لكي تكتب فإنك تحتاج أولاً إلى مؤهلاتٍ شخصية، في الميدان الذي ستتدخّل فيه، وإلا فأنت تتطفّل على ما لايحق لكالتدخل فيه، فكيف بإبداء الرأي والتحليل واقتراح الحلول. لا تقتصر المؤهلاتُعلى الفصاحة في الكلام، والبيان في الصياغة، لا بدّلك من الثقافة العتيدة، والخبرة السّديدة، والتجربة المديدة، ومعرفةِ الحياة والمجتمعِ والإحساسِ بحاجاتِ ومشاعرِ الناس، فأنت لستَ نبيّا لتتعالى والأنبياءُ أنفسُهم انبثقوا من صميم شعوبهم وتطلعاتِها إلى يقين. لن تكتب بجدٍّ وصدقٍ إلا أذا شُحِنتَبهذه الطاقة وتشبّعتَ بقِيَمٍ، لتكن صائبةً خاطئةً، سيّان. البشر صغار النفوس الأوغادُ المتدثّرون بكبرياءٍ وعجرفةٍ مصطنعتين، المصقولون بجهلٍ ساطعٍ يحسبونه أنوَر، يتمطّون خلف مكاتبهم ويُفتون بمنطق أعوجَفي كل شأن ظانين أنّهم يُمسكون بصولجان العالم؛ إنهم أعداءُ الحياةِ والناسِ والمستقبل؛ الأنبياء يبشّرون، وأولئك بصلفٍ يَسدُّون الآفاق. لكي تكتب فإنك تحتاج إضافةً لما ذكرت إلى حوافز، تتحدّد حسب الميدانِ والموضوعِ والجمهورِ الذي ستتوجه إليه. قد تكتبُ مؤمنًا بإيديولوجيةٍ، أو للدفاع عن مذهبٍ وقضية، أو لإيمانك بمُثُل معينة، كذلك إخلاصًا لنفسك لا غير تُحِسُّبأنك تبرّر وجودَك بلغة وأسلوب وفكرةلتعطيه معنىً دالاًّ يستقيم. كُتابُ ومفكرو ومبدعو الماضي في جميع الأمم هكذا كان دأبُهم وتلك جبِلّتهم، وأغلبُهم لم يحملوا القلم ولا ساروا وتنقّلوا في أرض الله يحاربون الجهالة وينيرون طريق الحكمة ويدافعون عن الحق والعدالة، لكنز المال، ولا طلبًا لجاهٍ بتسلّق المناصب والحُظوة بالمغانم وجرّ أذيال الحكام. لم نعرف أنهم يحسبون بميزان الرّبح والخسارة قبل اعتناق رسالة والدفاع عن قضية، فالتزامُهم أولاً وأخيرًا عقيدةٌ يعيشون بها وعليها يفنون. لذلك كانت التضحية سَجِيّةً أصليةً لا شجاعةً وبطولةَ، هما تحصيلُ حاصل، فالجُبناءُ والصّيارفةُ وحدَهم يحسِبون لكل خطوة ألفَ حساب، أما الأبطال فقد خُلقوا مثل دون كيخوط للمغامرة. كتابُ ومفكرو اليوم سجلُّ وخصالُ أغلبهم تُدمِي الفؤاد فلا داع. لو فتحتَه سال مدادٌ وساح ألم، وأخشى كثيرًا عليهم وعليّ من قيل وقال، وما قبل وبعد الكلام، والتأويل المغرض يعمد إليه من يندسّون بين اللحم والظُّفر زاعمين أدبًا وفطنةً ومنطقًا،نالوا شهاداتٍ بالزُّلفى في محافلَ نعرفها، ثم إن المعاصرةَ حجاب. كتابُ ومفكرو اليوم ليسوا سواسيةً في المقام والاعتقاد، وكثيرٌ منهم اعتبر التخلّص من كل التزام نظريّ وإيديولوجي ومؤسَّسي انعتاقًا وكأن إيمانك بقضيةٍ وإخلاصك لها قيدٌ يجب أن يُكسّر، لتنطلق في أجواء الكلام تظنّه فطرةً ومطرًا يهطل من السماء. أواصل السؤالعن الحافز من الكتابة، وأيضًا من وراء الوجود، فنحن ولو لم نختره لسنا في هذه الأرض لنأكل الطعامَ ونمشي في الأسواق، وكفى. سؤال لا نحسِم فيه مرةً واحدة، يحاصرنا أمام الورقة البيضاء ليست في حاجة إلى السّواد وكلماتٍ خرقاءَحولَى، بل إلى أبجدية من جمر، قدرُنا أننا ولدنا في بلدان براكينُها الجوفية تقذِف دومًا بالحِمَم، ونحن الذين ابتُلينا بهمّها نصطلي بنارها، ولا نعرف كيف نكتبُ ونفكّر ونحيا إلا بروح ولغةٍمتوثِّبةٍ حمراء. حافزي الآن مناسبةٌ لا يجوز تركُها تعبًر ولا يقال فيها كلام. في فرنسا يستعمل الفرنسيون على مدار العام فعلَين اثنين بانتظامٍ وإلحاحٍ كأنهما الوحيدان في القاموس: partir وrentrer. الأول، ذهب، يُستعمل ابتداءً من نهاية يونيو ويجري على الألسنة كلِّها في مطلع يوليوز. القصد الذهاب وإلى العطلة، المعنى الوحيد للحياة، وإن لم تذهب في هذا الفصل مثلي ولا تنوي فإنك نشازٌ في الوجود، وسيَنظر إليك الجيرانُ والمعارفُ باستغراب، وقد يتهامسون ربّما عن صحتك العقلية، أي مثلي، الذي يحب أن يتخفّف من هذه الصِّحة ليبقى حبيسَ نفسه وكتبه. الفعل الثاني(دخل) له السيطرة بعد العودة من العطلة ابتداءً من مطلع سبتمبر، يتعذّر عليك الكذبُ معه، فلكي تدخل تحتاج إلى بُرهانين: الأول، شهادةٌ تحملها يقدّمها وجهُك مستمَّرًا مُذهّبًا أو أنك فأرٌ بقيتَ في جُحرك؛ الثاني، حديثُك أو في ما في رأسك خطةً ومشروعًا للعمل والحياة بعد العودة، لا أحد أو مؤسسة خليُّ البال من هذه الناحية وإلا فهو معطلُ التفكير وعاطلٌ عن العمل. قلت إن الكتابة تحتاج إلى الحوافز، أظن من أقواها أيضا امتلاكُ الفضول، بأن تَحشُر أنفَك في ما لا يعنيك. عرّف جان بول سارتر في مجتمع يُعنى بالثقافة وللمثقفين لهم فيه دور حاسم المثقفَبالشخص الذي يتدخل في ما لا يعنيه، يقصد في السياسة والقضايا العامة لبلاده والعالم، قال هذا في محاضرة تاريخية له بجامعة طوكيو سنة 1966 في خضمِّ الغزو الأمريكي للفيتنام، ومنذئذ تواصل هذا الدور في الغرب كله، وامتد عند المثقفين العرب الرّافضين والملتزمين أيضا، ومن أسف نراه اليوم ينحسر مواقفَ ويتقلّص خطابًا في عديد بلدانٍ وقاراتٍ بسبب هيمنة التقنوقراط والتهامِ الرأسمال للمواقع الثقافية وابتزازِ وشراءِ النُّخب، وكذلك لتفشّي أميةٍ ثقافيةٍ صارت تستخفّ بما كنا نقوله في ماضٍ غابر بأن العلمَ نورٌ وتتفكّهُ استهزاءً بأن الجهلَ أنوَر! فضولي هو الذي يدفعني للفت الانتباه إلى أننا ونحن في مقتبل الدخول المدرسي والجامعي نتحدث عن عديد أمور، أولُها غلاء المحروقات، والارتفاعُ المهْول للمواد الغذائية والضجرحد اليأس من حكومة لا تقدم ولا تؤخّر سوى تعميم ِالبؤس وتمطيطِ اليأس؛ كم نتحدث ونكتب وكلّه يذهب بددًا في الآذان وقْرٌ وصرنا كمن يصيح في واد، لا أحد يحفل بالكلمات ولا بمن يقاوم بأظافره وأسنانه ليفكّ عن الأعناق أدغالَ الغابةِ الموحشة هجرها عصافيرُها وملكَها اللفياتان.لست فضوليًا، فالتعليم مهنتي وهوى حياتي وبرَكْبي مئات التلاميذ والطلاب في الداخل والخارج، الميدان الوحيد الذي أعتبره يليق بشرف وقداسة مهنة، ولا بد أن تؤتَى غفلةً وطيبةً وقناعةً لتركَن إليه، ما أجملها غفلة تفطِّن لما يسود في الدنيا من مظالم وغباء وتُحمِّلُالأمانة. لذا، يحفزني الفضول لأتوجه إلى الجميع بدون استثناء كيف ونحن في دخول مدرسي وجامعي جديد لا يوجد عندنا أيّ حديث عن قضايا التعليم برامجَ ومناهجَ وخططَ إصلاح، في الماضي عقدنا المناظرات والندوات وصدرت الكتب والاجتهاداتُ بغيرة وطنية بهدف الإصلاح، واليوم بيروقراطيون في مكاتبهم يقرّرون ويهمّشون عائلة التعليم الكبرى التي يئست، فغادرت طوعًا وقسرًا، أو تكتفي بالتحليل المتفيهق ل» نظريات الخطاب». يبدو أن على العيون غشاوة، لا بل استخفافًا وخفةً لا تُحتمل تجعل التعليم سيبة وغنيمة.. وسأبقى فضوليًا وعنادًا أصيح في واد!