تعد الحوارات الخالصة في الرواية من أهم تقنياتها الأسلوبية التي تستند إليها لتبرز التعدد اللغوي واختلاف الرؤى داخل الرواية، ولهذا يؤكد باختين "أن التجاوز الحواري للغات الخالصة إلى جانب التهجينات في الرواية هو وسيلة لخلق صورة اللغات"، على أساس أن هذا المفهوم لا يقيم قطيعة مع المفاهيم الأخرى، بل يتلاحم معها إن لم يقل يشملها جميعا، فما دام هناك تقاطع للغات في الحوارات المباشرة وحضور تفاعلي بينها في الحوار أقوى منه في الأسلوب غير المباشر للسارد. وعليه، يكون الحوار الخالص محتويا للتهجين ولأشكال الأسلبة السابقة، ذلك أنه في الخطاب غير المباشر لا يمكن أن تستحضر تلك التداخلات اللغوية بأشكالها المتنوعة إلا في أجزاء من التعابير وأنصاف لغات الشخصيات. كما أن الحوارات الداخلية المونولوجية تعتبر حوارات منفتحة على تعدد في وجهة نظر الشخصية الواحدة، ما دامت تتسلل إلى كوامن الذات، وتتعمق في الأشياء وتسائلها بمنظور نقدي ذاتي آخر. ولتوضيح هذه الفكرة، نمثل لها ببعض النماذج من رواية سلمى مختار أمانة الله "ولي النعمة"، حيث تقوم على تشييد علاقات حوارية متوالدة ومتجانسة بين اللغات فيها، وإحالة لغة على لغة، وتنصيب إحدى اللغات مركزا والأخرى محيطة بها. تستهل الرواية بحوار داخلي يناجي فيها السارد ذاته وذوات الآخرين حيث قدم المشهد الروائي بتعريف للخيال باعتباره سوى واقعا مبهما يحيا في دواخل الإنسان في صمت، دافعا إياه إلى الزاوية المظلمة للعدم، تاركا الإنسان يتخبط بين القلق الوجودي وقلق البدايات. وما يؤكد هذا القلق من البدايات تساؤل السارد عن " كيف الخلاص من هذه الحياة الوقحة التي بدل أن تلفظك بشهامة خارجها كأي رحم حياة سوية تعاف احتضان الموت، تقوم بفك الزار عن سكون روحك، لتتركك عاريا من طمأنينتك، وحيدا أمام قسوة لسعات نفسك، مكبلا بعجزك وجبنك وقلة حيلتك، خيار سافل حقير يخيرك بين عيشك ميتا أو موتك حيا". يتضح من ملفوظ السارد أن صوتا ما يتسرب إلى نفسه، صوت يتقمص دور الممزق ويجادله في كينونته، هل هو حقيقي أم وهم؟ ليعيده هذا الصوت من الوعي الغارق في الأحلام والخيال إلى الوعي الواقعي، أي بين العيش ميتا أو الموت حيا. لقد أتاح هذا الحوار الداخلي للشخصية أن ترى فقط ما تعرفه عن نفسها في هذه اللحظة بالذات، ليأتي تبني ضمير المخاطب- المحيل على الذات – في ملفوظات ( تتركك، طمأنينتك، نفسك، عجزك…) واستثمار عبارات مستمدة من السجل الوجداني للشخصية وما يحمله من شحنات سيكولوجية ونبرة تمزق قاتلة، ويأس كامل، ومرارة خانقة من الحياة ومن الموت. ويتمثل الصوغ الحواري في المقطع أعلاه، في كون الشخصية الساردة تعبر بملفوظات استفهامية تُسائل الحياة لماذا ترميها عارية وحيدة من دون اطمئنان، إلى درجة جعلت الحزن أبكما لا يشير إلا بصمته وكأن الصمت بؤرة موازية للموت والقلق في جُوّانِية السارد. ولما للحوار من طابع حواري تفاعلي يميل في بعض الأحيان إلى الجدالية بين شخصيات العمل الروائي أو بين الشخصية مع نفسها، فإننا سنمثل بهذا الحوار البرَّاني الخالص من الرواية: "- الكذوب والخزعبلات والضحك على الدقون والبارح بحال اليوم بحال غدا، والله ما نقضيو على الفساد وسياسة الريع والمحسوبية لاطفرناه. – بدا براسك أمولاي تهامي… قل لي بعدا مالك كافر؟ – مشيت نصحح واحد الإمضاء هاد الصباح مع تسعود ونص زعما، مالقيت حتى واحد في المقاطعة… أنا والراية والريح وواحد المخزني كيعمر أتاي للقايد. – (…) (القروض) أصاحبي هما سبابنا (…) – تعقل على هذاك مول اللحية لي كان كيقيل يحلل ويحرم ويلعن ويسب في القروض البنكية الرباوية كما كان يقول؟ – العوني الفقيه مالو؟ – وانت هو الفقيه أسي… السيد حسن لحيتو وقلبها كرافاط وكوستيم وخدم سيكريتر (أمن) في شي ملهى ليلي. – قبح الله الفقر والحاجة – قبح الله النفاق والتمثيل وركوب الموج أما الفقر فنحن كلنا مساهمين فيه – (…) راه ماشي غير اللحية لي خصو يحسن لاباس لي ماعملش شي عملية د التحول ههه وقت النسا والزين هادي أصاحبي ". يتخذ هذا الخطاب شكل حوار خالص بين شخصيتين في الرواية، وهو حوار ينزاح عن موضوع المناجاة وعن قيمة الحب والعواطف، إلى موضوع يعالج القضايا الاجتماعية والواقع المعيشي بالمغرب، كالفقر والفساد والرشوة والزبونية والانتهازية والمثلية… مما يتيح للصوغ الحواري التعمق والتوغل في أصوات الشخصيات، لما تحمله من تنوع وعيي واختلاف في الرؤى، متمكنة بذلك الدخول في صراع فكري، وجدال في وجهات النظر. ومن ضمن هذا التباين في الرؤى والأحاسيس والأولويات، هناك خطاب أم الصحفي عبد الغني الضعيف التي تفضل المال على العلم، والمكانة المادية على المكانة المعرفية، مستشهدة بابن خالته يطو الذي سافر إلى إيطاليا وجلب معه سيارة واشترى بقعة لأمه في ظرف عام. جاهلة أن أولويات ابنها الصحفي هي المعرفة والكتابة في الصحيفة وتوعية الناس وفضح الفساد. إن هذا الحوار الداخلي لدليل على التعدد اللغوي والدلالي بين الشخصيات، وعلى التباين في وجهات نظرهم، وما تخفيه من صراع حواري يعكس بذلك ظاهرة الأسلبة التي تتراوح بين وعيين وصوتين، واحد مُضمَّن في الثاني، لهذا نجد أن كل شخصية في هذا الحوار تحمل اللغة الموضوع وصوتها. وسيرا على هذا النهج، نجد في فصل تفوكت بالصفحة 121 حوارا داخليا لحبيبة الصحفي حيث تصرخ أمام العالم: " أنا وحدي حبيبته هذا الصحفي الكبير الذي تتنازعون كتاباته وأخباره وجديده أنا وحدي حبيبته هو شاعري وفارس أحلامي أنا ملاذ حزنه، خزنة أسراره، مخدع قلقه(…) عمره الذي كان وعمره الذي سيكون. أنا وحدي حبيبته (…)" تكشف هذه الصيغة الحوارية عن الصورة النفسية للمتكلم، كما تبرز نواياها، مما يجعل تداعي الأفكار والأحاسيس تنمي رغبة في استبطان الذات وموقع الشخصية وتميزها، إذ لم تعد عشيقة الشاعر الصحفي تخاف من الآخر وكلامه ولا من نظراته، فقد التحمت مع حب عشيقها إلى درجة التوحد والكمال والتأليه، والدليل على ذلك خطاب الصحفي لها بأن من يعشقها شاعر موعودة بالخلود. لقد قامت اللغة في الرواية بدور التقنع في أقنعة متعددة، جعلت منها وعاء يضم الكثير من الرؤى والإيديولوجيات والمواقف، وقبرا تدفن فيه الحكاية كما نجد في هذا الاعتراف في الفصل الأخير "الرسالة" من الرواية: " ها أنا أنجح أخيرا في التخلص من الحكاية، لأدفنها في قبر اللغة السحيق، بعد أن ضاقت بها علبة الألوان القاتمة". على هذا الأساس، فإن هذا الإجراء الحواري الحاضر في رواية سلمى مختار أمانة الله، قد منحها طابع الانفتاح على لغات وأصوات ومواقف متنوعه، ودمجها لأجناس تعبيرية وخطابية مختلفة دمجا قصديا، بهدف التعبير عن صراع الرؤى وتضارب أشكال الوعي والتناقضات الاجتماعية والعاطفية والفكرية، وكل ذلك بوعي مُؤسلِب يكشف عن زوايا النظر المتباينة في العمل الروائي، وعن مستويات اللغة داخله التي تقوم على جوانية التحاور وبرانية الحوار. مصادر: ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة وتقديم: محمد برادة: ،دار الأمان للنشر والتوزيع، الرباط، ط2، 1987، ص. 112. 2 نفسه، ص. 74. 3 نفسه، ص. 48. 4 – سلمى مختار أمانة الله: ولي النعمة، مطبعة دار القلم، الرباط، ط1، 2018، ص 9. 5نفسه، ص 14. 6- نفسه، ص17. 7 – سلمى مختار أمانة الله: ولي النعمة، مرجع سابق، صص، 32-34. 8- نفسه، ص 35. 9- سلمى مختار أمانة الله: ولي النعمة، مرجع سابق، ص 120. 10 – نفسه – ، ص121. 11-نفسه، ص 198.