اجتماعات بالرباط للجنة التقنية ولجنة تسيير مشروع أنبوب الغاز الإفريقي الأطلسي    سعر صرف الدرهم يرتفع مقابل الأورو    "الفيفا" تحسم الجدل وتختار "سانتياغو برنابيو" لاحتضان نهائي مونديال 2030    البقالي يتألق في موناكو ويظفر بسباق 3000 متر موانع بالدوري الماسي    انقلاب سيارة بطنجة يُسفر عن 7 إصابات    "وول مارت" تستدعي 850 ألف عبوة مياه بسبب إصابات خطيرة في العين    المغرب يفتح باب المنافسة لمنح تراخيص الجيل الخامس "5G"    اجتماع حاسم بالدار البيضاء لتسريع أوراش الملاعب والبنيات التحتية قبل 2025 و2030        حجز 6000 قرص مهلوس وتوقيف أب وابنه القاصر بمحطة القطار بالدار البيضاء    سفيان البقالي يفوز بسباق 3000 متر موانع في ملتقى موناكو ضمن الدوري الماسي    بورصة البيضاء تنهي جلسة الجمعة بارتفاع    الحبس ستة أشهر لموقوف رفض مشاهدة نشاط الرئيس التونسي    مسيرة أيت بوكماز صرخة للإنصاف والعدالة الترابية.    اختتام المخيم الحقوقي لأطفال العالم القروي في دورته الرابعة    فن "لوناسة" يلتئم في مهرجان له بسيدي دحمان التثمين والمحافظة على احد أهم الفنون الإيقاعية المغربية الأصيلة    "اللبؤات" يتطلعن إلى الصدارة أمام السنغال .. وفيلدا يحذر من الأخطاء الدفاعية    وزير الداخلية الإسباني يُشيد بالتنسيق المثالي مع المغرب في عملية مرحبا 2025    الهيئة المغربية للمقاولات الصغرى تعلن تأسيس شبكة وطنية لتعزيز التعاون بين الهيئات والجمعيات المهنية    الدولي المغربي إلياس شعيرة يوقع لريال أوفييدو حتى سنة 2028    سقوط نحو 800 شهيد في غزة أثناء انتظار المساعدات منذ أواخر ماي الماضي وفقا للأمم المتحدة        أثنار: شيراك طلب مني تسليم سبتة ومليلية إلى المغرب خلال أزمة جزيرة ليلى    محكمة طنجة تصدر حكمها في قضية "هتك عرض" فتاة قاصر    الجزائر ضمن "لائحة أوروبية سوداء"    "عقوبات محتملة" ترفع أسعار النفط    بإجماع أعضائها.. لجنة التعليم بالبرلمان تصادق على مشروع قانون "مؤسسة المغرب 2030"    بعد رحيله.. مودريتش: سأظل دائما أنتمي لريال مدريد    يوعابد ل"برلمان.كوم": المغرب مقبل على موجة حر تصاعدية وانخفاض نسبي في الحرارة نهاية الأسبوع    أسرة ضحية قاصر ترفض حكما "مخففا"    الرباط الصليبي يبعد لبحيري عن الميادين    شيرين تتجاوز أزمة موازين ب "حدوتة"    الجزائر على قائمة الاتحاد الأوروبي السوداء للدول عالية المخاطر في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب    الدار البيضاء.. السكوري يدعو إلى إصلاح مدونة الشغل بما يتلاءم مع التحولات المجتمعية والاقتصادية    كلمة السر في فهم دورة العمران و عدوى التنمية بشرق أسيا..    زلزال الحوز: القيمة الإجمالية للدعم والمساعدة تجاوزت 6.6 مليار درهم.. وأكثر من 46 ألف أسرة استكملت بناء منازلها    باحثون بريطانيون يطورون دواء يؤخر الإصابة بداء السكري من النوع الأول        الدار البيضاء تحتضن أول لقاء دولي مخصص لفنون الطباعة المعاصرة الناشئة    بنعبد الله: "مسيرة آيت بوكماز تجسد تعبيرا حيا عن تدهور المستوى المعيشي لفئات اجتماعية واسعة"    اتفاقية شراكة بين العيون وأكادير لتعزيز ثقافة الصورة وتثمين القيم الوطنية بمناسبة الذكرى ال50 للمسيرة الخضراء    تحذير رسمي لمؤسسة إسلامية في بريطانيا بسبب مقطع يدعم حماس    فتح الله ولعلو في حوار مع صحيفة "الشعب اليومية" الصينية: المغرب والصين يبنيان جسرًا للتنمية المشتركة    تقرير للأمم المتحدة يظهر عدم وجود "علاقات نشطة" بين الدولة السورية وتنظيم القاعدة    فضيحة تهز أركان حزب الأحرار بطنجة    في ضيافة أكاديمية المملكة .. مانزاري تقرأ الأدب بالتحليل النفسي والترجمة    الإنسانية تُدفن تحت ركام غزة .. 82 شهيدًا خلال 24 ساعة    نوستالجيا مغربية تعيد الروح إلى شالة في موسم جديد من الاحتفاء بالذاكرة    عدد المستفيدين من برنامج دعم السكن بلغ 55 ألفا و512    الحكومة تصادق على مشروع قانون لحماية الحيوانات الضالة والوقاية من أخطارها    السجال السياسي‮ ‬بين‮ ‬«يوتيوب» وخامنئي!‮‬ 2    دراسة ترصد أمراض البشر منذ 37 ألف عام وأقدم طاعون في التاريخ    دراسة كندية: التمارين المائية تخفف آلام الظهر المزمنة    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل يعيد "كورونا" النظر في درس التاريخ الاجتماعي بالجامعات؟
نشر في هسبريس يوم 13 - 06 - 2020

قال مصطفى نشاط، أستاذ التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول بمدينة وجدة، إن "ما كتب في موضوع تاريخ الأوبئة والمجاعات والكوارث يشي بأن الحصيلة هزيلة جدا ًعن ظواهر بنيوية أرّقت المغاربة عبر تاريخهم، وحكمت-ضمن عوامل أخرى-على اقتصادهم بأن يبقى اقتصاد ندرة أو قلّة".
وأضاف نشاط، في مقالة تحت عنوان "الدرس التاريخي بالجامعة المغربية: نظرات بيداغوجية على ضوء تاريخ الأوبئة ونازلة كورونا"، أنه "رغم أن الأوبئة والمجاعات وباقي الكوارث حضرت بشكل بنيوي في تاريخ المغرب، فإن دراستها قد تفيد في تكوين طالب يتفاعل إيجابيا مع محيطه ووطنه".
وإليكم المقالة:
تتغيا هذه الورقة بسط بعض الانطباعات التي عنّت لي من خلال تتبع لأهم الأوبئة والكوارث التي ضربت المغرب عبر تاريخه، واستحضارا لنازلة "كورونا"، في علاقة مع الحيّز الذي يحظى به تدريس هذا الموضوع بشعب التاريخ بالجامعة المغربية.
ومن أجل بسط هذه الانطباعات، بدا لي توطينها من خلال العناصر التالية:
- في الحاجة إلى إعادة النظر في درس التاريخ الاجتماعي بالجامعة المغربية.
-استثمار بعض الدروس من تاريخ الأوبئة والكوارث في أفق بناء طالب مواطن إيجابي.
- تعليم الدرس التاريخي عن بعد بالجامعة المغربية زمن كورونا.
وقبل كل ذلك، قد يكون من المستحسن الوقوف عند مصطلح كثُر رواجه في تلازم مع وباء كورونا الذي اجتاح العالم على حين غرّة، وهو مصطلح "الجائحة". فالجائحة لغة هي ما يصيب المال فينقصه أو يستأصله، وبذلك ينصرف معنى الجائحة إلى ما له علاقة بهلاك المال، وليس إلى الوباء المنتشر، كما يفيد معنى الكلمة في الفرنسية "Pandémie". ونقرأ في الموسوعة الفقهية أن الجائحة هي "كل شيء لا يستطاع دفعه لو علم به، كسماوي، كالبرد والحر، ومثل ذلك ريح السموم والثلج والمطر والجراد والفئران والغبار والنار ونحو ذلك..."، ويتبين أن الجائحة تشمل كل إتلاف للممتلكات لا دخل لفعل الإنسان فيه، وقد استثنى بعض الفقهاء معنى الجائحة ممّا يصدر عن فعل آدمي كالسرقة. وقد انتقل استعمال مفهوم الجائحة لدى العامة للدّلالة على السلوك السلبي، إذ تحضر لدى الشخص "الجايح" أو من "ضربته الجايحة" صفات اللامسوؤلية واللامبالاة والخمول.
1. في الحاجة إلى إعادة النظر في درس التاريخ الاجتماعي بالجامعة المغربية:
تتوافر الخزانة التاريخية على عدد محدود من المنشورات ذات الصلة المباشرة بموضوع تاريخ الأوبئة والكوارث والمجاعات والقحوط، ويمكن عدّها على رؤوس الأصابع، وعرضها كالتالي اعتمادا على ترتيب تاريخ صدورها:
- محمد أمين البزاز، الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19 م (1992).
- الحسين بولقطيب، جوائح وأوبئة مغرب عهد الموحدين (2002).
- مجموعة مؤلفين، ضمن ندوة المجاعات والأوبئة في تاريخ المغرب، منشورات الجمعية المغربية للبحث التاريخي (2004).
- تريا المرابط أزروال، الزلازل الكبرى بالمنطقة المغاربية ومخلفاتها على الإنسان ومحيطه (2005).
- عبد الهادي بياض، الكوارث الطبيعية وأثرها في سلوكيات وذهنيات الإنسان بالمغرب والأندلس (2008).
- برنار روزنبرجي وحميد التريكي، المجاعات والأوبئة في مغرب القرنين 16 و17م، ترجمة الأستاذ عبد الرحيم حزل (2010).
- بوجمعة رويان، الطب الكولونيالي بالمغرب 1912-1945 (2013).
تنحصر هذه الحصيلة فيما هو منشور عن الموضوع، وإلا فثمة بعض الأعمال غير المنشورة عنه ما تزال مرقونة، وهذا ما يطرح تساؤلا عن جدوى مناقشة بعض الأعمال الأكاديمية، لتبقى حبيسة رفوف المكتبات الجامعية، وهلاّ تمّ التفكير في نشرها إلكترونيا لتعمّ الاستفادة منها.
إن ما كتب في موضوع تاريخ الأوبئة والمجاعات والكوارث يشي بأن الحصيلة هزيلة جدا ًعن ظواهر بنيوية أرّقت المغاربة عبر تاريخهم، وحكمت-ضمن عوامل أخرى-على اقتصادهم بأن يبقى اقتصاد ندرة أو قلّة.
وانعكست هذه الهزالة على ضعف ما يحصل عليه الطالب المغربي من تكوين في التاريخ الاجتماعي، ولعل نظرة إلى المجزوءات المُدرّسة بشعب التاريخ بالجامعات المغربية، تسمح بالقول بأن التكوين منصبّ أساسا على ما له صلة بالتاريخ السياسي للدول المتعاقبة على تاريخ المغرب، دون ربطه بما كان يعتمل به من أفعال وعوامل اجتماعية أو اقتصادية، بل أن حتى ما يكتسبه الطالب من تكوين في التاريخ السياسي، يتّسم بوجود بياضات عن بعض الحلقات والفترات، بله بعض العهود، وذلك في ظل تقلّص عدد الحصص مع الدخول في نظام الفصول الذي يسمح في أحسن الحالات بعدد يتراوح ما بين 10 و14 حصة.
وإذا استحضرنا ما يفرضه هذا النظام الجامعي من اقتطاع لمدة غير قصيرة من الزمن الجامعي من أجل تحضير الامتحانات وإعدادها والإعلان عن نتائجها، تبيّن بالملموس أن الطالب الذي يقتصر على البرنامج المقروء، قد يحصل على الإجازة ويغادر مدرجات الجامعة وهو يحمل تكوينا مبتورا عن تاريخ بلاده. ولنا أن نسأل طلبتنا عن معلوماتهم عن بعض الإمارات التي حكمت المغرب قبل المرابطين، مثل إمارة بني مدرار بسجلماسة أو إمارة نكور، أو إمارة الوطاسيين الذين حكموا المغرب بعد ضعف دولة بني مرين.
ويبدو أن نازلة كورونا قد أجبرت المغاربة قهرا على معرفة ماضيهم ومدى حضور الأوبئة به. مصداق ذلك أن من أكثر الكتب التي تمّ تحميلها منذ الزيارة غير المرغوب فيها لهذا الوباء، الكتاب/الأطروحة للمرحوم البزاز. ولعل من أهم ما قد يفسر هذه العودة القهرية للمغاربة إلى تاريخ الأوبئة لديهم، عاملان اثنان هما:
- إن المغاربة–لربما-لم يعيشوا، باستثناء ما عاشوه خلال زلزال اكادير وزلزال الحسيمة اللذين كانا محليين، أزمة هلع مثل التي يمرون بها حاليا مع اجتياح وباء كورونا، وذلك منذ سنة 1944-1945 المعروفة لديهم بعام "البون" التي تزامنت مع قحط كبير، زاد من حدته استنزاف فرنسا لموارد المغرب لتغطية حاجياتها في الحرب العالمية الثانية.
- قد يكون كورونا أكثر وباء عبر التاريخ حظي بهذا الزخم من الكتابة، إذ إننا إزاء كتابات عن هذا الوباء مسّت كل جوانبه، وعقدت حوله ندوات ولقاءات افتراضية عديدة، وقد لا نبالغ إذا اعتبرنا هذا الزخم المتوافر عنه وصل إلى حد ّالتخمة. ولعل أهم ما ساعد على ذلك، أننا أمام عولمة للوباء وتطور لا مثيل له في باب الاتصال والتواصل والحصول على المعلومة. يحصل كل هذا علما بأنه أقل فتكا مقارنة مع أوبئة سابقة، ولم يصل بالمغرب مثلا إلى مستوى عدد الضحايا التي تخلفها حوادث السير التي تبلغ في المتوسط 10 ضحايا يوميا، أي ما يعادل 300 ضحية شهريا.
لقد أصبحت الحاجة ماسة إلى إعادة النظر في الدرس التاريخي بالجامعة المغربية، وذلك بإيلاء مزيد من الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي، ومن ضمنه تاريخ الأوبئة والكوارث الطبيعية التي بدونها قد لا نستوعب بعض الأسباب الحائلة دون حصول الإقلاع. وبمراعاة كيفية استقبال بعض المغاربة للوباء الحالي، تبدو الحاجة ماسة أيضا لتدريس تلاميذنا وطلابنا مجموعة من الصفحات المشرقة من تاريخنا من أجل التحسيس والمعرفة التاريخية وتغيير بعض المسلمات. ويمكن بلورة هذه الحاجة من خلال بسط الاستفهامات التالية:
- لماذا لا تبرمج في المقررات الدراسية رسالة لسان الدين بن الخطيب "مقنعة السائل عن المرض الهائل" التي كتبها للردّ على منكري العدوى لمّا اجتاح وباء الطاعون الجارف بلاد المغرب والأندلس في عصره؟ لم يكن ابن الخطيب شاعرا ومؤرخا وأديبا وموسيقيا فحسب، بل كان أيضا طبيبا مجرّبا، وقد ألف عشرة كتب في الطب، لعل أهمها كتاب "عمل من طبّ لمن حبّ" الذي عرف فيه بمختلف الأمراض السائدة في عصره وطرق الاستشفاء منها. وأما رسالته في الطاعون فلعلها أوفى رسالة علمية تدافع عن الحجر الصحي ومشروعيته الطبية والدينية.
- لماذا لا يتم تدريس التفسير العلمي لابن رشد الحفيد (ت 595ه) لحدوث الزلازل كما بسطه في كتابه "تلخيص الآثار العلوية"؟
- لماذا لا تُخصّص حصة للوقوف عند مارستان لعلاج الجذمى بناه المنصور الموحدي بمراكش، وقد كان بمواصفات علمية وعالمية، في فترة كانت فرنسا تحرق أو تقتل المجذومين بصفة جماعية؟ أو تخصص حصة لدراسة مارستان سيدي فرج الذي أسسه السلطان المريني بفاس لعلاج المرضى المجانين، ومن طرق العلاج المتبناة به زيارة فرقة موسيقية مرتين إلى المارستان، تكريسا لعلاج الأمراض النفسية والعقلية بالموسيقى؟
- لماذا لا يتم تدريس رسالة السلطان المنصور السعدي إلى ابنه أبي فارس لمّا حلّ الطاعون بمراكش، فأمره بترك قصر المدينة والعيش بالخيام وعدم لمس أي رسالة تصله قبل أن يغمسها في الخل، وهذه كلها إجراءات تدخل في باب التعقيم والاحتراز من العدوى؟
لعل من أهم تداعيات كورونا تأثيرها على نفسية المغاربة بشكل لم يألفوه-خاصة أن الهلع قد يؤثر سلبا على المناعة-وقد لاحظنا درجة الهلع الذي ألمّ بهم لمّا فاجأهم، وازداد منسوب الهلع مع دخولهم في الحجر الصحي، حتى إن المرء أصبح يتوجّس من أيّ كان خوفا من حمله للفيروس. وقد يكون من أهم مطالب الدرس التاريخي الاهتمام بالتأريخ النفسي الاجتماعي والانكباب على تاريخ الأحاسيس والمشاعر باعتباره جزءاً من تاريخ الذهنيات، على غرار ما أنجزه "جون دوليمو" عن الخوف بالغرب (Jean Delumeau, La peur en Occident du 14 au 18 siècles).
ولا يبدو أن الخزانة التاريخية المغربية تتوافر على دراسة أكاديمية مماثلة تبحث في تاريخ الخوف بالمغرب ضمن المدة الطويلة، علما بأن التونسي محمد العادل لطيف حاول أن ينبش في تاريخ الظاهرة ببلاد المغرب في العصر الوسيط، غير أن دراسته ركزت أكثر على إفريقية (تونس). والواقع أن المغربي عبر تاريخه الطويل ظل يبدي مشاعر الخوف تجاه عدة مظاهر، مثل الخوف من البحر أو المخزن أو الأسود أو الأرواح الشريرة، وبطبيعة الحال من تأثيرات الأوبئة والمجاعات والقحوط والكوارث.
وتبقى الحاجة ماسة إلى تطعيم الدرس التاريخي الجامعي عن الأوبئة والمجاعات وباقي الكوارث بما هو وارد ببعض الدراسات الأكاديمية العالمية الجادة من تفسيرات للظاهرة. ويمكن أن نمثل في هذا السياق بالتفسير الذي أورده الأميركي "شلدون واتس" في كتابه "الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة الامبريالية"، حيث تحدث عمّا أسماه "محرقة وباء الجذري". ذلك أن هذا المرض أدخله الأوروبيون عقب الاكتشافات الجغرافية الكبرى إلى الأميركيتين، مما أفضى إلى مقتل 80 بالمائة من السكان الأصليين من الهنود الحمر، لأن مناعتهم ضد المرض كانت منعدمة باعتباره مرضا جديدا وغريبا على أجسامهم وأرضهم، وبالتالي كان الجذري "أداة قوة امبريالية".
كما أن عولمة وباء كورونا تقتضي إعادة النظر في التحقيب التاريخي. ولا ريب في أن التحقيب الذي هو ليس عملية تقنية، وإنما وعي بالزمن، يحتاج إلى المراجعة مع تغيير المعطيات والأحداث التاريخية. لقد دأبنا في دراسة التاريخ من المدرسة إلى الجامعة على الأخذ بالتحقيب السائد الذي يقسم الماضي إلى حقب القديم والوسيط والحديث والمعاصر، وهو تحقيب أوروبي بالكامل، إذ كل الأحداث المفصلية التي استند إليها في تقسيم الماضي إلى حقب ترتبط بالتاريخ الأوروبي، انطلاقا من سقوط روما، فعصر النهضة، فالثورة الصناعية، ووصولا إلى سقوط جدار برلين... وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن غياب حضارات مهمة في التاريخ البشري من هذا التحقيب، مثل الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية على عهد أسرة "تانغ" اللتين شهدتا تطورا ملحوظا في العصر الوسيط، مقارنة مع ما كانت عليه الأوضاع بأوروبا.
2. استثمار بعض الدروس من تاريخ الأوبئة والكوارث في أفق بناء طالب مواطن إيجابي:
رغم أن الأوبئة والمجاعات وباقي الكوارث حضرت بشكل بنيوي في تاريخ المغرب، إلا أن دراستها قد تفيد في تكوين طالب يتفاعل إيجابيا مع محيطه ووطنه. ويمكن أن نوطن مجالات هذه الاستفادة من خلال مظهرين مستوحيين من تاريخ الأوبئة ومن نازلة كورونا.
- كيف تأتى للمغاربة الصمود إزاء الأوبئة؟
من المعلوم أن البشرية ظلت تعاني من فتك كثير من الأوبئة قبل أن يهتدي العلماء إلى تلقيحات ضدها في القرن 19م، كما هو مع التلقيح ضد الكوليرا سنة 1884 وضد الطاعون سنة 1894. وقد تمكن المغاربة من التكيف مع الأوبئة بطرق وبآليات مختلفة، وبما أن هذا الموضوع طُرق مؤخرا كثيرا، نشير بعجالة إلى أهم تلك الآليات:
آلية العودة إلى الطبيعة (حسب تعبير روزنبرجي)، إذ كلما حلّت مجاعة بالمغاربة، كانوا يجدون في الحشائش والنباتات الطبيعية الملاذ للتخفيف من آثار المجاعة عليهم. ومن بين أهم أغذية الجوع، يبرز نبات "ايرني" (البگوگا-تابگوگت)، وهي عبارة عن بصيلة كان أجدادنا يحفرون عنها ويجففونها، ثم يطحنونها ليصنعوا منها خبزا، وما هو بالخبز. ولعل من المفيد التفكير في جمع تراث الخصاصة والمسغبة في تاريخ المغرب، مثل الأدوات المستعملة في الحفر عن الحشائش... وكذلك مجموعة الأهازيج والأمثال التي كانت متداولة لدى المغاربة للتعبير عن تلك السنوات العسيرة.
آلية الاستفادة من المخازن الجماعية (أكادير-أجدير...) التي يمكن اعتبارها شكلا من أشكال النظام البنكي المتقدم في عصرها تحسّبا للسنوات العجاف. وأكتفي بالإشارة إلى أن جبال بني يزناسن احتضنت العديد من المطامير التي أقامها أجدادنا تحقيقا لهذا المقصد ودرأً للهجمات الاستعمارية الفرنسية، وكانت منطقة "غونان" من أهم المناطق المتوافرة على تلك المطامير، وهذا مجال قد يوظف في إطار زيارات ميدانية تدعم الدرس التاريخي الجامعي...
آلية التآزر الاجتماعي الذي أبان عنه المغاربة كلما حلّ بهم مكروه، وهذا التلاحم كان يتحقق أفقيا بين مختلف الشرائح الاجتماعية أو عموديا بين المخزن والسكان. وهذا أمر برز مع وباء كورونا الحالي، مما أسهم إيجابيا في ارتفاع منسوب الثقة بين المغاربة.
- تعامل المغاربة مع مسألة الحجر الصحي:
يبدو من خلال تاريخ الأوبئة ومن خلال تداعيات كورونا أن الحاجة تقتضي استحضار اللقطات العلمية الإيجابية في موقف المغاربة من الأوبئة. إن العودة إلى معظم آداب الطواعين والنوازل المغربية التي استُفتي فيها عن حلول الوباء ببلد ما، تدفع إلى القول بأن الاتجاه الطاغي بها هو ذاك الذي دعا إلى الاستسلام للوباء وعدم الفرار منه.
والظاهر أن أهم كتاب تأثرت به تلك الآداب وتلك النوازل هو كتاب "بذل الماعون في فضل الطاعون" لابن حجر العسقلاني (ت 852 ه)، علما بأنه تمّ اجتزاء ما يسمح بتدعيم ذلك الاتجاه، ولم يُلتفت إلى تأكيده في مقاطع أخرى على ضرورة الابتعاد لتفادي العدوى، ومن ذلك ملاحظته عن خروج الناس عند نزول الوباء الجارف (الطاعون الأسود) وهم يصرخون صراخا عاليا "فعظم الطاعون بعد ذلك وكثر".
إن الاتجاه الذي ينكر العدوى لا ينسجم بتاتا مع دعوة الدين الإسلامي إلى حفظ النفس. مصداق ذلك الآية 195 من سورة البقرة: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، وأحاديث نبوية تدعو إلى الاحتراز من الوباء.
ومن الجدير بالإشارة وجود سابقة لتعطيل أداء الصلوات بالمسجد في تاريخ المغرب، وقد تزامنت-حسب القادري في نشر المثاني-مع غياب الأمن زمن ضعف السلطة السعدية سنة 1631م، "ولم تُصلّ الجمعة ثالث رمضان وعطلت التراويح وصلى ليلة القدر رجل واحد".
يعزّز ما نعيشه حاليا مع وباء كورونا ومقارنته بما عاشه المغاربة في مواجهتهم التاريخية الطويلة مع الأوبئة مقولة أن التاريخ يكتب من الحاضر. ولم يعد المؤرخ مجرد نابش عن الموتى وأخبارهم، بل هو مطالب بالانخراط في عصره ومعني بهمومه.
وإذا كانت كتابة التاريخ تستوجب وجود مسافة زمنية بين المؤرخ والأحداث التي يؤرخ لها، فإن ما يعتمل حاليا بفعل تداعيات كورونا يقتضي منه طرح الأسئلة عمّا يجري ومحاولة أن يفهمه في ظل الدرس التاريخي، ويترك التنبؤات والتفعيل لأهل الفكر الاستراتيجي ولأهل السياسة.
إن المؤرخ فعلا–كما شبّهه لوروا لادوري-هو بمثابة المنجمي الذي يغوص في أعماق الأرض ليستخرج منها المادة الخام ويقدمها لغيره لاستغلالها، لكنه في مثل الرّجّات التي تحدث في العالم، أو في سباق ما يسميه ابن خلدون بالتغير "بالمباينة"، لا يجب عليه أن يقف موقف المتفرج حيال ما يجري حوله، بل يدلي بدلوه من خلفية الدرس التاريخي.
وقد علّمنا التاريخ أن أوروبا تمكنت من إيجاد سبل الإقلاع كلّما حلّت بها أزمة من الأزمات، وهو ما عبّر عنه "بيير شوني" بضرورة رفع التحدي. هكذا نلاحظ –مثلا-أن خروجها من حقبة العصر الوسيط جاء بعد أن شهدت أزمتين حادتين، هما الطاعون الأسود والأزمة النقدية الناتجة عن ضعف مخزونها من الذهب.
3. تعليم الدرس التاريخي عن بعد بالجامعة المغربية زمن كورونا:
فرض هذا الوباء على البشرية سلوكات تقتضي أن كل شيء أصبح يتم عن بعد، بما في ذلك منظومة التعليم. والواقع أن لا أحد كان يتوقع أن تنتهي السنة الجامعية بما انتهت إليه بعد انطلاق الدورة الربيعية منها. ولحلّ معضلة توقف الدراسة، تبنى الدرس الجامعي تقنية التعلم عن بعد. وجرى تصريف الدروس المتبقية عبر وسائط متنوعة، منها وضع مقررات بالموقع الالكتروني للمؤسسة الجامعية وتسجيل دروس على "يوتيوب" والقيام بتسجيلات صوتية للمجزوءات المبرمجة بالإذاعات الجهوية والمركزية.
لا يمكن أن ننكر بعض المزايا التي يتيحها التعلّم عن بعد، إذ سمح بمرونة في تدبير الدرس الجامعي في الزمان والمكان، وفسح المجال للطالب لتدبير مسألة الوقت وفرض نهج التواصل عليه، واستخدام الوسائل التكنولوجية بالاعتماد على نفسه وهو منزو بمنزله.
غير أن مجموعة من الإكراهات قد تقف دون الاستفادة الكلية من الوسائل التكنولوجية المتطورة في التعلم عن بعد، وأركز هنا على ما يتعلق بالدرس التاريخي الجامعي. لعلّ من أكبر المعضلات التي تعاني منها المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح غياب كثير من طلبتها عن المحاضرات بغياب آليات ملزمة لحضورهم. وقد لا يكون من المبالغة القول إن نسبة الحاضرين منهم للدروس والمحاضرات قد لا تتجاوز في أحسن الأحوال العشر من نسبة المسجلين، وقد تعادل نسبة الحاضرين للامتحانات نسبة الغائبين عنها.
والحالة هذه أن كثيرا من الطلبة الذين لم يتمكنوا من حضور المحاضرات قد يجدون في التعليم عن بعد ضالتهم لاستدراك ما فاتهم من دروس متى شاؤوا بالرجوع إلى ما سُجل منها. ويبقى المشكل مطروحا عن ضمان رجوع كل الطلبة للدروس والمحاضرات إذا لم تُفعّل-على غرار بعض الدول الغربية مثل كندا-آليات لإلزام الطلبة على الحضور وتسجيلهم بمنصات التعليم عن بعد.
ثم إن التعليم عن بعد لا يمكن أن يكون بديلا للتعليم الحضوري. وإذا كان التعليم عن بعد قد فرض نفسه في هذا الظرف الاستثنائي، وإذا كانت ضرورة مواكبة التطورات التكنولوجية تُحتّم الانخراط فيما تتيحه على مستوى العملية التعليمية، فإن "كاريزما" الأستاذ والتواصل معه ومع باقي الطلبة تحتفظ بأولوية التعليم الحضوري، وتجعل من التعليم عن بعد مكمّلا له.
لقد فاجأ وباء كورونا الجميع، ويتحتّم على الجميع التحسّب لما بعده بمختلف الميادين، ولا مناص من تسريع وتيرة عملية التحول الرقمي بالمنظومة الجامعية.
ويقتضي تجويد التعليم عن بعد، التوافر على مجموعة من المقتضيات اللوجيستيكية، كالرفع من صبيب الانترنيت تفاديا لأي خلل تقني، وانخراط شركات الاتصال في العملية.
وأما مسألة توافر الطالب على الحاسوب، فقد لا تشكل معضلة قائمة–كما هي بالتعليم الابتدائي أو الثانوي-مادام أن عدم حيازة الطالب أو الطالبة للهاتف المحمول قد تبدو غير واردة بالتعليم الجامعي. بينما يبقى التفكير في تكوين مستمر للأستاذ وللطالب على استخدام الوسائل التكنولوجية المعاصرة في العملية التعليمية أهم رهان يجب العمل على تطويره.
تلكم بعض الانطباعات التي عنّت لي عن الدرس التاريخي بالجامعة المغربية من خلال تاريخ الأوبئة ونازلة كورونا. وما أحوجنا إلى تقديم تجارب أخرى من الدرس ذاته، أو من حقول وتخصصات جامعية أخرى استشرافا لتجويد الدرس بالجامعة المغربية ما بعد كورونا الذي لا مراء في أنه خلخل العالم برمته على مختلف المستويات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.