استطاع مغرب محمد السادس أن يوسع من مساحات «المجال الترابي الديني territoire religieux « في تواز مع تكريس شخص الملك، أمير المؤمنين، الوحيد في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، الذي يمتد إشعاعه إلى خارج الخارطة الوطنية، ويتعزز نفوذه الروحي أكثر فأكثر في القارة الإفريقية، بعيدا عن التراب الديني المعتاد شرقا مثلا. ويتضح من آخر موعد ديني فوق التراب المغربي سداد هذا المنزع، وكما قال الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، محمد يسف، فإن الندوة العلمية الدولية حول موضوع «ضوابط الفتوى الشرعية في السياق الإفريقي» حدث كبير وتاريخي الذي سيتبوأ مكانة خاصة في تاريخ الفقه الإسلامي ومسار تطوره . فشخص الملك ملتقى للشرعية واستمرار الدولة المغربية، ومن المحقق أن المغرب راكم عبر تجربته الإمبراطورية تاريخا علميا ودينيا وروحيا ما زال حيا، ولعل ملامحه تتمثل في ما قامت به القرويين في تعميم التعليم والمعرفة، إضافة إلى الارتباط الروحي والمادي بين الزوايا والملكية في المغرب عبر التاريخ، لكننا اليوم نعيش تجربة فريدة يكون فيه الملك محمد السادس أميرا للمؤمنين في إفريقا في قلب ... القرن الواحد والعشرين. وهو في جانب منه، ما كان له أن يكون إلا ... دينيا في التجربة المغربية باعتبار احتضان المغرب للتعايش وقيم الفعل العقدي الإنساني المنفتح والعمل على كل السجلات (وطنيا وإقليميا وقاريا ودوليا) لخلق شروط هذا التعايش… ومن المحقق أن كل الفاعلين الدوليين يجدون أنفسهم في قلب لعبة القيم وفن المشترك الروحي، ويتابعون أدوار المغرب وتميزه في ذلك… ويتبدى التميز المغربي على هذا المستوى باقتسام تجربته في تدبير الحقل الديني، وبالأساس في مجال مأسسة الفتوى الجماعية وإخراجها من سجل الاجتهاد الفردي الانطباعي أو الطائفي، وتعميمه التجربة في إفريقيا من خلال مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة ، التي مرت عليها ثماني سنوات فقط واستطاعت أن تخلق ثقافتها وبنيتها وسجلها الديني المتفق عليه من طرف أزيد من 20 دولة إفريقية. تقديم العرض اللازم عقديا على الطلب المتنامي، لا سيما في مجال تدبير الحقل الديني وتأطيره، كي لا يكون تربة خصبة للتطرف والراديكالية والإرهاب.. استطاع المغرب أن يبني الأعمدة الأربعة للقوة الديبلوماسية والجيوستراتيجية وجعل من بين أعمدتها القوة الناعمة، متمثلة في تدبير الحقل الديني قاريا : التأثير الروحي عبر تنشيط تاريخ علاقاته الروحية مع الزوايا، ومن خلال تقديم النموذج الحي وخلق البنيات المؤسساتية الكفيلة بالتنشئة الروحية المتسامحة.. لا يمكن ألا نذكر في سياق هذا التثبيت التاريخي، وامتداداته مضامين الدرس الخامس من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، والذي ألقاه أبو بكر الزبير مبوانا، مفتي تنزانيا، تحت عنوان «رمزية إمارة المؤمنين وحضورها في الفكر الديني لدى علماء شرق إفريقيا: تنزانيا نموذجا»...كان ذلك في أبريل الماضي، وقتها كان الدرس قد شدد الحديث عن مقومين اثنين هما: اعتزاز الأفارقة بمؤسسة إمارة المؤمنين باعتبار الموقف امتدادا لما درج عليه الأسلاف الأفارقة، ثم كون مشايخ الصوفية في مختلف البلدان الإفريقية يفتخرون بإمارة المؤمنين وبشرف الانتماء إليها، وهو موقف أكده غير ما مرة فقهاء وعلماء ومفتون كثيرون من دول أخرى، كما هو حال تصريح الشيخ ماوودو سيMaodo Sy، شيخ الزاوية التيجانية السنغالية، الذي عبر عن بيعة الزاوية وعلمائها للعرش العلوي.. ومن ذلك يتفرع مبدأ آخر لا يقل سموا وهو توحيد الرؤية في ما يخص «ضوابط الفتوى الشرعية في السياق الإفريقي» ، وهو رهان يستطيعه المغرب اليوم، بفضل مشروعية إمارة المؤمنين التي يقر بها الأفارقة عبر علمائهم وقياداتهم الروحية أو عبر الانضمام إلى مؤسسة العلماء الأفارقة. يؤسس المغرب نموذجه، في جانب القوة الإقليمية الإفريقية، على هذه الديناميكية الديبلوماسية، ولكن أيضا على الهوية(هويته الإفريقية والإسلامية معا).. كما يشكل الشأن الديني مجالا مستمرا للاتفاقيات والديناميات الديبلوماسية، بل إن المكون الديني هو جزء لا يتجزأ من القوة الناعمة المغربية ( إلى جانب الاقتصاد والأمن والهجرة ).. الجديد الذي لا يُتْرك للتأثير العفوي فقط، هو أن المغرب قام ويقوم بعمل مؤسساتي مهم لنشر تعاليم الإسلام المعتدل والمنفتح، في تفاعل مع الأنظمة الروحية والقيمية الأخرى .. وهو ينوع موارده الرمزية في ذلك: الزوايا ومحاربة التطرف، محاربة الإرهاب، نشر التعليم المؤسساتي المهيكل.. تكوين الأئمة والمرشدين في العديد من الدول جنوب الصحراء (الحديث عن وجود 32بلدا، والأرقام ذات دلالات كبيرة عن عدد الأئمة الماليين والصينيين والإفواريين والسنغاليين والتشاديين وغيرهم)، فضلا عن الزيارات التي يقوم بها الملك نفسه إلى هذه الدول، والتي تعد»تنقلا» روحيا له دلالاته..أيضا. وفي المقابل لا يواجه المغرب التطرف فقط، في سيرته الجهادية بل أيضا في صيغه الإديولوجية عبر الدعوة الشيعية في إفريقيا واستقطاب المسلمين في هذه القارة (نيجيريا وحدها بلغت نسبتها 12٪ بعد أن كانت 0٪ في 1980!!