دَخَلْنا اليومَ عصر الصورة والوسائط الرقمية بامتياز، وبدأتْ تتغير بسرعة كبيرة من حولنا وفي محيطنا ومجال معيشنا اليومي العديد من الأشياء وما نستهلكه من خطابات، سواء بالنسبة لوسائل إنتاج هذه الخطابات أو لمتلقيها بشكل خاص، حيث يَصْعُب معها ملاحقة، بل حتى استيعاب، ما تعرفه هذه الأشياء من تطورات مذهلة، تُدخلنا أيضا، سواء برغبتنا أو من دونها، في أنماط جديدة ومغايرة من التلقي والاستهلاك. تغلغلتْ التكنولوجيا المعلوماتية الرقمية، ونُظُم معالجة المعطيات، والتحليل المعلوماتي، والبرمجيات بشكل كاسح، في صلب حياتنا ومشهدنا اليومي، وبدأت تتغير معها الكثير من عاداتنا ورؤيتنا للعالَم والتعامل معه في نفس الوقت، ولم يعد، حتما، من الممكن الآن تجاهل هذا الوافد الجديد، واعتباره مجرد موضة عابرة، أو تقليعة من تقليعات الحداثة التقنية. إنها إفرازات العصر الجديد، وتحول المفاهيم وأنماط السلوك في عصر الذكاء الاصطناعي، والحواسيب، والحاسبات الآلية، والرقائق الإلكترونية Puces électroniques، وغيرها من التقنيات والنُظم الآلية الدقيقة. أصبحنا اليوم في قلب عصر "السيبرنيطيقا La cybernétique" (العِلْم الذي يدرس ميكانيزمات التواصل لدى الآلات ولدى الكائنات الحية) أو، بالأحرى، في عصر " التأليل الشامل " (التغلغل الكلي للآلة والأنظمة الآلية في جميع مناحي ومجالات حياة الإنسان)، كما أصبح يُصطلح عليه في بعض التعريفات والأبحاث الخاص بهذا المجال، وامتد تأثير هذه التقنيات الرقمية والمعلوماتية إلى جوانب الإنتاج والتواصل الرمزيين للإنسان، بما في ذلك مجالات الكتابة والقراءة والإبداع الأدبي والفكري والفني نفسها بشكل عام، بحيث طرأت الكثير من التغيرات على المنتوج الكتابي والقرائي والإبداعي المعاصر، وعلى سياقات وصيغ إنتاجه بشكل أساس. ولكون العالم العربي في مجمله، وبجميع شرائحه، لم يستوعب بَعْدُ بما يكفي من الشروط التاريخية والموضوعية مجمل الخصوصيات والجوانب التطبيقية والعملية للوسائطية والثقافة الرقمية في محيطه ومجالات حياته اليومية، باعتبار هذه التقنيات، هي تقنيات ومعارف مستوردة من الخارج، وغير متجذرة بشكل واع وصحيح في ثقافته وتربته ومحيطه الحياتي. فغالبا ما يؤدي استعمال هذه التكنولوجيا الرقمية ووسائطها المتعددة، في العالم العربي، إلى نوع من اغتراب المواطن العربي وغُربته داخل حقول ولغات ووسائل هذه التكنولوجيا الوافدة والمستوردة، بالرغم من أن هذا المواطن العربيقد قامبنوع من التكييف لوسائل هذه التكنولوجيا واستعمالاتها،حسب حاجاته ورغبته واستعمالاته الخاصة كذلك، وأوجد لها، أو بالأحرى، ابتكر لها بطريقته وبإبداعيته الخاصة أشكال استعمال ووظائف أخرى، ربما لم تخطر بتاتا على بال مخترعها الأصلي؟ حيث يمكن الإشارة، هنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى بعض طرق الاستعمال الخصاص لتقنيات وإمكانات ولغات التراسل الإلكتروني، والتواصل الرقمي عبر الحواسيب والهواتف المحمولة لدى المواطن العربي، الذي أوْجَدَ في الأجهزة الرقمية التي لا تتوفر على اللغة العربية، بدائل وطرق استعمال أخرى قام بابتكارها،وأصبحتْ منتشرة، فاستعمل مثلا رقم " 3 " مكان حرف " العين "،ورقم " 9 " مكان حرف " القاف، ورقم " 7 " مكان حرف " الحاء " .. وما إلى ذلك من أشكال " تطويع التكنولوجيا " وجعل لغاتها ووظائفها مناسبة لمحيطه لثقافة واستعمالاته الخاصة. من هنا، وجد هذا الكائن العربي نفسه فجأة أمام تقنيات ووسائط رقمية، معقدة الصنع والخصائص وسهلة الاستعمال في نفس الوقت، مما جعله يستعملها في الغالب من باب التعود والممارسة، وليس من باب المعرفة الدقيقة أو حتى الضرورية بأنساقها، وتركيبها، ونسيجها العضوي، ونحن في عالمنا العربي،غالبا ما نقوم بجلب واستيراد أحدث التكنولوجيات الرقمية وغيرها، لكننا لا نستورد المعرفة المصاحبة لها بالأساس، وهذه واحدة من إمكانات العجز والمفاجأة، وأشكال الاغتراب التي بدأت تخلقها هذه التكنولوجيا المتطورة في وعي وإحساس وسلوكات وثقافة وهوية المواطن العربي. هذا دون إغفال الكثير من السلبيات وأشكال الخطر، التي قد يلحقها بالفرد والكائن البشري (سواء في العالم العربي أو غيره) ذلك الاستعمال السيئ أو غير الواعي بهذه الوسائط والتقنيات. أمام هذا العالم "السيبرنيطيقي" المتغير، وداخل مجالات كل هذه الوسائط، وكل هذه "الترسانة" المعقدة من الأجهزة الرقمية والإلكترونية، ذات الوظائف التواصلية السهلة والرفيعة، والمهام الإنجازية العديدة والسريعة، وجد الكاتب والمبدع نفسه، كما الفرد العادي ، على حين غرة وبدون سابق إنذار، في مواجهة حضارية وثقافية مع هذه الأجهزة الإلكترونية، التي أخذت تقلب حياة البشر رأسا على عقب، وتعمل، بالتالي، على تغيير الكثيرمن تصوراته ومفاهيمه ونظرته إلى العالم والحضارة والثقافة على حد سواء. قال "المتنبي" ذات عصر، معتزا أو مفتخرا بنفسه، في واحدة من أجمل وأشهر قصائده في الفخر والمديح معا: الخَيلُ والليلُ والبَيْداءُ تَعْرِفُني/ والسّيفُ والرُّمحُ والقِرطَاسُ والقَلمُ ولا ندري هنا حقيقة، ومن باب المفارقة فقط، أو من باب نوع من القلب المجازي للظروف والسياقات التاريخية، أو حتى من باب تلك " الاستعارات التي بها نحيا "ماذا كان سيقوله الآن أو يكتبه، بالأحرى، شاعر كبير ومتميز من عيار " المتنبي "، وهو يرى أو يعايش بدوره هذه " العجائب " الرقمية والإلكترونية، أو هذا العتاد الرهيب لسيبرنيطيقا العصر الحالي؟ هل كان الشاعر " المتنبي " سيقوم بدوره بنوع من " الإبدال " الخاص لشكل ومضمون القول الشعري، ويقوم كذلك بنوع من " الترحيل " الرمزي لموصوف القصيدة وقاموسها، نحو عصر الصورة وعتادها، أو ربما أيضا نحو أشياء أخرى ( ومنها أدوات الكتابة نفسها ) لم تعد لها نفس الوظيفة أو نفس القيمة التي كانت لها فيعصره ؟ ربما كان الشاعر الكبير سيستبدل في بيته الشعري هذا، وفيما يخص أدوات الكتابة تحديدا : " القرطاس " بشاشة الحاسوب، و"القلم" بلوحة المفاتيحLe clavier، لتكون القصيدة وقاموسها "منتسبين" بالفعل لعصرهما الجديد؟ وحين يعتقد الكثير مِنّا بأننا أصبحنا فعلا، في هذا العصر أو الزمن الرقمي، أكثر قربا من الآخرين في عالم أصبح أيضا "قرية صغيرة"، وأننا نعيش وسط عالم واحد ومشترك، نتقاسم فيه كل شيء، بما في ذلك الكثير من أشكال حياتنا الأكثر حميمية وخصوصية، فالعكس، ربما، هو الصحيح: أصبحنا أكثر عزلة في عوالمنا الافتراضية ومخادعنا الإلكترونية، إلى درجة أن الكثير من مظاهر حياتنا وأزمنتنا اليومية انقلبتْ رأسا على عَقِب. أصبحنا كائنات تعيش أو تُقيم بشكل شبه نهائي في الافتراضي أكثر من الواقعي، وتلك هي مأساتُنا أو غُربتنا اليوم في الزمن الرقمي !