ثورة تكنولوجية هائلة في الأفق .. ماذا نحن فاعلون؟ عندما تم تصميم الذكاء الاصطناعي استنادا إلى كيفية عمل الدماغ البشري (الذكاء الطبيعي) استثمر الباحثون عبر الجهد العلمي / التقني المتواصل طريقة عمل شبكتنا العصبية الضخمة التي تضم ما يقارب مائة مليار خلية عصبية مترابطة في ما بينها. لم تكن الغاية من ذلك تحقيق حلم عادي فقط، بل إنجاز طموح أبدي جامح يتمثّل في بحث إمكانية تحقيق فكرة الخلود التي طالما راودت الإنسان؛ وذلك ببناء نماذج تقنية للإنسان الآلي ذاتي التحكم والبرمجة الرقمية عبر أجهزة حاسوبية فائقة التطوّر والدقة والتعقيد، كما سبق أن تنبأ بذلك الخيال العلمي، والتي بدأت بعضها تتحقّق الآن (Laurent Alexandre). ولأنّ دماغنا الطبيعي يعمل بمرور نبضات عصبية من خلية إلى أخرى في ما يشبه تداعي أحجار الدومينو، حيث تترابط الخلايا في ما بينها؛ فقد نجح العلماء في تحفيز هذه الدائرة العصبية على جهاز الكومبيوتر (الحاسوب) ببناء نماذج خوارزمية قابلة للبرمجة الرقمية انطلاقا من محاكاة كيفية عمل الخلايا العصبية العادية. أصبحت هذه البنية الاصطناعية قادرة اليوم على تَعَلُّم كيفية التعرّف على مرض السل أو السرطان، مثلا، دونما الحاجة إلى تشخيص الطبيب المختص في عيادته. في الواقع يعدّ ما طوّرته برمجيات مايكروسوفت الشهيرة من برامج رقمية للمكتبات شيئا قليلا فقط من ممكنات هذه الثورة الرقمية؛ لكن مساهمتها هذه تجاوزت بكثير المفهوم التقليدي للمكتب المكتبة، إذ غدت البرامج المعلوماتية وحدها الكفيلة بإنجاز كلّ ما كان يستغرق من الإنسان العادي الوقت الطويل والجهد المضني. جعلت تقنيات المعلوميات، وتطبيقاتها المختلفة، المكاتب غير ممركزة، كما تحولت محركات البحث على الشبكة العنكبوتية، بفضل هذا الذكاء الاصطناعي، إلى أكبر الشركات العالمية المحقّقة للربح والأعمال (مايكروسوفت، غوغل، أمازون، فايس بوك، علي بابا، الخ).. إنها أصبحت بين عشية وضحاها تعمل دونما الحاجة إلى المزيد من العمال الذاتيين في إدارة شؤونها. لقد تلاشى العمل بمعناه التقليدي بفضل ما تتيحه تقنيات الذكاء الاصطناعي من خوارزميات قابلة للاستثمار الاقتصادي في مناحي الحياة المعاصرة؛ فأين المشكلة من كلّ هذا؟ أليست التقنية في صالح الإنسان دوما؟. إنّ الشيء الجديد، الآن، هو هذا الذي بدأت تحدثه الآلة الذكية (الربوتات تحديدا)، ألا وهو خلخلت ثقافتنا ومفاهيمنا الكلاسيكية عن العمل والربح والكسب والمهارة والملاءمة، إلخ! نعم، لقد قَلَّبت التكنولوجيا الجديدة رأسا على عقب تلك التراتبية الإدارية التي ظهرت مع المجتمع الصناعي للقرنين: 19 و20، بأن كسّرت بيروقراطيتها التقليدية التي كانت تستفيد من تقديم خدمات مؤدى عنها في شكل عقود عمل ووظائف متّفق حولها. فكّك الذكاء الاصطناعي بعدي الزمان والمكان في تقديم الخدمات عبر العوالم الممكنة الجديدة التي أصبحت تتيحها مختلف التطبيقات التي تتيحها البرمجة المعلوماتية.. فكّكت نموذجية عملها الآلي السريع والدقيق مفهومنا الحديث للشغل، وهدّمت تصورنا الكلاسيكي للمكتب وللعمل والشغل. إنّ ما أدخلته بعض الشركات في أمريكا من تقنيات جديدة غير مسبوقة، عبر تقنية الخدمة عن بعد، دفع الكثير من الموظفين والعمال إلى فقدان وظائفهم العادية، نتيجة إحلال برمجيات الذكاء الاصطناعي في تقديم الخدمة والتواصل والتفاعل مكان هؤلاء البسطاء. نتيجة لذلك، تحوّل قطاع الخدمات والتوزيع، شيئا فشيئا، إلى شبكة مرقمنة، مؤثّرا بذلك بقوة على قطاع اللوجستيك والنقل التقليدي، حيث استشرى الاستغناء عن اليد العاملة واستفحل تسريح العمال لصالح المزيد من التطبيقات الرقمية. في ظلّ هذا الواقع المستجد، فقدت قوَة العمل البشري زخمها وجاذبيتها لفائدة الذكاء الاصطناعي. و ضعفت مبرّرات وقيمة اليد العاملة تدريجيا في الإنتاج الاقتصادي، والأمثلة التي قدّما "جيرمي ريفكن" (Jeremy Rifkin ) بهذا الصدد كثيرة تشمل مختلف مجالات الإنتاج، وتخصّ في معظمها شركات بيع وتقديم الخدمات إلى العملاء الحقيقيين والمفترضين. وإنّ ما يشجّع على ذلك أكثر هو تفضيل الشركات للذكاء الاصطناعي نظرا لتكلفة الإنتاج الرخيصة مقارنة مع اليد العاملة، يضاف إليه تفضيل العملاء للخدمات عن بعد بواسطة البيع والشراء عبر تطبيقات رقمية تعتمد تقنية الأداء عبر مختلف أنواع البطائق الإلكترونية السهلة والسريعة في الأداء وربح الوقت. تشي كلّ القرائن والمؤشرات باندثار وزوال نظام البيع والشراء التقليديين لفائدة التسويق والتجارة الإلكترونية؛ لذلك، والحالة هاته، لم يعد بإمكان المتاجر الكبرى توظيف المزيد من العمالة مادام الأمر كلّه موكولا لنظام رقمي بدأ يتأسّس ويتوسع شيئا فشيئا. إنّ الشركات الكبيرة لم تعد تعوّل على طرق التسويق التقليدية، حيث المستشهرون الكلاسيكيون يتوسطون بينها وبين زبناء محتملين، وإنما البراديغم الجديد أصبح يقضي بأن تسوّق التجارة لنفسها بنفسها عبر برامجيات تطبيقية تستطيع جلب انتباه المستهلكين خارج إطار المنظومة التقليدية للسوق. هكذا، أثّرت إستراتيجية رقمنة سوق الخدمات بشكل فعلي على سوق العمل وجعلته فاقدا لمبرّراته التقليدية، ما يجعل الكثيرين ينخرطون في أشكال وأنماط جديدة للتسويق والبيع والشراء. لقد أصبح تعلّم المعلوميات والبرمجة الرقمية، والتمكن من الحوسبة، آخر القلاع للنضال من أجل الاستفادة من فرص هذا الاقتصاد الرقمي الشرس وغير الإنساني. لذلك، لا مجال للرجوع إلى الوراء بالنسبة إلى الشركات التي لا يهمها سوى ربحها المالي؛ فلا وقت لتضييعه في النقاشات العقيمة حول التأثيرات الجانبية لهذا البراديغم الجديد في العمل، بل الأهم من كلّ ذلك هو البحث عن كيفية الاستفادة منه قدر الإمكان. لقد أصبح كلّ شيء سلعة؛ وقد تحقّق تنبؤ ماركس بكونها ستعمل على تسليع أي شيء يمكن أن تكون له قيمة ربحية.. إنّ هذا الأمر لهو ما تكشف عنه الليبرالية الجديدة؛ وحتى لا تفوّت الشركات أي مقدار من الربح على نفسها، فمن الذي سيمنعها من رمي العمال في قمامة المهملات، والاستعاضة عنهم بالآلات الذكية (الروبوتات الإلكترونية)؟. إنّ أي سلعة ممكنة نبحث لها عن التسويق والمتاجرة قد ظهر اليوم الكائن الذي يستطيع إنتاجها وتسويقها دون أن يكلّف أي مقابل عن ذلك، عدا ثمن شرائه في البداية. إنّه الذكاء الاصطناعي القائم على تقنيات البرمجة المعلوماتية، وهي التي تسمح أدمغة السيليكون الدقيقة بجعلها ربوتات حقيقية تعمل من تلقاء ذاتها.. إنّه بمجرّد ما يتم الدفع به في المصنع، أو في الخدمة والعمل، بشكل موسع، عندها يعمل ولن يتوقّف عن الدوران حتى يزيح آخر بشري من على مسرح خطّ الإنتاج والتسويق. ليست مبالغة أن ننبّه إلى خطورة هذه المسألة، خاصّة في مجتمعاتنا التي لازالت تتلمّس الطريق نحو الإقلاع الاقتصادي والصناعي، وإنما استشعارا منّا لخطورة ما يقع حولنا، فبينما نحن في "دار غفلون"، كما يقال بالعامية، تتبدى الكارثة في المستقبل المنظور: أخطار اجتماعية واقتصادية حقيقية، بل مأساة إنسانية تلك التي ستجعل الكثير من الناس عاطلة عن العمل، غير ذات فائدة للإنتاج الاقتصادي. إنّ البحث عن حلّ استشرافي لهذه المشكلة الجديدة لا بدّ وأن يمرّ، بداية، بالاعتراف بأنّ نشاطنا الاقتصادي الراهن يستوجب منا، ضرورة، أن نستوعب تناقضاته، حتى نستطيع أن نعرف كيف نوجّهه بما يقينا الهزات الاقتصادية المقبلة. غير أنّ هذا الأمر لن يحلّ في شيء معضلة البطالة المستشرية مسبقا لدينا؛ لذا، كلّ ما علينا الآن وقبل الغد هو أن نغير كلّية من مفهومنا المتقادم للشغل وللوظيفة. نعم، هذا صعب التصور الآن، لكن يجب قوله على الأقل من باب التنبيه؛ وسيصير علينا، بعد ذلك، وبكيفية مستعجلة جدّا، واجبا صياغة نموذج جديد للعمل والإنتاج الربحي، بحيث يكون موجها نحو تحقيق الفائدة المشترك، ولما لا الخير المشترك للجميع. لكن لتحقيق هذا الأمر، أصبح ملّحا بل واجبا وطنيا عدم التراخي في المسألة التعليمية من جميع أفراد الشعب؛ فالواضح أنّ ما تعد به الثورة التقنية الرابعة في عالم اليوم كبير، لكّنه وخيم على الشعوب التي لا تعلّم أبناءها التعليم التكنولوجي والعلمي الدقيق. أعتقد أنّ مصير أي شعب يريد البقاء في ظلّ هذا التحول الكبير يبقى رهينا بماذا يعلّم لأبنائه اليوم وليس غدا: أقصد يلزم تغيير كل مناهجنا التعليمية والتحوّل ناحية البرامج العملية والتفكير النقدي والرياضيات والعلوم الطبيعية والتكنولوجيا، وبصفة خاصّة البرمجيات والمعلوميات؛ دون نسيان دور الخيال الأدبي والفني في تقوية وتنمية الذكاء. خلاصة: توجد مخرجات تعليمنا الراهن في وادي سحيق، بينما تبدو متطلبات الاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الناشئة في قمّة جبل عال بمحاذاة هذا الوادي. فما العمل للصعود؟ أعتقد أنه في حالة ما لم تؤخذ هذه الهوة السحيقة على محمل الجدّ، وذلك بردمها وتحقيق نهضة علمية ثقافية، فإنّنا هذه المرّة فعلا سنكون خارج التاريخ بما تحمله كلمة الخروج من المعنى الكثيف.