بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    التنويه بإقالة المدرب العامري من العارضة الفنية للمغرب التطواني    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    مباراة الزمامرة والوداد بدون جماهير    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمريكا والمغرب.. ضفتان في التاريخ وفي الأطلسي (12 والأخيرة).. المغرب بين الجوار الأروبي متوسطيا والجوار الأمريكي أطلسيا
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 29 - 04 - 2022

كيف يمكن تمثل قصة العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية كما تحققت في التاريخ المعاصر والحديث؟. ما هي أبعادها سياسيا وحضاريا وأمنيا وتجاريا؟. لماذا بقيت حقيقة العلاقات بين البلدين سجينة كليشهيات عناوين كبرى، دون الغوص في تحليل المعنى التاريخي لتلك العلاقة النوعية والخاصة؟. أين يكمن السر في كل الرسوخ الإستراتيجي للعلاقة بين واشنطن والرباط؟. وما الذي يشكله «لوبي التاريخ» في تجسير تلك العلاقة بين الدولتين؟. ثم ما الأهمية التي للجغرافية في العلاقة بين طنجة وبوسطن، وبين الدار البيضاء ونيويورك، وبين الصويرة وفلوريدا؟.
إنها بعض من الأسئلة التي تحاول هذه المادة الرمضانية أن تجيب عنها، من حيث هي تحاول رسم خط تاريخي لميلاد وتطور العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية. نعم، هي تستحضر أكيد، أن عين درس التاريخ المغربي ظلت دوما مصوبة باتجاه الشمال المتوسطي في أبعاده الإسبانية والبريطانية والفرنسية والألمانية، وهي تحاول أن تنزاح قليلا صوب غرب المغرب باتجاه عمقه الأطلسي، من خلال مغامرة نبش الغبار عن ذاكرة العلاقات بيننا وبين بلاد «العم سام». ففي ذلك تفسير آخر للكثير من القصة المغربية (الدولة والمجتمع) في التاريخ الحديث والمعاصر وضمن مهرجان اصطخاب المصالح بين القوى العالمية، التي جغرافيته مجال من مجالات تقاطع تلك المصالح.

باختصار شديد (ومكثف) ونحن نصل إلى ختام هذه السلسلة الرمضانية التي حاولنا من خلالها مقاربة تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية منذ سنة 1777 إلى اليوم من زاوية تركيبية تحليلية، يهمنا التوقف عند ما يمكن أن نصفه ب «الزمن الإفريقي في الإستراتيجية الأطلسية الأمريكية»، وموقع المغرب الجغرافي ضمنها كمدخل حيوي استراتيجي.
إننا ننطلق في ذلك من ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، أثناء جولته الإفريقية سنة 2013 (سنة قبل عقد أول قمة أمريكية إفريقية سنة 2014 بواشنطن)، حين أكد بأن القارة السمراء تمثل: «قصة النجاح الكبرى القادمة في العالم». بالتالي، فإنه ضمن هذا الرهان الأمريكي الجديد، الذي يتم بحسابات القرن 21، حيث التنافس فيه تنافس تكنولوجي تواصلي (اقتصاد المعرفة واقتصاد الذكاء الإصطناعي والتنافس على الليتيوم وبطاريات الشحن الدقيقة والطاقات البديلة )، أصبح الرهان على المغرب، رهانا متجددا بمنطق حسابات عالمية جديدة. وواضح أن واشنطن، التي تُصْنَعُ فيها القرارات بتراكم في المعرفة والدراسة يمتد على عقود أحيانا، مدركة أهمية الآلية التراكمية المتحققة فعليا ومؤسساتيا بينها وبين المغرب، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ضمن مجاله القاري والمتوسطي والشرق أوسطي.
بالتالي، فإننا حين نعيد قراءة مسار تطور العلاقات المغربية الأمريكية منذ سنة 1947 (تاريخ إنشاء القواعد العسكرية الأمريكية بكل من النواصر والقنيطرة وسيدي يحيى الغرب وسيدي سليمان ومراكش، بعد الإنزال الأمريكي لقوات المارينز بأراضيه سنة 1942)، حتى توقيع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مرسوما رئاسيا للإعتراف بمغربية الصحراء ونشره بالجريدة الرسمية الأمريكية وإخبار هيئة الأمم المتحدة به عبر مجلس الأمن سنة 2020. نجد تراكما منتجا لرسوخ الرهان الأمريكي على الجغرافية المغربية إفريقيا ومتوسطيا، ضمن الرؤية الأطلسية لصناعة القرار بواشنطن. وأنه رغم بعض أزمات الطريق في مسار تلك العلاقات، بسبب تداعيات سياسية داخلية مغربيا، من قبيل قرار إجلاء القواعد العسكرية الأجنبية من المغرب وضمنها الأمريكية في الستينات (مما عزز من قواعدها المتواجدة بالجنوب الإسباني بكل من «روتا» بمدينة قاديس و«مورون دي لا فرونتيرا» قرب مدينة إشبيلية). والتي لا يمكن إغفال أنها أزمات توازت مع تطور التدافع المغربي الجزائري بشمال إفريقيا منذ أواسط الستينات، كان للحضور المؤثر للرأسمال الأمريكي للصناعات البترولية والغازية بالجزائر (مجموعة هيوستن) دور فاعل في تشكيل لوبي ضغط بواشنطن كان في الكثير من المحطات مناهضا للمصالح الحيوية للمغرب. أقول، رغم كل ذلك، بقي ثمة خيط ناظم خاص، متواصل ومثين، للعلاقات المغربية الأمريكية مسنود بتراكم تاريخي عريق في الزمن، أدى إلى تبلور ما أسميه ب «لوبي التاريخ» ضمن مجالات صناعة القرار السياسي للدولة الأمريكية. وهي المجالات التي لا يمكن، في ما يخص فضاءنا الشمال إفريقي والشرق أوسطي والغرب متوسطي والغرب إفريقي، أن نسقط منه الدور المحوري الحاسم للمؤسسة العسكرية الأمريكية ولصناع الإستراتجية القومية الأمريكية الأطلسية ممثلة في مؤسسة وازنة جدا ضمن بنية صناعة القرار هناك، التي هي «البنتاغون». ولأن الشئ بالشئ يذكر، علينا دوما استحضار آلية صناعة القرار القومي الأمريكي، خاصة في العلاقة مع العالم، التي تقوم على بنية مؤسساتية يشكل الرئيس قمة هرمها نعم، وأن القرارات الخارجية تعود إليه (عدا قرار إعلان الحرب الذي إلزامي أن يكون بموافقة مكتوبة من الكونغرس)، لكنه عمليا لا يعلن أيا من قرارات الدولة الأمريكية تلك سوى بعد الإجتماع بمجلس أمن قومي داخلي بالبيت الأبيض مشكل من وزير الخارجية ومدير جهاز المخابرات «السي آي إيه» ووزير الدفاع وسفير واشنطن بالأمم المتحدة ورئيس موظفي البيت الأبيض والمسؤول عن أجهزة الأمن الأمريكية، وأنه بعد تداول أبعاد مختلف الملفات والقرارات، يتخذ الرئيس القرار النهائي ويمرره لوزير الخارجية للتكفل بشكليات تنفيذه (ها هنا مثلا، يكتسب قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الإعتراف بمغربية الصحراء كل قوته المؤسساتية أمريكيا. مع أهمية التذكير بأنه من رايات الدول الحليفة للمغرب التي شاركت في يوم انطلاق المسيرة الخضراء بطرفاية صوب الصحراء الغربية للمغرب يوم 6 نونبر 1975، كانت الراية الأمريكية، إلى جانب رايات عدد من الدول العربية والإفريقية).
إننا لو انطلقنا من المسلمة المعروفة أن اللغة الوحيدة التي تتكلمها الدول هي «لغة المصالح»، وهي اللغة التي تتقنها واشنطن بمسافات، فإن شكل تدبير مصالحها في العلاقة مع الجغرافية المغربية، خلال السبعين سنة الماضية إلى اليوم، إنما يقدم الدليل على أن رهان واشنطن على الرباط، هو رهان استراتيجي ضمن حساباتها الأطلسية. أليس المغرب هو أول بلد إفريقي وعربي تدشن أمريكا معه «حوارا استراتيجيا»؟ أليس المغرب هو العضو الإفريقي، الملاحظ، الأول من خارج المنظومة الغربية، بحلف شمال الأطلسي منذ أكثر من 30 سنة؟ أليس المغرب أول بلد إفريقي وعربي دعمته واشنطن في أبحاثه النووية السلمية منذ سنة 2001؟ أليس المغرب أول بلد إفريقي وعربي وقعت معه الإدارة الأمريكية اتفاقية للتبادل الحر (تتطلب اليوم التطوير بما يتماشى والمستوى الذي بلغه المغرب كقوة اقتصادية صاعدة إفريقيا، خلال العشرين سنة الماضية)؟. أليس المغرب من أوائل الدول التي وقعت معه أمريكا اتفاقية «الألفية» التي تجددت أكثر من مرة؟. أليس المغرب أخيرا العاصمة الجهوية بشمال إفريقيا التي تم توقيع اتفاقية شراكة معها من قبل المؤسسة الأمريكية الرسمية «مبادرة ازدهار إفريقيا» بميزانية تقارب 5 مليارات دولار في مرحلة أولى، تشكل بوابة للإستثمار الأمريكي صوب دول الساحل وغرب إفريقيا؟. ألم يتم اختيار الدار البيضاء (عبر قطبها المالي)، لتكون البوابة لمشروع أمريكي طموح لتمويل مشاريع التنمية بالدول الإفريقية، ما بعد أول قمة أمريكية إفريقية؟. أليس المغرب البلد الإفريقي الذي تجري معه وزارة الدفاع الأمريكية أكبر المناورات العسكرية بالقارة السمراء منذ سنة 2007، «مناورات الأسد الإفريقي»؟.
إن التأطير المحدد للرهان الأمريكي على الجغرافية المغربية ضمن استراتيجيتها الإفريقية الأطلسية الجديدة، يجد مرتكزه، من وجهة نظرنا، في تقاطع المصالح والملفات ذات الحيوية العالية، التي يمنحها ويهبها للمغرب موقعه الجيو ستراتيجي جغرافيا على ثلاث واجهات محورية: متوسطيا وأطلسيا / عربيا وإفريقيا/ أروبيا وأمريكيا. وهو رهان سجل انعطافته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وليس اليوم فقط، وتقوى بدرجات راسخة زمن الحرب الباردة التي كانت بين بين المعسكر الشرقي بزعامة موسكو السوفياتية والمعسكر الغربي بزعامة واشنطن، حيث تعزز اصطفاف المغرب ضمن المحور الأطلسي كما ولد منذ سنة 1949، وكما تمت هندسته في القمة الأمريكية البريطانية بالدارالبيضاء سنة 1943. بالتالي، فإنه على امتداد سنوات الخمسينات والستينات، وصولا إلى التسعينات من القرن 20، ظلت الرباط نقطة محورية في كل الملفات الأمريكية الإفريقية والشرق أوسطية والشمال إفريقية والغرب متوسطية، المتعلقة بالمجالات الأمنية والعسكرية ومفاوضات السلام العربية الإسرائيلية والفلسطينية الإسرائيلية (إلى جانب كل من مصر والأردن والعربية السعودية)، وهي تتواصل اليوم بمستوى آخر ضمن واجهة «الحرب على الإرهاب». بدليل أنه منذ استقلال المغرب في أجزائه الترابية الشمالية سنة 1956، كان ثمة دوما حرص على المحافظة على منطق العلاقات المغربية الأمريكية، من قبل واشنطن، ضمن مشروعها الإستراتيجي الأطلسي، وليس اعتباطا حرصها دوما على تخصيص استقبال لملوكه (محمد الخامس، الحسن الثاني، محمد السادس) كأصدقاء كبار للشعب الأمريكي وللدولة الأمريكية، وانعكاس ذلك على أغلفة كبريات مجلاتها الإعلامية (التايم نموذجا).
إن الخلاصة المركزية هنا، هي أن المغرب ظل حليفا بالنسبة للولايات المتحدة أمنيا وعسكريا، منذ الحرب العالمية الثانية، ضمن الأفق الجيو ستراتيجي الأطلسي لواشنطن، وأنه اليوم قد بدأ يتحول، منذ مطلع الألفية الجديدة، بحسابات القرن 21، إلى شريك اقتصادي أيضا ضمن الأفق الجديد لما يمكن تسميته ب «الزمن الإفريقي في الإستراتيجية الأمريكية الأطلسية» التي قررت تطوير والرفع من مستوى التواجد الأمريكي في قارتنا السمراء إلى أفق مؤسساتي، في تنافس مع قوة اقتصادية وتجارية هائلة وقوية مثل الصين. لأنه علينا الإنتباه إلى أن الرهان الأمريكي على إفريقيا اليوم، هو رهان بدفتر تحملات جديد، يكاد يوازي الرهان الذي كان لديها على محورين استراتيجيين طيلة القرن 20، هما المحور «الأوراسي» (الأروبي الآسيوي، كما حلله بعمق مستشار الأمن القومي على عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، البولوني الأصل، زبيغينو بريجنسكي في كتابه الهام «رقعة الشطرنج الكبرى»)، ثم المحور الأمريكو – لاتيني، الذي كان ولا يزال الإمتداد الجغرافي والإقتصادي والأمني والثقافي الحيوي لواشنطن. وأن الرهان الإفريقي اليوم أمريكيا هو بمنطق القرن 21، المتأسس على تعدد القطبية العالمية، وأن مستقبل استمرار أمريكا كقوة عالمية (كقطب عالمي) هو في أن تكون لها «استراتيجيتها الإفريقية» بخلفية عبارة الرئيس باراك أوباما أن إفريقيا هي « قصة النجاح الكبرى القادمة في العالم». لأن إفريقيا هي الجغرافية الأكبر اليوم للإستثمار في كل مستويات البنى التحتية، وهي الخزان الهائل لأهم الثروات المنجمية والطاقية والفلاحية والغابوية والبحرية، وهي أكثر من ذلك المجال الجغرافي لطاقة بشرية شابة، وأنها تشهد وستشهد أكثر في العقود الخمس القادمة، صعودا كبيرا للطبقة المتوسطة بأعداد تتجاوز 500 مليون نسمة. بالتالي فهي سوق صاعدة ضمن السوق العالمية.
«إفريقيا الأمريكية» هذه (إذا جاز لنا التعبير)، لها منطقها الجغرافي الحيوي الحاسم، أي لها مداخلها الجغرافية المحورية ضمن الرهانات الأمريكية الجديدة. ولأن للجغرافية منطقها العنيد، فإن القدر شاء أن تكون الجغرافية المغربية، بموانئها ومطاراتها وصحرائها، هي المحطة الأقرب لنيويورك وواشنطن وبوسطن وفلوريدا. والكثير من التاريخ تصنعه الجغرافية في نهاية المطاف.
ضروري أيضا، عدم إغفال معطى هام آخر، ظل دائما حاضرا في تأطير شكل علاقة واشنطن معنا منذ القرن 18، المتمثل في حرصها على عدم إسقاط حيوية المصالح الأروبية بمنطقتنا الشمال إفريقية، التي تدرك واشنطن أنها شريكنا الإقتصادي الأول وأننا امتدادها الحيوي ضمن الفضاء المتوسطي، وأن علاقاتنا مع عواصم مركزية بها (برلين، باريس، لندن ومدريد)، يشكل نوعا من حبل سرة مصالحية حيوية منذ قرون وسيبقى. بالتالي ها هنا يكمن المعنى الذي نقصده حين نقول إن الجغرافية المغربية نقطة تلاق محورية واستثنائية بين مصالح كبرى لقوى دولية وازنة، ظلت دوما بالنسبة لنا تاريخيا وبقوة موقعنا الجغرافي والجيو ستراتيجي هي الجوار الأروبي متوسطيا والجوار الأمريكي أطلسيا. مثلما أنه مهم، أيضا، استحضار أن ما عزز من رهان واشنطن على علاقاتها مع المغرب، هو أن مغرب القرن 21 ليس هو مغرب القرن 19، لأن التطور المؤسساتي المتحقق ببلادنا على مستوى خياره السياسي الديمقراطي، التداولي على تدبير الشأن العام منذ حكومة التناوب التي هندسها العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني وقادها الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي رحمه الله، بكل ما رافق ذلك، خلال العقدين الأولين للقرن 21، من دستور جديد، وتطوير للبنى التحتية بالمجال الترابي المغربي، وتجديد الترسانة القانونية للإستثمار، والإنخراط في التطوير التقني للإدارة المغربية، وتجسير منظومة مؤسساتية لاحترام حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا (وموقف واشنطن دوما حريص على مستوى هذا الملف مغربيا، الذي لا يقبل التشويش أو الخطأ فيه)، هو واقع خلق شروطا أخرى جديدة لترتيب العلاقة بينه وبين جواره المتوسطي وجواره الأطلسي. وبالنسبة لهذه القراءة التحليلية والتركيبية لتاريخ العلاقات المغربية الأمريكية، فتلك واحدة من الخلاصات الكبرى التي تحسن قراءتها جيدا «البراغماتية الأمريكية»، ضمن أفق تطور رؤيتها الأطلسية لإفريقيا وللفضاء المتوسطي.
إننا نجزم أن التحول الكبير في العلاقات المغربية الأمريكية اليوم، بحسابات القرن 21، كامن في أنها علاقات أصبحت تمشي بذات الإصرار على سكتين صلبتين:
واحدة أمنية عسكرية (عنوانها الأبرز المستوى المتجدد الرفيع لمناورات الأسد الإفريقي، الأكبر قاريا ومتوسطيا وشرق أوسطيا. ودورية المناورات البحرية التي من آخرها «مناورات مصافحة البرق» منذ سنة ونصف التي شاركت فيها لأول مرة منذ استقلال المغرب حاملة الطائرات الأمريكية إيزنهاور. ثم التعاون الأمني المؤسساتي المنتظم والمنتج على كافة المستويات لمواجهة مختلف أشكال الجريمة من الإرهابية إلى المالية إلى الإتجار في البشر إلى معابر المخدرات الصلبة).
والأخرى اقتصادية (اتفاقية التبادل الحر، اتفاقية الألفية، الإتفاق الثلاثي المغربي الأمريكي الإسرائيلي، مبادرة ازدهار إفريقيا … إلخ). وأن ذلك كله قد أصبح مؤطرا ضمن سقف «الحوار الإستراتيجي بين الرباط وواشنطن» الذي كان الأول من نوعه إفريقيا وعربيا منذ سنة 2001.
لايمكن، في الختام، إغفال الشق الثقافي أيضا في رسوخ العلاقات الأمريكية المغربية، منذ نهايات القرن 19 وبدايات القرن 20، منذ زمن جيل الأديبة الأمريكية جيرترود شتاين في العشرينات والثلاثينات، وجيل تيار «بيت جينيرايشن» بأقطابه الكبار آلان غينسبرغ، جاك كيرواك، وليام بوروز، ثم جيل بول بولز، الذين ارتبطوا جميعهم بمدينة طنجة. ثم أبحاث مدرسة الأنثربولوجيا والسوسيولوجيا الأمريكية بالمغرب، التي شكلت تيارا مختلفا عن التيار الفرنسي في الخمسينات والستينات والسبعينات، التي من أشهر أعلامها جون واتربوري (صاحب كتاب «أمير المؤمنين.. الملكية والنخبة السياسية بالمغرب») وكينيت براون (صاحب أطروحة «موجز تاريخ سلا»). ثم أثر موسيقى كناوة والغيوان في بعض من الموسيقى الأمريكية (الكثير من أعمال جيمي هاندريكس). ثم مدرسة التاريخ الأمريكية المهتمة بتاريخ المغرب، التي صف الباحثين فيها طويل منذ منتصف الخمسينات، خاصة بجامعات كاليفورنيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.