الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا. في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين.. لا يمكن أن يكون لك رأي في الحرب، لأنه لا يجب التفكير فيها أصلا، لكن الإنسان الذي ننتمي إليه، تبنى هذه الآلية لاعتبارات شتى، فهو خائف من الآخر، خائف من النهاية التي ينتجها الأقوى منه. لا أحد يحب الحرب، لنتائجها الوخيمة على البشرية، على الكائنات التي لا دخل لها في صراع الإنسان مع ذاته، مع الآخرين. نحن في عالم لا يعيش إلا بالحرب، منذ ولادتي وأنا انتقل من حرب الى حرب، خرج العالم من حرب عالمية ثانية و دخل في حروب اقليمية، أنا انتمي لأمة شغلتها الحرب عن أي تنمية، عن أي مستقبل ممكن! عشت حرب النكسة، وعشت حرب الاستنزاف، كل شيء ارتبط بفلسطين، ونحن وجدانيون فلسطينيا، عشت حروبا صغيرة جوارية لكنها مؤثرة، أنا أحمل الحرب في داخلي كتاريخ في مساحة ملغومة اسمها الوطن العربي. اعتقد أنني انتمي الى شعب يتماهى مع الحروب، يتبناها ولو منهزما- وهو كذلك- بسبب القهر الذي سلط عليه. كيف لإنسان كيفما كان نوعه أن يتجاهل مصير العالم ؟ أعيش الحرب في وسائل الإعلام، وأعيشها كمثقف يتبنى بعضا من مبادئ حق الناس في الحياة، أعاني وأنا العربي الذي تمارس عليه حروب من جهات قريبة وجهات بعيدة، من الحاكم الذي يختارنا ولم نختره، من العدو الخارجي الذي يختارنا. هل بالإمكان تجاهل الحرب؟ سؤال يبدد إنسانية الإنسان، هل يمكنك تجاهل الدم في كف طفل؟ هل يمكنك تجاوز مشهد امرأة تحمل أشلاء جسد كانت تحتضن أحلامه في عاطفة مغتالة؟ جميل أن تشرب قهوتك وانت تنتبه إلى مسدس راعي بقر يواجه خصما بليدا ملطخا بالأوحال، لكن نشرة أخبار في الجهاز الذي يشدك الى قهوة المساء، تجعل الطعم مرا، المدن التي رأيتها في قصائد نزار، و في ملاحم محمود درويش، تتحول بفعل راعي بقر آخر أكثر تطورا ، الى تاريخ في الذاكرة. تنتهي الحرب كما يقولون، لكن تداعياتها تتحول إلى كوابيس، إلى غضب مؤثر، بإمكانك أن تفكر في مصير بلدك إذا تعرض الى انهيار بسبب الحرب، ولكن هل بإمكانك أن تشرب قهوتك بين فاصلين في مشهد سينمائي و مشهد اغتال فيه التطور الصناعي حضارات بناها إنسان كان بعيدا عن كراهية الآخرين. ثأثير الحرب في الكتابة و مجالات أخرى. أعتقد أن الكتابة الوحيدة التي يشترك فيها الكتاب هي الكتابة عن الحرب، لأن العالم المعاصر هو عالم الحروب بامتياز، ربما نحن في المغرب- وهذا من حسنات هذا البلد- خاصة جيلنا، لم نعش حروبا في الواقع المحلي، عشنا الحرب الشرق أوسطية، عشنا بعضا من حرب الفيتنام، أمريكا هي التيمة التي اشتغلنا عليها: هي عدوة الشعوب، هي المكر المغلف بديمقراطية هجينة . الحرب الأوكرانية في مقارنتها مع الحرب السورية، في ما يخص استقبال اللاجئين) من هنا تأتي الكتابة كرد فعل مباشر ، عندما لا تستطيع قتال عدو شرش، تبقى الكتابة وسيلة لهزمه ولو معنويا. أكتب من منطلق الوعي بحقيقة الإنسان، أكتب لانفعال ضد همجية السلاح، ضد وحشية التطور الصناعي، ضد سلب الإنسان البريء حياته! اكتب وأقرأ لأنني محاط بالقذارة السياسية، التي تبرر التدخل في حياة الآخرين، التي تبني رفاهيتها على مقابر جماعية لأناس لم يفعلوا شيئا سوى أنهم من عالم ثالث لا يستحق الحياة. نلتقي في الكتابة مع كتاب الدول الغازية، فداخل دول الحروب هناك مثقفون ضد همجية أوطانهم، ينددون بفعل الحرب الذي يبرز وحشية الحاكم، غطرسته، يكتبون عن الفعل اللاإنساني الممارس على المستضعفين من طرف دولهم، فهنا تلغى الحدود بين التقدم و التخلف، يتحد القلم من أجل وقف البشاعة المستقرة في المدفع و القنبلة. لا معنى لفعل الحرب فهو مثير للغثيان، مستفز ، صادم ، يغذي الحقد ويجعله خامدا كبركان سيثور حين تختل موازين القوى، فيصبح الغازي مغزوا والعكس كذلك. الحرب ممارسة تبرز ضعف الإنسان في مواجهة النبل، ممارسة أنانية تغلب الجغرافية على الجنسية. الإنسان جغرافية حربية، الحرب تؤمن بالحدود السياسية التي تجعل من البشرية مفارقة تتحدد بجواز سفر .