عندما تم تصميم الذكاء الاصطناعي استنادا إلى كيفية عمل دماغ البشر (الذكاء الطبيعي)، استثمر الباحثون عبر الجهد العلمي والتقني طريقة عمل شبكتنا العصبية الضخمة التي تضم ما يقارب مئة مليار خلية عصبية مترابطة فيما بينها. لم تكن الغاية وراء ذلك تحقيق حلم عادي فقط، وإنّما انجاز طموح إنساني أبدي جامح، يتمثّل في البحث عن إمكانية تحقيق فكرة الخلود التي طالما راودت هذا الكائن البشري عن طريق صياغة نماذج تقنية للإنسان الآلي، ذاتي التحكم بالبرمجة الرقمية التي تتيحها الحواسيب فائقة التطوّر والدقة والتعقيد. ولأنّ دماغنا الطبيعي يعمل بمرور نبضات عصبية من خلية إلى أخرى فيما يشبه تداع أحجار الدومينو، حيث تترابط الخلايا فيما بينها؛ فقد نجح العلماء في تحفيز هذه الدائرة العصبية على جهاز الكومبيوتر (الحاسوب) ببناء نماذج خوارزمية قابلة للبرمجة الرقمية انطلاقا من محاكاة كيفية عمل الخلايا العصبية العادية. في الواقع، أصبح ما تنبأ به الخيال العلمي يتحقّق الآن بفضل الثورة التكنولوجية الرابعة التي يقود لواءها الذكاء الاصطناعي (Laurent Alexandre).[1] بالفعل، فإنّ هذه البنية الاصطناعية الجديدة تحوّلت اليوم لتكون قادرة على تَعَلُّم كيفية التعرّف على مرض السل، أو السرطان مثلا، دونما الحاجة إلى تشخيص الطبيب المختص في عيادته. ولعلّ ما طوّرته برمجيات مايكروسوفت الشهيرة، من برامج رقمية للمكتبات، يعدّ مجرّد الشيء القليل من بين الكثير من ممكنات هذه الثورة الرقمية الجديدة. ورغم ذلك، فقد ساهمت مايكروسوفت في تجاوز المفهوم التقليدي للمكتبة المكتب بشكل كبير، حيث غدت البرامج المعلوماتية وحدها الكفيلة بانجاز كلّ ما كان يستغرق من الإنسان العادي الوقت الطويل والجهد المضني. جعلت تقنيات المعلوميات، وتطبيقاتها المختلفة، المكاتب غير ممركزة،[2] كما تحولت محركات البحث على الشبكة العنكبوتية، بفضل هذا الذكاء الاصطناعي، إلى أكبر الشركات العالمية المحقّقة للربح والأعمال. لقد تحوّل عمالقة الانترنت (مايكروسوفت، غوغل، أمازون، فايس بوك، علي بابا، الخ) بين عشية وضحاها لتعمل دون حاجة إلى المزيد من العمّال الذاتيين، مقتصرة على التطبيقات البرمجية والذكاء الاصطناعي. وكنتيجة لهذا التحوّل التكنولوجي الكبير، تلاشى العمل بمعناها التقليدي بفضل ما تتيحه تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر خوارزميات قابلة للاستثمار الاقتصادي في كلّ مناحي الحياة المعاصرة. لكن، أين المشكلة في هذا كلّه؟ أليست التقنية دوما في صالح الإنسان؟ الشيء الجديد في هذه الثورة التقنية هو هذا التحوّل الدراماتيكي الذي بدأت تحدثه الآلة الذكية (الربوتات) في حياتنا الإنسانية. فقد خلخل نظامها الاصطناعي ثقافتنا ومفاهيمنا الكلاسيكية عن الحياة وعن العمل والربح والكسب والمهارة والملاءمة، إلخ. كما قَلَّبت التكنولوجيات الجديدة نظام التراتبية الإدارية الكلاسيكي رأسا على عقب، وأثّرت على نظام العمل الموروث عن المجتمع الصناعي الحديث؛ وذلك بأن كسّرت بيروقراطيتها التقليدية المستفيدة من تقديم خدمات مؤدى عنها في شكل عقود عمل ووظائف.[3] فكّك الذكاء الاصطناعي بعدي الزمان والمكان في تقديم الخدمات عبر مختلف العوالم الممكنة التي تتيحها تطبيقات البرامج المعلوماتية والذكاء الاصطناعي. فكّكت نموذجية عملها الآلي السريع والدقيق مفهومنا الحديث للشغل، وهدّمت تصورنا الكلاسيكي للمكتب والعمل. إنّ ما أدخلته بعض الشركات في أمريكا من تقنيات جديدة غير مسبوقة، عبر تقنية الخدمة عن بعد، دفع الكثير من الموظفين والعمال إلى فقدان وظائفهم العادية نتيجة إحلال الذكاء الاصطناعي، في تقديم الخدمة والتواصل والتفاعل، مكان هؤلاء البسطاء. ونتيجة لذلك، تحوّل قطاع الخدمات والتوزيع، شيئا فشيئا، إلى شبكة مرقمنة، مؤثّرا بذلك بقوة على قطاع اللوجستيك والنقل التقليدي، حيث استشرى الاستغناء عن اليد العاملة واستفحل تسريح العمال لصالح المزيد من التطبيقات الرقمية. في ظلّ هذا الواقع المستجد، فقدت قوَة العمل البشري زخمها وجاذبيتها لفائدة الذكاء الاصطناعي. ضعفت مبرّرات وقيمة اليد العاملة تدريجيا في الإنتاج الاقتصادي، والأمثلة التي قدّمها "جيرمي ريفكن" (Jeremy Rifkin )، بهذا الصدد، كثيرة ومتنوعة، تشمل مختلف مجالات الإنتاج وتخصّ في معظمها شركات بيع وتقديم الخدمات إلى العملاء الحقيقيين والمفترضين. ولعلّ ما شجّع على ذلك أكثر، هو تفضيل تلك الشركات للذكاء الاصطناعي على العمالة البشرية التقليدية، نظرا لتكلفة الإنتاج الرخيصة وتفضيل العملاء للخدمات عن بعد بواسطة تطبيقات رقمية تعتمد تقنية الأداء عبر مختلف أنواع البطائق الالكترونية السهلة والسريعة في الأداء. الواقع أنّ كلّ القرائن والمؤشرات تشي باندثار وزوال نظام البيع والشراء التقليديين لصالح نظام التسويق والتجارة الالكترونية. وبالنتيجة، لم يعد بإمكان تلك المتاجر الكبرى توظيف المزيد من العمالة مادام أنّ الذكاء الاصطناعي قادر على انجاز كلّ المهمّات الموكولة للبشر في نظام الشغل القديم.[4] كذلك، لم تعد الشركات الكبيرة تعوّل على نظام التسويق التقليدي، حيث المستشهورن الكلاسيكيون كانوا يتوسطون بينها وبين الزبناء، وإنما غدت تعوّل أكثر فأكثر على البراديغم الجديد للتجارة الذي يقضي بأن تسوّق البضاعة لنفسها بنفسها عبر برامجيات تطبيقية تجلب انتباه المستهلكين خارج إطار المنظومة التقليدية للسوق. هكذا، أثّرت استراتيجيات رقمنة سوق الخدمات بشكل فعلي على سوق العمل، فجعله فاقدا لمبرّراته التقليدية، ممّا جعل الكثير من الناس تنخرط في أشكال وأنماط جديدة للتسويق والبيع والشراء. وبفعل توسّع هذا النظام الجديد للتسويق الالكتروني، أصبح تعلّم المعلوميات والبرمجة الرقمية والتمكن من الحوسبة ضروريا للاستفادة من فرص الاقتصاد الرقمي الشرس وغير الإنساني. لذلك، يبدو أنّ لا مجال للرجوع للوراء بالنسبة إلى الشركات التي يهمها الربح دون غيره، ولا وقت لتضييعه في النقاشات العقيمة حول التأثيرات الجانبية لهذا البراديغم الجديد في العمل؛ بل الأهم، من كلّ ذلك، هو البحث عن كيفية الاستفادة منه قدر الإمكان. لقد أصبح كلّ شيء سلعة فعليا هذه المرَّة، وليس نظريا كما تنبأ ماركس بذلك في معرض نقده للرأسمالية المتوحّشة. ولعلّ هذا الأمر لهو ما تكشف عنه الليبرالية الجديدة اليوم؛ حيث أصبحت الشركات الكبيرة لا تفوّت أيّة فرصة للاستفادة من التقدّم التكنولوجي بما يعود عليها بالربح؛ وإلاّ من ذا الذي سيمنعها من رمي العمال في قمامة المهملات بالاستعاضة عنهم بالآلات الذكية (الروبوتات الالكترونية)؟ كلّ سلعة ذات قيمة ربحية سيكون للذكاء الاصطناعي في إنتاجها وتسويقها الفضل، ذلك أنّه فعّال وغير مكلّف يكلّف، عدا ثمن شرائه في البداية. يبدو أنّ أدمغة السيليكون الموضوعة في ربوتات صناعية هي ما سيجعلنا عمّا قريب عاطلين دون فائدة في نظام "أبارتايدي" جديد، غير إنساني، ولا يرحم! ليست مبالغة؛ بل تنبيه إلى خطورة المسألة، خاصّة إذا ما استحضرنا حالة مجتمعاتنا الفقيرة والجاهلة في معظمها، والتي ما زالت تتلمّس الطريق نحو الإقلاع الاقتصادي والصناعي العادي. فالأخطار الاجتماعية والاقتصادية التي ستترتّب عن الثورة التكنولوجية الرابعة ستجعل المجتمعات المتخلّفة مأساة إنسانية حقيقية، ستجعل الكثيرين عاطلين عن العمل، غير ذي فائدة للإنتاج الاقتصادي.[5] يبقى البحث عن حلّ استشرافي لهذه المشكلة رهين تغيير مفهومنا المتقادم للتعليم والشغل. فإصلاح التعليم مصيري بهذا الخصوص، حيث يلزم إعطاء الناس تعليما عصريا يواكب هذه الثورة العلمية والتكنولوجية، بعيدا عن الوهم الأيديولوجي واللاهوتي. بعد ذلك، وبكيفية مستعجلة جدّا، سوف يصبح واجبا صياغة نموذج جديد للعمل والإنتاج الربحي يكون موجها نحو تحقيق الفائدة والخير المشتركين للجميع. [1] Laurent Alexandre: La guerre des intelligence, éd JCLattès, Paris, 2017, p.34. [2] Jeremy Rifkin : La fin du travail. Traduit par Pierre Rouve ; édition La Découverte, Paris, 1996, pp 196-223. [3] Ibid, p.206. [4] Ibid, p.216. [5] Ibid, p.213.