اعتنى الفيلسوف الفرنسي ببرنار ستيغلر بما يمكن تسميته بفلسفة العصر الرقمي، وقد شملت هذه الفلسفة معظم أعماله الفلسفية. وهو يرى مثل فلاسفة آخرين أن الحضارة الحالية متوجهة، تحت تأثير العالم الرقمي، إلى نمط من الحياة يرتكز بالدرجة الأولى على برمجة كل شيء يتعلق بالأنشطة العامة والخاصة للحياة، وهو ما سيؤثر على كل أشكال الوجود والحياة البشريين، ليس في النشاط الاقتصادي والصناعي خاصة بل وفي عموم الاستعمالات التي تخص ما يسمى اليوم بالمدن الذكية بمختلف أنماطها الحديثة . لقد بدأ كل شيء بالثورة المعلوماتية، التي قادت التطورات الخاصة بها إلى التعميق التكنولوجي لنظرية معالجة المعلومة، تشمل هذه النظرية العلم والتقنية والصناعة، وتخص المعالجة الآلية للمعلومة الرقمية بتطبيق برامج معلوماتية يتم الاعتماد فيها على آلات مثل النظم المدمجة والحواسيب والروبوات والآلات الأوتوماتكية… إلخ، ونعلم اليوم أنه يمكن تقسيم حقول التطبيق هذه إلى شعبتين، شعبة نظرية وتتعلق بتعريف المفاهيم وتحديد النماذج، وشعبة تطبيقية وتعنى بالتقنيات الملموسة والعملية التي تجعلها تشتغل على النحو الذي تحدده الأهداف المتوخاة منها، وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعضا من تلك الحقول يمكن أن تكون على مستوى جد مرتفع من التعقيد اللوغاريتمي، ذلك أنها تستلزم علما ومعرفة متقدمين جدا حيث تستوجب تكوينا عاليا جدا، في حين أن حقولا أخرى تبقى متيسرة للجمهور الواسع، الذي يتكيف مع تلك التقنيات بالاستعمال المتكرر، والذي لا يفرض سوى مستويات من الذكاء عادية جدا ودون أي تكوين حتى… ذلك أن اللغات الجديدة هاته، الإلكترونية، تبقى في إمكان الذين يتوفرون على تكوين صلب يخص المهنيين وحدهم، القادرين على قراءة ووصف مكونات الحواسيب والقبض على مناهج البرمجة شديدة التعقيد في حين أن مهن استعمال الآلات المعلوماتية تبقى في إمكان قدرات الجمهور الواسع. لقد كانت الثورة المعلوماتية هاته مقدمة لما سيعرف بالذكاء الاصطناعي، وهما معا من أبرز خاصيات الحضارة الحالية، حضارة تتميز باعتبار الذكاء الاصطناعي، ذكاء يتجاوز الذكاء البشري، يتجاوزه في العديد من الميادين، وهو ما يشكل، ما يمكن تسميته ب (الوعي الرقمي)، الذي يكتسح اليوم العقول والعادات الجديدة في الوجود الإنساني، موظفا الذكاء الاصطناعي نفسه، وهو الذكاء الذي يشكل اليوم مسرحا لمعركة قاسية بين القوى العظمى، قوى الولاياتالمتحدةالأمريكيةوالصين، ذلك أن كل واحدة من هاتين القوتين العظميين تسعى إلى الانفراد والاستحواذ على قضايا العالم، العالم الأرضي والعالم الفضائي، بتوظيف السلاح الجديد هذا، سلاح الذكاء الاصطناعي. يتساءل بيرنار ستيغلر، بعد تسليمه بأن الذكاء الاصطناعي والوعي الرقمي الذي يصاحبه يمثلان اليوم العلامة الأبرز للوجود الإنساني، في ما إذا كان هذا الوعي سيقود إلى مزيد من الديموقراطية، أم أنه على العكس تماما سيؤدي إلى الشمولية. هل سينتج عن هذا الوعي الجديد المزيد من التحرر في حياة الفرد والجماعة أم على العكس سيخلق نمطا جديدا من المجتمعات يميزها الاستعباد الذاتي والمراقبة القهرية؟ هل سيبلور طرقا جديدة في الحفاظ على الصحة ومقاومة الأمراض، مثلا، ومواجهة الأوبئة، وسبلا مبتكرة للقضاء على الفقر ومعالجة مشكلات الإنسان الجديدة المرتبطة باستعمال الطاقة والحفاظ على البيئة… إلخ . إن عددا لا باس به من كبار المثقفين في العالم يطرح ذات التساؤلات المرتبطة بعلاقة الذكاء الاصطناعي بالمصير الإنساني على كوكب الأرض، وهو ما استقبله كبار الساسة المتحكمين في السياسة الدولية، نسوق هنا على سبيل التمثيل لا الحصر، تصريح رئيس الفيدرالية الروسية فلاديمير بوتين وهو يتوجه بالخطاب إلى مواطنيه متحدثا عن ذات الموضوع، فيقول: ( إن الذكاء الاصطناعي ليس مستقبل روسيا فقط، بل مستقبل الإنسانية جمعاء، وإن من سيكون الرائد في مجال الذكاء الاصطناعي سيصبح هو سيد العالم). كان الرئيس الروسي أول مسؤول سياسي كبير في العالم يتحدث عن هذا الانقلاب الجديد في حياة الوجود الإنساني، وهو ما يفسر ما أشرنا إليه بخصوص الحرب الضروس بين الصين وأمريكا في مجال الذكاء الاصطناعي مثلما يفسر بداية اكتساح ما نسميه هنا الوعي الرقمي حتى لقمم السلطة في العالم. والحق أن هذا هو النظام العالمي الجديد الفعلي، الذي يجري فيه الصراع بين الكبار، في غفلة من الصغار، مسترشدين بالوعي الجديد ذاك…