أكدت مجريات التاريخ وأحداثه الكبرى أن عظمة الدول لا تقاس فقط بالتدبير السياسي في الفترات الطبيعية وأثناء السير العادي للشؤون العامة، بل بقدرتها على مواجهة لحظات الشدة وكيفية التحكم في زمام الأمور خلال الأزمنة الخانقة. فالدول لا تتقوى فقط عبر تقوية ممارستها السياسية والديمقراطية، والزيادة في حجم ثروتها الإجمالية، وتطوير أدائها الاقتصادي وتماسكها الاجتماعي، وإنما تعزز تموقعها بشكل أفضل كلما أدارت الأزمات التي تتعرض لها بالنجاعة اللازمة الثلاثية الأبعاد: التحكم في المخاطر، التقليل من الآثار، واحتواء التداعيات. ومن البديهي أن تاريخ العالم والدول هو، في أحد تجلياته، تاريخ للأزمات والجوائح والكوارث الطبيعية، وهزات عنيفة متعاقبة بسبب الزلازل والبراكين والمجاعات والقحوط والأوبئة والفيضانات والأعاصير والحروب. وفي كل محطة من المحطات التاريخية، كانت للأزمات والكوارث الطبيعية تداعيات إيجابية أحيانا، وسلبية أحيانا أخرى، على المستوى الديمغرافي (إبادة جماعات بأكملها، محو تجمعات سكانية)، والمستوى السياسي (إضعاف أو تقوية أنظمة الحكم، تشتت أو تماسك مراكز القرار)، والمستوى الاقتصادي (خسارات مادية جسيمة، تراجع النمو)، والمستوى الاجتماعي (توهج التضامن، اضطرابات وانحرافات متعددة من قبيل اللصوصية). ويكفي، على المستوى الاقتصادي، التذكير بالتقديرات التي حددتها مجموعة البنك الدولي للخسائر المالية الناتجة عن الكوارث، خاصة الفيضانات والزلازل وموجات الجفاف، والتي يقدرها بما يفوق 575 مليون دولار سنويا. إن التاريخ الإنساني يحتفظ في سجلاته بأبشع الصور الناتجة عن هذه الأزمات والكوارث الطبيعية التي لم يكن المغرب بمنأى عنها إذ تعرض، عبر مساره التاريخي الممتد، لموجات قاسية من الزلازل، والمجاعات، والأوبئة والأمراض القاتلة (السعال، القرع، الجذري، التيفوس، الكوليرا، …). والخلاصة من هذا المسار ما أكد عليه المؤرخ محمد الأمين البزاز في كتابه «تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر» من أن المغرب «تمرس بغضب الطبيعة واكتسب القدرة على امتصاص ضرباتها لمعاودة النهوض تدريجيا بصبره المعهود.» ومن المؤكد أن المغرب الحديث والمعاصر جسد فعليا التمرس بغضب الطبيعة، وراكم خبرة مهمة في استباق ومواجهة الأزمات والكوارث الطبيعية بحكم تقوية قدراته على المواجهة والصمود. كما سياسات عمومية قطاعية ساهمت، إلى حد كبير، في القضاء على مجموعة من الظواهر المتعلقة بالمجاعة وبعض الأمراض الخطيرة والمعدية نتيجة تحصين وتطوير المنظومة الغذائية والصحية. وقد تعزز هذا التوجه مع العهد الجديد، منذ 23 يوليوز 1999، حيث استطاع المغرب الصمود أمام كل الأزمات والكوارث الطبيعية بفضل التدبير الحكيم لجلالة الملك محمد السادس والتدخل الناجع لخلق التعبئة المؤسساتية والمجتمعية. وما ميز هذا التدبير الحكيم الاستناد إلى الصلاحيات الدستورية ذات الصلة بمثل هذه الأوضاع، والمخولة لجلالته بوصفه: «أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين» (الفصل 41)، و»رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات» (الفصل 42)، ثم «القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية» (الفصل 53). لقد تمكن المغرب، طيلة ربع قرن من حكم جلالة الملك محمد السادس، من الصمود أمام صدمات قوية فرضها موقعه الجغرافي وتشكيله الجيولوجي على الصعيد المحلي، كما فرضتها التغيرات المناخية والتحولات البيولوجية على الصعيد العالمي. فخلال الربع قرن الأخير، شهد المغرب العديد من الفيضانات (المحمدية سنة 2002، الغرب 2010، الجنوب 2014 و2016، تارودانت 2019)، والزلازل (الحسيمة 2004، الحوز 2023)، والأوبئة (جائحة كوفيد 19 العالمية). وعلى مدار سنوات هذه المدة، استطاع المغرب تطوير تجربته في مجال مواجهة الأزمات والكوارث الطبيعية من خلال تعزيز المنظومة المؤسساتية والاستثمارية الكفيلة بتحسين إدارة المخاطر والتحكم في المخلفات الاقتصادية والاجتماعية. ومن بين العوامل التي ساهمت، بشكل كبير، في تحقيق ذلك المقاربة الواقعية التي وردت في الخطاب الملكي السامي بتاريخ 25 مارس 2004 تحت صيغة: «يجب أن نصارح أنفسنا بأننا لسنا مؤهلين على الوجه الأكمل لمواجهة الطوارئ»، والتي شكلت الموجه القوي لمختلف الفاعلين والمتدخلين للبحث عن السبل الأنجع لتأهيل مغرب الصمود. بالفعل، تجسدت عظمة المغرب وحكمة ملكه في تدبير الأزمات بما زاد من قوة الدولة ودورها الاجتماعي في امتصاص الآثار الكارثية المحتملة، خاصة في لحظتين فارقتين تتمثلان في الجائحة العالمية وزلزال الحوز رغم اختلاف طبيعتهما ووقعهما وأبعادهما. فقد كانت أدوار الدولة، بكافة مكوناتها ومؤسساتها، وبتوجيه من جلالة الملك، حاسمة في التعاطي مع كل مرحلة من مراحل الأزمة. كان تدخل الدولة أكثر سرعة ونجاعة، بل كان أكثر تقدما مما يترجم مدى تقدم الدولة المغربية نفسها. وكانت الخلاصة الأساسية للمجهود الوطني الذي ساهم في الحفاظ على الخسائر البشرية لجائحة «كوفيد 19» في أدنى مستوياتها مقارنة مع المخلفات الفادحة في مجموعة من البلدان المتقدمة التي بلغت عجزا لا يطاق أمام صور الجثث المنشورة في الشوارع التي تناقلتها وسائط الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. إنها حكمة الملك المبادر التي اتخذ قرارات استباقية جعلت الدولة المغربية تنجح في تحصين المجتمع مع بداية انتشار الوباء خلافا للعديد من دول الاتحاد الأوروبي التي فقدت السيطرة على الوضع من قبيل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها. على هذا المستوى، نستطيع أن نقيم المقارنة بين الماضي والحاضر، رغم الاختلاف الكبير في آليات ووسائل مواجهة الجوائح، لنؤكد أن الاختلاف الجلي بين الأمس واليوم يكمن في التقديرات السياسية وتصور الدولة لدورها في تدبير الأزمات. فالتقدير السياسي الحكيم لجلالة الملك، في توقيته وصرامته، أتاح الشروط الأفضل للتعامل العقلاني مع الجائحة والتكيف الظرفي مع تطوراتها ومآلاتها، خاصة في كيفية فرض الحجر الصحي أو رفعه. الأمر الذي جعل المغرب، كما أشرت إلى ذلك في ورقة سابقة حول: «التاريخ أفقا للمستقبل: في تحويل الأزمة إلى حافز للإقلاع التنموي»، ينتقل، في مسار مجابهة الأوبئة، من الدولة المنفعلة إلى الدولة الفاعلة، من الدولة المتأثرة إلى الدولة المبادرة: أي من دولة تتعرض للأزمة وتتصرف للتكيف مع آثارها إلى دولة تستبق الأزمة وتبادر إلى تجاوز مضاعفاتها. لم تكن حكمة التدبير الملكي متمثلة فقط في التوجيه السياسي العام وإدارة المجالين الاقتصادي والاجتماعي، بل تجلت أيضا في المقاربة العلمية والثقافية والتواصلية التي تم اعتمادها من أجل خلق التعبئة الجماعية للمغاربة. وفي هذا الصدد، نتذكر جميعا بث القناة التلفزية الرسمية لحظة تلقي جلالة الملك لجرعة اللقاح، في إشارة قوية إلى ضرورة اتخاذ الاحترازات الطبية لتفادي الإصابة بالعدوى. هي مبادرة ملكية سامية تنتصر للعلم بمعناه الحديث، ولا تترك أي مجال للخرافة وإنكار الحقائق، كما كان الشأن في فترات تاريخية من تاريخ المغرب حيث كان بعض العلماء، بالمعنى الفقهي ينكرون حقيقة العدوى ويطعنون في مشروعية الوقاية منها على حد تعبير محمد الأمين البزاز في كتابه المشار إليه أعلاه. وفي نفس السياق، نتذكر أيضا كيف تأسف جلالة الملك محمد السادس، في خطابه الواقعي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب (الخميس 20 غشت 2020)، لارتفاع حالات الإصابات بعد رفع الحجر الصحي لأسباب عدة من بينها أن هناك من يدعي عدم وجود الوباء، أي ينكر الحقائق. بفضل هذا التدبير الحكيم، استطاع مغرب الصمود تحويل الوباء العالمي من عائق للنمو وتهديد للاستقرار إلى حافز للتنمية من خلال تعزيز دور الدولة الاجتماعية في حماية المغاربة وإطلاق أوراش كبرى، لعل أضخمها الورش الملكي للحماية الاجتماعية، الذي يعد بحق ثورة اجتماعية هادئة. ولم ترتبط استراتيجية «تحويل العائق إلى محفز» مرتبطة فقط بمواجهة الوباء العالمي، بل ارتبطت بكل الأزمات التي شهدها الربع قرن الأخير إذ في كل مرة يستطيع المغرب أن يحول الكارثة إلى فرصة لحشد الطاقات وتقوية القدرة على الصمود. هي نفسها الاستراتيجية التي اعتمدها المغرب لمواجهة مخلفات وتداعيات الزلزال الأعنف منذ قرن من الزمن، والذي ضرب، ليلة 8 شتنبر 2023، منطقة الحوز بقوة 7,2 درجات على مقياس ريختر. وفي هذه الأزمة أيضا، يتدخل الملك المبادر، بالصلاحيات الدستورية المخولة له، لتكون استجابة الدولة المغربية بمؤسساتها الاستراتيجية أكثر سرعة ونجاعة. وبفضل توجيهات جلالته، تجندت كل مؤسسات الدولة لتطويق الآثار المدمرة للزلزال من خلال إرسال فرق الإغاثة والإنقاذ إلى المناطق المتضررة، تقديم المساعدات الطبية والغذائية للمصابين والمتضررين، إجلاء السكان المحليين من المناطق المنكوبة. وفي خضم الأزمة، مارس المغرب حقوقه السيادية، بوصفه دولة قوية قادرة على التدخل السريع لإغاثة المناطق المنكوبة، وتحديد الأولويات في التعاطي مع المجريات اللاحقة للزلزال والتفاعل مع المساعدات الإنسانية الدولية. إن مغرب الصمود نتاج خالص للرؤية المتبصرة لجلالة الملك في تدبير الأزمات والكوارث الطبيعية، ولتدبيره الحكيم للمحن واللحظات الخانقة التي يمر منها المغاربة في بعض الفترات التاريخية العصيبة. وقد أعطى المغرب دوما، في هذه اللحظات، صورة نموذجية لما ينبغي أن يكون عليه التضامن المجتمعي بين مختلف المكونات والفئات في الأوقات الحرجة، بما يعكس باستمرار التلاحم القوي والمتواصل بين العرش والشعب. وكما قال جلالة الملك: «أبان المغاربة قاطبة بتضامنهم العفوي والملموس أنهم شعب يعرف كيف يحول ما يصيبه من نوائب الدهر إلى مصدر قوة وعزيمة لجبر أضرارها ورفع تحدياتها في التحام وثيق بين عرش ملتزم وشعب متميز وأصيل يرفض المتاجرة الدنيئة والاستغلال السياسوي المقيت لمعاناته مما يصيبه من كوارث طبيعية» (الخطاب الملكي السامي – 25 مارس 2004). إنها القيم والمبادئ الأصيلة لمغرب الصمود الذي يترجم واقعيا، وبشكل تلقائي، المقتضى الدستوري الذي ينص عليه الفصل 40 الذي يفرض على الجميع أن يتحمل، بصفة تضامنية، وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف الناتجة عن الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد. إجمالا، تمكن مغرب الصمود، طيلة ربع قرن من الحكم الرشيد لجلالة الملك محمد السادس، من تطوير الإطار المؤسساتي المتعلق بتقليص مخاطر الأزمات، وتعزيز القدرات الذاتية والاستثمارات الموجهة لتطوير سبل مواجهة الكوارث الطبيعية. ويظل المفتاح لفهم سر قوة مغرب الصمود متمثلا في الحكمة الملكية التي تتجلى في رعاية المصلحة الوطنية، والإقدام على المبادرات الاستباقية، ونهج المقاربة العلمية، والقيادة الناجحة للتعبئة الجماعية على المستويين المؤسساتي والمجتمعي.
* عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مدير الفريق الاشتراكي