الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا. في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
«الحَرْبُ أَوَّلُ ما تكونُ فُتَيَّةً/ تَسْعَى بِزِيْنَتِها لكلِّ جَهُولِ حتى إذا اسْتَعَرَتْ وَشَبَّ ضِرَامُها/ عَادَتْ عَجُوزًا غيرَ ذاتِ خَلِيلِ.» هي ذي الحرب، وهي أنثى (!) حسب «لسان العرب»، رغم أن ابن الأعرابي حكى فيها التذكير (إذا الحربُ هَفَا عُقابُه). وربما لم يجانب ناظم الأبيات المخضرم، عمرو بن معد يكرب، الصواب في وصفه إياها، هو الذي خبرها بسيفه المسمى «الصمصامة» في معارك الفتح الإسلامي عقب رجوعه إلى الإسلام الذي ارتد عنه إثر وفاة الرسول. ليس ثمة «حرب» في الواقع التاريخي والآني بالمعنى المطلق للكلمة. فرغم المشترك في العتاد البشري وعدة الجيوش والدماء والخراب، فهناك «حروب» بالأحرى، كل واحدة منها متميزة تماما عن غيرها حد التناقض. حروب فعلية تشكل مادة إعلامية تتضارب الآراء حول طبيعتها العدوانية أو الشرعية، وإلى جانبها حروب مغايرة يخوضها المواطن يوميا وسلميا طالما هو مستمر على قيد الحياة. لا أحد يعود من الحرب، الدانية والنائية، سالما. الجميع، من حضر جسديا في ساحة الوغى ومن تلظت شظاياها القاصية في دواخله، تفرض عليه ترك قربان لها، حياته أو أحد أقاربه أو نسبة من بدنه أو حصة من روحه ومشاعره. نائيا كان نقيض السلم الذي استحال يهم بي كلما هممت باستدعاء الكلمات لخوض حرب تسويد الصفحات. من جغرافيتين صحراويتين تنبعث، حاملة صورة جانبية لسعيد ونصبا تذكاريا لعز الدين. لم تكن قصة خبرية مسموعة أو مرئية أو مقروءة، ولا تيمة قصصية أو روائية أو شعرية، ولا كانت موضوع فيلم سينمائي أو شريط رسوم متحركة، ولا إحالة في لوحة تشكيلية. بل على مرمى حجر، أو بصيغة أدق: أنا من كنت على مرمى حجر منها. 1973: سعيد، أخي الأكبر، يقضي خدمته العسكرية في طانطان. يجند ضمن الفوج الذي سيحارب في جبهة سيناء، مع الجيوش العربية ضد إسرائيل، في حرب أكتوبر. خمسة كانوا وسادسهم أخي ينحدرون من المدينة الصغيرة النائمة على ضفة أم الربيع، كتب لهم الانتقال من مكان التدريب إلى أرض غير الأرض، من صحراء طانطان إلى صحراء سيناء. ها الحرب تقتحم عالم أسرتي الصغيرة، مقلصة المسافات. تطلق النار على نوم وراحة الأم والجدة. تقصف الأب. تمطرني وإخواني بوابل من أسلحة الدمار الشامل، لعل أفتكها احتمال ورود خبر استشهاد الأخ الأكبر. عقب ترقب رهيب لأمارة تكون بمثابة هدنة وسط العذاب النفسي، هلت رسالة من سعيد: « أنا في حفرة واحدة مع ابن مدينتي التباري حلمي، نحظى ببرميسيو لثلاثة أيام نقضيها بالتناوب في مدينة القاهرة المصرية، ننعم بالتجوال في أفخم الكازينوهات ونلتقي أشهر المطربين والمطربات، نتوصل بنقود كثيرة.» «كانت السلطات المغربية جد كريمة معنا، سيروي الأخ لاحقا. بذل عسكرية وطنية في منتهى الفخامة، عكس المصرية الرثة والمشبعة بالثقوب. أكل وشرب مما لذ وطاب.» ربما كان سبب الكرم يكمن في انعدام أي أمل لدى المسؤولين بأن الجنود سيعودون سالمين، هذا ما خطر ببالي ليلة الحكاية. محاولين بذلك شراء أرواحهم بمنح مادية وبذل عسكرية أنيقة وأكل وفير وفاخر… رحلة «لوكس» إلى موت أو جرح أو عضو مبتور، من صنف خمس نجوم، قالت نفسي الأمارة بالسوء أحيانا. حظي الستة جنود الأزموريين بحفاوة استقبال منقطعة النظير من طرف السلطة والأهالي، عادوا ومشترك عميق يلحمهم، غذته أغنية المطربة شريفة فاضل (التي فقدت ثلاثة من أبنائها في تلك الحرب): «أنا أم البطل». عاد سعيد وبجعبته ألف حكاية وحكاية عن الحرب وبسالة الجنود المغاربة في سيناء. عاد، غير أن الحرب سلبت منه شيئا ما. أما عز الدين، فالحرب دفاعا عن الوطن سلبت منه حياته. 1988: من قلب الصحراء نُقل نعش الضابط مخفي عز الدين إلى مدينته، الجديدة. ها الحرب تصل شظاياها عتبتي من جديد. أعتقدها نائية، فتطرق بابي. كيف أعزي مّي خديجة في الشهيد؟ على شاهد مثواه الأخير نحتت أبيات رثاء أبدعها في حقه الشاعر عبد الرفيع الجواهري: «يخفيك هذا القبر أم تخفيه/ يا قمرا تكامل فاستوى/ عشقا ورقة/ عشق الشهادة ثم أهدى للحبيبة روحه/ وطوى الجناح مخبئا في القلب عشقه». معذرة عز الدين، لا تلمني على فعلة مدينتك الجاحدة التي بكتك وشيعت جنازتك، ثم قفلت راجعة إلى ملفات أخرى حُرَيبِها من دون أن تفكر حتى في أضعف الإيمان: إطلاق اسمك على أحد شوارعها أو معالمها. دعك منها، إنها منشغلة ب… حُرَيبِها!