اللغة في الرواية خاصة والسرد عامة هي لغة اجتماعية، وكل صوت هو حامل لوعي ما، باعتبار كل كلمة في تمظهرها داخل الرواية والقصة تكون مشحونة دائما بمضمون أو بمعنى إيديولوجي أو وقائعي(1) وبهذا فباختين يعتبر أن صورة اللغة في الرواية والسرد هي صورة منظور اجتماعي، أي صورة لفئة اجتماعية معينة متشبثة بخطابها ورطانتها وأساليبها، تعمل على بث إشارات تساعد على إبراز الفوارق الاجتماعية والطبقية، أو العمل على توجيه ملاحظات مباشرة من طرف المؤلف إلى خطابات شخصياته السردية والتعليق عليها.(2) إلا أن الصورة الحقيقة للغة ليست هي الملاحظات الغيرية والإشارات الخارجية التي يوجهها المبدع لشخصياته، وإنما يعود خلف صورة اللغة الحقيقة إلى طابعها الحواري بين صوتين مختلفي الوعي، أو لغتين متباينتي الرؤيا، ومن صورة اللغة حسب باختين " الأسلبة" ( (Stylisationالتي تشترط حضور وعيين لسانيين مفردين في الملفوظ الواحد، وعي من يُشخِّص، ووعي من هو من هو موضوع التشخيص، أي حضور لغة مباشرة "أ" من خلال لغة ضمنية "ب" في ملفوظ واحد. وفي مقاربتنا لمجموعة "ضجيج" للكاتبة بديعة الطاهري، سنقف عند نوع من أنواع الأسلبة، وهو الأسلبة الساخرة (الباروديا) والمقصود بها تحطيم نوايا اللغة المشخُّصة، كليا، مع نوايا اللغة المشَخَّصة ثم ضمها لتصوير عالم الآخر الحقيقي، لتكون بذلك مقاصد اللغتين متعارضة في الأسلبة البارودية، حيث تهيمن اللغة المشَخِّصة على اللغة المشخَّصة فيختل التوازن بينها. غير أن هذا الاختلال لا يكون بهدف كسر لغة الآخرين كسرا سطحيا وبسيطا، وإنما بغرض إعادة خلق لغة سخرية تمتلك منطقها الداخلي وتتميز بعوالمها الفنية الفريدة، وكل ذلك في ارتباط باللغة موضوع الباروديا الأسلوبية. (3) إن أول ما يثير انتباهنا في المجموعة القصصية هو عنوانها "ضجيج" حيث يحمل في ثناياه لغة على لغة، إذ تفصح اللغة المباشرة على الصخب والضوضاء، بينما اللغة الثانية، اللغة الساخرة، فتشير إلى امتعاض الكاتبة من الحياة أو من صخب الكلمات التي أسرتها للكتابة، وما يعزز هذا هو العبارة الاستهلالية في المقدمة " هذه القصة لا تشبهني، لا تتعب نفسك عزيزي القارئ في البحث عن علاقتها بي"، حيث تحاول المبدعة التملص من سطوة الكتابة والسرد والذاكرة والتبرؤ منها، مع لهفتها إلى تمرير ضجيج الطفولة الذي يخطر بقوة في المجموعة بشكل من التحذير. على هذا الأساس سنجد القاصة بديعة الطاهري تشتغل كثيرا بصوت الطفولة الذي يحمل إيحاءات البراءة مرة، ووعيا ساخرا من الواقع مرة، ورؤية مستقبلية مرة أخرى حيث تحاول أن تكبر معها أحلامها وآمالها. ومن أمثلة الأسلبة الساخرة في المجموعة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: السخرية من القدر (ص15،34،36)، السخرية من الإبداع (ص 11،18،23، 24، 91…) السخرية من التقاليد/ الرجل (ص 17،20،41، 105)، السخرية من السلطة/ السياسة (ص22، 63،64،68،89،90،99…) السخرية من المرأة (ص44،59،105)… وسنقف أولا على السخرية من الإبداع في قول السارد" جربت الكتابة مرات متعددة، فإذا بشيطان قصتي يخذلني. زادني توترا احتجاجات زوجتي على خلوتي المستمرة بالمكتب، إنها لا تعرف بما أبدع. تقول لي دوما: ؟إنك أبله. الكلمات لا تغير العالم، ابحث عن عمل مواز يضاعف دخلنا. من يقرأ لك؟ من يشتري كتبك؟ مجموعة من المجانين من أصدقائك، تتبادلون الكتب وتتراشقون كلمات الإعجاب عندما تكونون مجتمعين، ولما يتخلف كل واحد منكم إلى بيته، يتهكم من الآخر ويسخر منه، ويستنكر أن يكون ما يكتبه الآخرون أدبا". (4) إن هذه الملفوظات تفصح عن سخرية زوجة المبدع من إبداعاته وعدم اعترافها بها، وتبخيس كتاباته إلى درجة القدح في سيرورة الإبداع من مرحلة الإنتاج إلى مرحلة التلقي، حيث اعتبرت أن من يقرأ له إنما يجامله، وبعدها يكيل كل واحد للآخر كيلا من الانتقادات والتبرؤ منه، لهذا فمحمولات زوجة السارد تنطوي على فكرة أساس وهي: أن المجاملات النقدية ترفع من قيمة البضاعة وهي فاسدة، فيقبل الناس عليها إقبالا ثم يصابون بخيبة الامل كما ينعتها عبد الفتاح كيليطو. وتمتد السخرية من الإبداع وعمليته في هذه القصة "جنون الكاتب" عند اعتراف شخصيتها بأن اسم الكاتب أو امتلاكه لنفقات النشر كافية بأن يسمي ما يكتب إبداعا ويصنفه كما يحلو له ويطرحه في السوق. (5) مع تأكيدها أنها لم تحس بأي جمالية في قصة الكاتب متسائلة (ما معنى الكتابة؟) رابطة إياها باستباحة حرمة المرأة وانتهاكها وتعريتها، وكانها تقول: أن كل كتابة عن المرأة هي تعرية واستباحة لها. ونعثر على مثال آخر يكشف بوضوح ظاهرة الأسلبة الساخرة من الإبداع في المجموعة، وذلك في قصة "لوعة الغريب" و"مجرد لعبة حظ"، حيث كلتا القصتين تسخران من المسابقات الثقافية ومن القراءات النقدية المجاملاتية، إذ يتم الاحتكام إلى الزبونية والارتشاء والابتزاز بعيدا عن النزاهة والشفافية، ولتأكيد ذلك جربت بطلة القصة استضافة وجوه ثقافية وسياسية، مجهزة لهم مائدة بما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات مع موسيقى شرقية وغربية، لتحصد على إثر ذلك الثناء والشكر، ودعوة لعضوية المجلس الأ… في مهمة عاجلة… للبحث في شؤون…" (6) هذه المعارضة الساخرة من عملية الإبداع وحركيته تبسط وعيها البارودي إلى استهزاء الساردة من اتخاذ الثورة مطية لبلوغ الأطماع والمناصب والارتقاء في السلم الاجتماعي، لتكون بذلك رغبة الوعي المُؤَسلِب في تكسير نوايا هذه الأصوات المسحوقة اجتماعيا وسياسيا، والمهضومة الحقوق في العيش بحرية وكرامة ومن دون خوف، وقد تحقق ذلك عبر سخرية المجموعة وسخطها من الواقع الذي نلمح أولى إشاراته في العنوان "ضجيج". وما يؤكد هذا الموقف ما جاء في قصة القلق":"عاد ابي وخف حماسه، ضاع منه كل شيء حتى انتماؤه للحزب، لم يجن منه شيئا. أصبح نكرة أمام ع و س و ب ح… لكنه ظل يؤمن بهم، لأنه أقسم كما أخبرني على الوفاء، والقسم عظيم. لم حنثوا هم يا أبي؟ نسوك ونسوا كل شيء أمام حقيبة، بل حقائب جمعوا فيها هذا الوطن". (7) تعكس تعابير هذا المقطع أسلبة ساخرة لأصوات الآخرين، فواضح أنها ترمز إلى وعيين، وعي بالنضال والوفاء للوطن ونكران الذات والتضحية من أجله، ووعي انتهازي وصولي خائن، يبيع الوطن ليشتري نفسه، فيتحول البطل إلى نكرة، والخائن إلى شهم وصاحب نفوذ. نستنتج مما سبق، أن لغة المجموعة القصصية للكاتبة بديعة الطاهري اتسمت بالسخرية السوداء من الواقع مع تسجيل الخيبة والمرارة التي توحي بهما نبرة صوت الشخصيات المعلنة في ملفوظاتها وطموحها في التغيير، وذلك بواسطة تحطيم اللغة الموضوع من الداخل عبر ازدواجية اللغة، أي خلال انتقال المُتلفظ من لغة مُؤسلبة إلى لغة مُؤسلَبة سواء أكان شخصية أم ساردا، بمعنى آخر، تضمين وعي لغوي ضمن وعي لغوي أصلي سواء أكان السرد مباشرا أم غير مباشر. هوامش 1 ميخائيل باختين: الماركسية وفلسفة اللغة، ترجمة: محمد البكري ويمنى العيد، دار توبقال للنشر، الدارالبيضاء،د.ط، 1986، ص93. 2- ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة وتقديم: حمد برادة، دار الأمان للنشر والتوزيع، الرباط، ط1، 2007، ص106-107. 3- نفسه، ص 111. 4بديعة الطاهري: ضجيج، منشورات دار الأمان، مطبعة الأمنية، الرباط، 2016، ص11. 5نفسه، ص18. 6- بديعة الطاهري: ضجيج ، نفسه، صص93،94. 7- نفسه، ص68.