كيف يمكن تمثل قصة العلاقة بين المملكة المغربية والولاياتالمتحدة الأمريكية كما تحققت في التاريخ المعاصر والحديث؟. ما هي أبعادها سياسيا وحضاريا وأمنيا وتجاريا؟. لماذا بقيت حقيقة العلاقات بين البلدين سجينة كليشهيات عناوين كبرى، دون الغوص في تحليل المعنى التاريخي لتلك العلاقة النوعية والخاصة؟. أين يكمن السر في كل الرسوخ الإستراتيجي للعلاقة بين واشنطن والرباط؟. وما الذي يشكله «لوبي التاريخ» في تجسير تلك العلاقة بين الدولتين؟. ثم ما الأهمية التي للجغرافية في العلاقة بين طنجة وبوسطن، وبين الدارالبيضاء ونيويورك، وبين الصويرة وفلوريدا؟. إنها بعض من الأسئلة التي تحاول هذه المادة الرمضانية أن تجيب عنها، من حيث هي تحاول رسم خط تاريخي لميلاد وتطور العلاقة بين المملكة المغربية والولاياتالمتحدة الأمريكية. نعم، هي تستحضر أكيد، أن عين درس التاريخ المغربي ظلت دوما مصوبة باتجاه الشمال المتوسطي في أبعاده الإسبانية والبريطانية والفرنسية والألمانية، وهي تحاول أن تنزاح قليلا صوب غرب المغرب باتجاه عمقه الأطلسي، من خلال مغامرة نبش الغبار عن ذاكرة العلاقات بيننا وبين بلاد «العم سام». ففي ذلك تفسير آخر للكثير من القصة المغربية (الدولة والمجتمع) في التاريخ الحديث والمعاصر وضمن مهرجان اصطخاب المصالح بين القوى العالمية، التي جغرافيته مجال من مجالات تقاطع تلك المصالح.
كيف انتقلت علاقات المغرب والولاياتالمتحدة الأمريكية إلى زمن القرن 20، وما هي المحطات الأبرز لذلك الإنتقال؟. إنه سؤال آخر كبير يتطلب زمنا تحليليا ممتدا من مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 حتى محطة الإنزال العسكري الأمريكي بالمغرب في نونبر 1942. ولا يمكن تمثل ذلك الإنتقال، بدون العودة إلى ما وقع في المسافة الزمنية ما بين مؤتمر برلين سنتي 1884 – 1885، والحرب الأمريكية الإسبانية بكوبا والفلبين سنة 1898، ثم الحرب العالمية الأولى ما بين 1914 و1918. إن المقصود، هو أنه في المسافة ما بين 1884 و1918، سيولد نظام عالمي جديد، لا علاقة له بالنظام العالمي للقرنين 18 و19، من حيث إنه تجاوز له. وأن ذلك التجاوز قد تحقق من خلال بروز قوى عالمية جديدة، ذات نظم سياسية شبه متضادة اقتصاديا وتدبيريا ومؤسساتيا، هي أمريكا الرأسمالية والليبرالية والسوفيات الشيوعية. ولقد دشن مؤتمر برلين للدول الأروبية الإثنى عشر إضافة إلى واشنطن، الذي دعت إليه البرتغال واحتضنته ألمانيا بيسمارك، المنعقد ما بين 15 نونبر 1884 و26 فبراير 1885، لميلاد ذلك النظام العالمي الجديد. علما أن الغاية من ذلك المؤتمر قد كانت في البداية هي حل ما عرف ب «المسألة الكونغولية»، التي سجل فيها تنافس نفوذ استعماري على حوض الكونغو الغني بالماس والخشب بإفريقيا، بين بلجيكا وألمانيا وفرنسا من جهة وبين بريطانيا والبرتغال من جهة أخرى. هكذا فقد كانت الدول التي حضرت إلى مؤتمر برلين هي: ألمانيا، البرتغال، إنجلترا، فرنسا، روسيا القيصرية، تركيا العثمانية، بلجيكا، النمسا، إسبانيا، السويد، الدنمارك، الولاياتالمتحدة الأمريكية، إيطاليا. والذي انتهت جلساته العشر إلى إصدار ما عرف ب «الميثاق الإستعماري»، الذي حدد مجالات نفوذ كل قوة من تلك القوى الغربية في القارة الإفريقية أساسا وفي باقي القارات بالإستتباع، الذي جاء متضمنا لثمانية وعشرين بندا، وقعته كل تلك الدول المشاركة عدا الولاياتالمتحدة الأمريكية التي رفضت التوقيع. هذا الرفض الأمريكي، سيتبلور أكثر في بداية القرن 20، ليصل تتويجه إلى صدور المبادئ 14 للرئيس الأمريكي «وودرو ويلسون» سنة 1918، التي ستصبح عمليا هي المرجعية الكبرى للنظام العالمي للقرن كله. والخلاصة هنا، هي أن أمريكا جديدة قد بدأت تولد على الساحة العالمية، غير أمريكا القرن 19 بمبادئ مونرو الحمائية والإحتياطية والتحرزية. وكان من عناوين ذلك البروز دخولها في حرب مع المملكة الإسبانية سنة 1898، انتهت بتحرير واشنطن لكوبا وللفلبين، الذي اعتبر التدشين لنهاية التواجد الإسباني في بحر الكرايبي وفي المحيط الهادئ، الذي امتد لأربعة قرون. مثلما أنها كانت التدشين لميلاد الأساطيل البحرية العسكرية الأمريكية عبر المحيطات. وأنه على قدر ما تطورت النظم السياسية والعسكرية الغربية الأروبية في اتجاه خيار «الإستعمار» للجغرافيات العالمية (خاصة بإفريقيا وآسيا) تنفيذا لقرارات مؤتمر برلين لسنة 1884، على قدر ما كانت واشنطن تسجل اختلافها عن ذلك التوجه الأروبي بما تراه يخدم حماية «الحرية التجارية» عبر البحار. وأنه على قدر ما انتهجت العواصم الأروبية سياسة المعاهدات السرية بينها لتقسيم الأراضي المستعمرة بينها (فقد وقعت اتفاقيات سرية عدة بين ألمانيا وفرنسا، وبين فرنسا وإنجلترا، وبينها وبين إسبانيا، وبينها وبين إيطاليا، كان من نصيب المغرب فيها اتفاقيات سرية منذ 1901 حتى 1904، بين كل من فرنساوإيطاليا، وفرنسا وإنجلترا، وفرنسا وإسبانيا، تتنازل فيها تلك الدول عن المغرب لصالح باريس مقابل تنازل فرنسا عن مصر والسودان لإنجلترا وليبيا لإيطاليا وشمال المغرب المتوسطي وجنوبه الصحراوي لإسبانيا)، على قدر ما كانت واشنطن تدفع في اتجاه علنية الإتفاقيات بين الدول، وفي اتجاه تنظيم التجارة العالمية بما يحقق مصالح جميع تلك القوى العالمية. ضمن هذا التحول العالمي، كان حظ المغرب أن يصبح موزعا بين «الحزب الإستعماري» الغربي الأروبي وبين البراغماتية الأمريكية النفعية التجارية، خلال المسافة الزمنية بين مؤتمر مدريد سنة 1880 ومؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، التي كانت «القضية المغربية» محورهما الرئيسي والوحيد. وأصبحت العلاقة الأمريكية المغربية، مؤطرة ضمن سياقات النظام العالمي الجديد ذاك، حيث أصبحت مواقف واشنطن من المغرب قرينة بحساباتها الجيو ستراتيجية الجديدة، ضمن علاقتها مع منافسيها من تكتل الدول الأروبية الغربية. وأنه بالتوازي، على قدر ما بدأت الولاياتالمتحدة الأمريكية تتحول إلى قوة رأسمالية وصناعية وعسكرية (خاصة تطوير قواتها البحرية)، منافسة للقوى الرأسمالية الأروبية التقليدية الكبرى، في تدافع يعيد ترتيب مجالات النفوذ بينها. على قدر ما كان المغرب ينزلق أكثر نحو عزلة دولية خانقة، أمام الطوق الذي بدأ يشتد عليه من قبل القوى الأروبية، خاصة الفرنسية منها المحتلة للشواطئ الشمالية للجزائر منذ 1830 ولتونس منذ 1882، وبداية رسوخ تحوله إلى مجال لصفقات سرية بين كل من باريس ولندن ومدريد وروما وبرلين، في المسافة الزمنية بين 1901 و1911. مثلما بدأ يفقد أراضيه الحدودية في الشرق، بمنطقة توات والساورة وتيندوف ابتداء من سنة 1900، ووجدة ابتداء من سنة 1907 والدارالبيضاء في ذات السنة. وكان الموقف الأمريكي أمام تطورات الملف المغربي منحصرا في ضمان استمرارية حقوقها التجارية مع الجغرافية المغربية كما تخولها ذلك معاهدة 1863 مع السلطان سيدي محمد بن عبد لله، وأن يكون لها حق «الحرية التجارية والمساواة مع باقي الدول الأروبية اقتصاديا» بالمغرب. كان الأسطول العسكري البحري الأمريكي الوليد في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، قد بدأ يتحول إلى أداة حاسمة ضمن تدافع حسابات النظام العالمي الجديد لما بعد مؤتمر برلين لسنة 1884، لكنه لم يكن يتحرك سوى ضمن مجالات النفوذ الحيوية لواشنطن حينها، التي هي شرق المحيط الأطلسي وجنوب المحيط الهادئ ومنطقة الكراييب وأمريكا الوسطى (حماية وتنفيذ مشروع قناة بنما). مثلما كان له حضور مؤثر في الفضاء المتوسطي لكن فقط لحماية السفن التجارية الأمريكية، ولم يدخل قط في أية مواجهات مع الأساطيل الأروبية في منطقة شمال إفريقيا التي من ضمنها المغرب. والمرة الوحيدة التي حركت فيها واشنطن سبعة من سفنها الحربية من أسطولها السادس قبالة مدينة طنجة، قد كانت سنة 1904 للتهديد بقصف الأراضي المغربية كوسيلة ضغط لتحرير مواطنها الأمريكي بيرديكاريس المختطف من قبل المتمرد المغربي الريسوني. وكان اليقين الأمريكي حينها، أن المغرب يتعبر منطقة توترات بسبب تنافس قوى أروبية لفرض الحماية عليه واحتلاله، وأنه ليس مجالا آمنا للإستثمارات المالية الأمريكية، مثلما أن ضعف بنيته الإدارية وتخلف بنيته التحتية التي تتطلب التطوير والتحديث بمنطق نظام الخدمات الحديثة، يضعفان الرهان عليه. مما كانت النتيجة العملية على الميدان، في الصورة العامة للواقعة المغربية حينها، هو حرص واشنطن على دعم ما تعتبره متفهما من محاولات فرض الحماية على الجغرافية المغربية بغاية تحديثها من قبل فرنسا وإسبانيا (ماليا، مؤسساتيا، بنى تحتية من موانئ وطرق وخدمات)، لكن دون أن يكون ذلك على حساب حقوقها السابقة في التواجد التجاري بالمغرب. ولعل العنوان الأبرز لذلك، عدم موافقة واشنطن على قرار الحماية الفرنسية والإسبانية على المغرب سوى سنوات بعد 1912. كانت واشنطن، عمليا، أثناء وبعد مؤتمر الجزيرة الخضراء، الخاص بالقضية المغربية، مع الطرح الفرنسي الإنجليزي، في ما يتعلق بتفاهمات 1904 السرية بينهما بخصوص مستقبل المغرب، وليس مع طريح برلين، حتى وإن كانت ألمانيا ومملكة النمسا والمجر تدافعان عن المبادئ المفضلة عند أمريكا المتمثلة في «الحرية التجارية والباب المفتوح والمساواة بين الدول في السوق المغربية». بحيث إنه حين احتد النقاش لشهور ما بين يناير وأبريل 1906، حول مسألتي إنشاء شرطة أروبية بالموانئ المغربية، وإنشاء بنك مركزي مغربي، ذهبت واشنطن مع الطرح الفرنسي الإنجليزي وليس الألماني، المتعلق بأن تكون باريس هي المشرفة على البنك والمالكة لأكبر نسبة فيه (27 %)، تليها بريطانيا (20 %)، ثم ألمانيا (20 %)، ثم إيطاليا (10 %)، ولقد سجل باستغراب حينها رفض واشنطن المساهمة ضمن رأسمال ذلك البنك. فيما اقترح خلق «شرطة أروبية» بالموانئ المغربية تكون فرنسية في الرباطوالدارالبيضاءوطنجة (بتنسيق مع ضباط هولنديين وسويسريين)، وإسبانية في تطوان والعرائش والجديدةوالصويرة. لابد من تسجيل معطى تاريخي آخر هام، يتمثل في أن تطور التحول الأمريكي ضمن النظام العالمي الجديد للقرن 20، سيجد ترجمته في مشاركة القوات الأمريكية لأول مرة منذ تأسيسها كدولة سنة 1776، في حرب خارج الأراضي الأمريكية بأروبا، سنة 1917، زمن الحرب العالمية الأولى. وأن تلك المشاركة تعتبر التدشين لميلاد القوة الأمريكية عالميا وليس إقليميا كما كان عليه الحال في القرن 19. مما كانت نتيجته تغير العلاقة بين واشنطن وباريس، الذي من عناوينه في ما يهمنا مغربيا هو صدور أول اعتراف مبدئي أمريكي بالحماية الفرنسية على بلادنا سنة 1917 (مهم هنا العودة إلى بعض من التفاصيل حول أهمية المشاركة الأمريكية في الحرب العالمية الأولى ونتيجة ذلك على العلاقات الفرنسية الأمريكية كما هي واردة في مذكرات الماريشال ليوطي أول مقيم عام فرنسي بالمغرب، الصادرة سنة 1927). فيما بقيت مسألة الإعتراف الأمريكي بالحماية الإسبانية على شمال المغرب معلقة حتى نال المغرب استقلاله في ثلثي أراضيه سنة 1956، بسبب اختلاف نوعية العلاقة بين واشنطن وباريس عن العلاقة بين واشنطن ومدريد. ولعل من المجالات التي سيبرز فيها اختلاف في الموقف الأمريكي من القضية المغربية ما بعد 1912، هي الحرب الريفية بقيادة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي ما بين 1921 و1926، والإنزال الأمريكي بالمغرب لقوات المارينز في نونبر 1942، بمدن الدارالبيضاء والقنيطرة وسيدي يحيى الغرب وسيدي سليمان وآسفي.