن تربة هذا الوطن أنبتت كذلك عمالقة كثر، وكفاءات بشرية هائلة، اعتمدت العصامية كسلوك في حياتها، والتضحية كمذهب في أعمالها، والصالح العام كهدف في طريقها. لذلك ما أحوجنا إلى معرفة تجارب هؤلاء العمالقة العظام، الذين بفضلهم استمر المغرب دولة، وبفضلهم لازال المغرب يصارع الفقر والأمية والتخلف والطفيليات، ليحتل المكانة التي يستحقها بين الدول المتقدمة. وليس بالضرورة أن تكون لهؤلاء العمالقة مكانة سياسية كبيرة أو منصب دولة هام، أو ثورة مالية ضخمة. بل قد يكون مجرد فلاح صغير أو فلاحة صغيرة في قرية نائية، نجح في استثمار أرض، فحولها من أرض جرداء الى ضيعة ناضرة منتجة، فيستحق أن يصنف من بين العمالقة، وقد يكون معلما أو معلمة في ناحية معينة، استطاع أن يعلم ويربي فوجا من الأطفال، وأن ينجح في تجربة تربوية انطلاقا من الواقع المحلي ومن ظروف الأطفال الاجتماعية، فعلمهم العلم والوطن والصالح العام، وقد يكون مستشارا أو مستشارة جماعيا، بذل مجهودا في جماعته، وفي علاقته بناخبيه وبالجمعيات في تراب الجماعة، فتحقق ما لم يحققه غيره، وهكذا تستفيد الأجيال المستقبلية من تجربة الفلاح الصغير أو الفلاحة، ومن تجربة المعلم أو المعلمة، ومن تجربة المستشار الجماعي والمستشارة، من خلال مذكرات يومياته، أو سيرته الذاتية، كما تستفيد من خلال مذكرات وسيرة الوزير والبرلماني والسياسي والنقابي والعالم والمثقف والفنان والرياضي ورجل المال والاعمال فجميع هذه التجارب صادرة عن عمالة، وذات أبعاد إنسانية هامة، وإن كانت أهميتها تختلف من شخص إلى آخر، ومن ظرف إلى آخر. وتحضرني هنا مذكرات توفيق الحكيم «يوميات نائب في الأرياف» التي سجل فيها يومياته، كممثل النيابة العامة في قرية نائية ببادية مصر، وهو لم يصبح بعد توفيق الحكيم الأديب الكبير، بل كان مجرد موظف عاد. ذكرت في الحلقة السابقة أهمية ما نشرته جريدة «الاتحاد الاشتراكي» من معلومات قيمة عن الساحة السياسية والنقابية ببلادنا، من خلال نبش ذاكرة الأخ الطيب منشد، عن الأحداث التي عرفها كمناضل ومسؤول نقابي وحزبي. وهي مبادرة إيجابية اتخذتها «الاتحاد الاشتراكي» نتمنى أن تستمر في نبش ذاكرات أخرى ليطلعنا أصحابها على ما عاشوه من أحداث ووقائع تاريخية، في مختلف المجالات، كما نتمنى أن نطلع على نفس المبادرة في جرائد وطنية أخرى، وأن تشمل هذه اللقاءات مختلف القطاعات السياسية والديبلوماسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية والرياضية. وإذا كانت هذه المبادرة لم تكن الأولى من نوعها، إذ سبق للاتحاد الاشتراكي نفسها و لصحف وطنية أخرى، أن نشرت لقاءات عن ذاكرة بعض الرجالات، إلا أنها قليلة العدد، فلم تصبح بعد تقليدا راسخا في صحافتنا الوطنية. لم تكن نيتي أن أكتب على هامش ذاكرة الأخ الطيب منشد لعدة اعتبارات أهمها أنني لن أستطيع أن أضيف شيئا، لأن صاحب الذاكرة عاش وقائع وأحداث داخل الحزب، وداخل النقابة، كمسؤول ومناضل عبر عقود من السنين، إما من موقع القرار أو قريب من موقع القرار، أكثر مني شخصيا ومن كثير من المناضلين والمسؤولين الحزبيين والنقابيين، لكن الذي دفعني إلى الكتابة على هامش ذاكرته، هو بعض الوقائع التي سردها في سياق حديثه عن الأحداث، التي عرفها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في بعض محطاته التاريخية، حيث غابت عنه بعض الوقائع التي لها علاقة بتلك الأحداث، أو غفل عن ذكر أسبابها وخلفياتها كي يستوعبها القارئ، أو ذكرها على غير حقيقتها، من دون عمد ولا قصد. ولا شك أن فعل الزمان، وعامل النسيان هو الذي كان وراء ذلك الإغفال أو غيره، وهذا ما أكده الطيب منشد نفسه عندما أضاف في إحدى حلقاته ركن «تصويب واعتذار» يقول فيه:«خلال الحلقات المنشورة تم السهو عن ذكر أسماء بعض المناضلين. وإذ أتقدم بهذا التصويب، فإنني أعتذر لهؤلاء الإخوة الأموات والأحياء، وأشكر الذين نبهوني لذلك، وأعتذر مرة أخرى عن عدم ذكر أسماء قد لا أذكرها، مؤكدا أن ذلك يرجع فقط لطول الفترة وكثرة الإخوة والأخوات الذين تعاملنا جميعا والتقينا في واجهات متعددة». لذلك لا أطمح إلى الرد أو التعقيب على الأخ الطيب منشد، أو إلى تصحيح معلومة جاءت في سياق حديثه، لأن ذاكرته جزء من ذاكرة حزبنا، على غرار الكثير من المناضلين، خصوصا وأنه يتصف بالموضوعية في التعامل، والصدق في الحديث، ولكنني مجبر على التذكير ببعض الوقائع التي غابت في حديثه، أو ذكرت مشوهة أو على غير حقيقتها، والتي أعتبرها ضرورية الإخبار بها. ولاشك أن ما عشته وتعرفت عليه داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كمناضل أو كمسؤول منذ سنة 1961 بفاس، ومنذ 1968 بالدار البيضاء، قد يشفع لي في الكتابة في هذا الموضوع. كما أن من إيجابيات نشر الجريدة لحلقاتها عن ذاكرة مناضل مسؤول، تحريك أقلام أخرى، واستفزاز ذاكرات أخرى لمناضلين آخرين، وفي ذلك فليتعاون المناضلون، لأن تاريخ حزبنا في النهاية سيكتب بعدة أقلام، ومن طرف عدة مناضلين سواء كانوا في المسؤولية الحزبية، أو مجرد مناضلين في التنظيمات الحزبية، وفي ذلك ثراء وفائدة للرأي العام الوطني عامة، وللرأي العام الحزبي خاصة، وعلى الخصوص الأجيال الشابة داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أو المناضلين الجدد الذين التحقوا بالحزب في السنوات الأخيرة، أو الذين لم يعيشوا تلك الوقائع والأحداث. لقد قررت أن أخط هذه الحلقات، اقتناعا مني أن تاريخ حزبنا هو ملك لجميع الاتحاديين، بل هو ملك للشعب المغربي كله، وما سأرويه لاحقا سيكون مصدره ذاكرتي، ومرجعه ما عشته فعليا، أو سمعته من مسؤولين حزبيين في القيادة السياسية لحزبنا. خصوصا وأن ما سأسرده، لم أعشه وحدي، بل عاشه معي مناضلون ومسؤولون آخرون لازال جلهم أحياء، لذلك سيكون ما أكتبه تحت رقابة مناضلين آخرين. و آمل أن تنطلق أقلام الاتحاديين في كتابة تاريخهم، واستحضار أحداث حزبهم الإيجابي منها والسلبي، ليكون ذلك مادة خام لاستقراء الأحداث، وتحليل الوقائع، واستنتاج الخلاصات التي يمكن أن تساعد الحزب على تصحيح مساره، وتحديد آفاق مستقبله، خصوصا في الفترة العصيبة التي يمر بها حاليا. وسيكون نشر المذكرات وكتابة السير أفيد وأغنى، لو تم نشر مذكرات المرحوم عبد الرحيم بوعبيد بكاملها، أو كشف الأخ عبد الرحمان اليوسفي عن مخزون مذكراته، أو الأخ محمد اليازغي أو الأخ عبد الواحد الراضي، لأن هؤلاء القادة يملكون أكثر من غيرهم، من المعلومات والمعطيات الحزبية والسياسية، بحكم مسؤوليتهم الأولى داخل الحزب، بالإضافة إلى إخوان آخرين تحملوا المسؤولية الحزبية بالمكتب السياسي، أو اللجنة الإدارية والمركزية والمجلس الوطني حسب الحالة، أو داخل قطاع معين أو جهة معينة، لأن كل ذلك لن يزيد الحزب إلا قوة وثراء، ما أحوجنا إلى كشف المستور بصدق وموضوعية. يتبع