هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام. في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية». صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟ الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا. في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
ترسخت في ذهني منذ الطفولة صورة الحرب البشعة إثر تداول عائلتي خبر مقتل زوج خالتي في الحرب العالمية الثانية كمجند في الجيش الفرنسي دون الظفر بجثته . قال ناقل الخبر إن صديقه صاح أثناء الإصابة القاتلة «أولادي» يقصد زوجته إذ لم يكن له أولاد ! … بالإضافة إلى ما رأيته من معتكزين على أرجل خشبية رديئة الصنع، وأيدي مبتورة، وما سمعته من هلوسات المعطوبين نفسيا الذين ينشرون بطولات مشكوك فيها، وما عانوه من قلق وخوف وتوتر، وما أبصروه من أهوال. هؤلاء جميعهم تقريبا بدو زُج بهم كدروع بشرية في حرب لا تعنيهم، بل رمت بهم الفاقة والاحتياج إلى مصير محفوف بالمخاطر، في ظرف عرف فيه المغرب سنوات عجاف، وتحويل اقتصاد البلاد إلى اقتصاد حرب (1944-1945) باعتبارها الحديقة الخلفية لفرنسا بموجب عقد الحماية (30 مارس1912). الحرب لصيقة بالانسان رغم تداعياتها المؤلمة. فمنذ القدم، لم يهدأ الوسط البشري في مختلف الأزمان والحقب من حروب، وتحتفل التواريخ والملاحم والأساطير والكتب الدينية والمحكيات الشعبية بصور مشهدية للحروب وحوافزها وعللها ونتائجها وأدواتها إلخ… لم يقتصر الأمر على التراث القديم، بل انتقل هذا الاهتمام إلى الأدب بأشكاله وأجناسه الحديثة، وهذا دال على كون الحرب من مشاغل الإنسان رفضا أو تحبيذا. انقسم الكتاب إلى منخرطين فيها كجنود أوصحافيين أو مهام أخرى، وتحصلت من هذه المعايشة الميدانية نصوص ذات قيمة عالية، يمكن وسمها ب ( النصوص العابرة للأحقاب)، وخاصة في الغرب وروسيا والأمريكتين وآسيا. ويمكن وسم هذا الإنتاج الزاخر ب (الأدب الحربي)، وأهميته تكمن في التفصيل في فضاء الحرب وآثارها على الإنسان والفئات الاجتماعية.. إلخ… ولم يكن الاهتمام بموضوعة الحرب مقتصرا على ما ذُكر بل ساهم العرب بناء على ما حاق بهم من حروب بينية أو بينهم وبين الأغيار بالإنتاج في نفس المضمار. إن ما يعاين من خلال وسائل الاتصال المختلفة من مشاهد الحروب وآثارها من مآس، وما يتدفق من الإعلام السياسي يؤثر بشكل بالغ في كسر طمأنينة عيش الإنسان في العالم المفروض أن يكون العش الدافئ لتساكن البشر، هذه وجهة نظري. لكن الواقع يقول شيئا، فالتدافع لتسييج الأحياز واجتناء المنافع حوّٓل أجزاء من العالم إلى جحيم لا يطاق، فالحق مع من يمتلك القوة، فلا حق مع الضعيف، وهذه معادلة مضادة لكل القيم النبيلة، فلا منجاة من الاحتراق بنيران الحروب في غياب عدالة شاملة. إنني كمواطن في هذا العالم، وبادعائي ككاتب، أشعر بالتذمر والقلق واليأس وأنا أشاهد هذه التراجيديا الممسكة بعقابيل البشرية بأنياب من فولاذ، وأتساءل عن بصمات ذلك على الأجيال ممن وُلدوا ليشهدوا فإذا بواقع بائس يجابههم بتحميلهم ندوبا. هل سيتعظون أم سيتعرض وعيهم ل(العسكرة) ليصبحوا قتلة أوضحايا؟ ضمن هذا السياق تبدو الحروب عبثا وجنونا، لكن ما العمل ، وغريزة الحرب أزلية وأبدية ، تتجلى في العنف المستثار داخل كل تجمع بشري يتمظهر رمزيا وماديا؟ هذا أمر باعث على الحيرة… ورغم أن الحرب تضغط على وجدان وفكر الإنسان، وهذا يخصني هنا كما يخص غيري، وهي تجرى على ضفاف أخرى ، فإن تأثيرها على ما أكتب غير وارد لسببين: .غياب المعايشة الفعلية لأجواء الحرب بالتعرض لتردداتها ومخاوفها، فخائض الحرب غير من هو خارجها. . عدم التمكن من (التخييل الحربي بمعجمه الشامل). أخيرا، إن الحرب مزرعة الكراهية، لعلها في جانب منها إذا أيقظت حسنا الإنساني العميق تجنح بنا إلى التطهر مما هو سيء ولا أخلاقي، وتجعلنا نكره العنف ونميل إلى السلم، كما توحي إلينا بالتوجس من الآخر إلى حين خلع فرو الحمل، فالحرب تصنع الفارق بين الإنسان والمتوحش، والمؤسف أنه درس باهظ الكلفة.