يعني النص -حسب تعريف النص الأدبي الورقي- المساحة الظاهرة التي تتكون من نسيج الكلمات. وقد سبق رولان بارت إلى تعريف النص المتشكل من نسيج لغوي يمثل المتن الأدبي. فالنص ذو طبيعة لغوية، وحدتُه الأساس الكلمة. لكن النص الرقمي لا يندرج ضمن التعريف البارتي السابق. والنص اللغوي الذي ينتجه الأدب الرقمي لا يتعلق بالنص فقط. إنه يتبأر حول العلاقة التي ينظمها القارئ بلغته، علاقة المستعمِل سواء أكان قارئاً أم كاتباً، وقدرة فعل اللغة بفضل البرنامج. فالأدب الرقمي يتمحور حول جهاز، وتأخذ اللغة مكانتها المركزية في المنطوق الواضح غير أن بناء الصورة وغرضها يقومان على الكلمات التي تحدد أجزاء هذه الصورة. لكن النص الرقمي ليس حاملاً للدلالة، إنه يقتسم تدبير المعنى مع عناصر الجهاز؛ لذا يمكن النظر إليه على أنه فن النص وبدقة أكثر فن العلاقة باللغة. فلا يوجد النص الرقمي بوصفه فكرة ذهنية مجردة، بل بوصفه تجسيداً لهذه الفكرة في شكل جديد قوامه الصورة المأخوذة من عالم الحواس. ينتج النثر بواسطة اللغة، ويثير الشعر سؤال مكانة اللغة في إنتاج المعنى. لكن في النص الرقمي عناصر غير لغوية؛ إذ تغدو اللغة عنصراً من جملة عناصر. كما أن النشاط اللغوي في الأدب الرقمي لا يركز على العلاقة بالنص، ويمكن أن يتبأر حول العلاقة التي ينظمها القارئ بلغته؛ لذا وصلنا إلى نتيجة أن الأدب الرقمي يمثل فن العلاقة باللغة، وبهذا المعنى كل أدب رقمي بما فيه الخيالي يمكن أن يعد حالة شعرية خاصة. واللغة هي العنصر الملفوظ الذي يظهر على الشاشة وعبر وسائل الصوت. فيجب أن يتعرف الجهاز إلى اللغة التي وضع النص بها. وبما أن التصور الآلي غير كاف وجب إدراج الإنساني في العمل الأدبي الرقمي، فتغدو اللغة ذات وظيفة مزدوجة: إنها طبيعية ومعلوماتية. فالوسيط المعلوماتي أساسي، والشيفرات المعلوماتية هي التي تصنع النص. وبناء على ذلك نستطيع القول ليس وجود النص في الآلة هو الذي يثير إشكال اللغة بل غيابه سابقاً، وغيابه يعني أن التحول الإنساني المستمر بواسطة اللغة قد تم إقصاؤه من الإعلاميات، وتم ترك مجال جوهري للفكر التكنولوجي الذي يجسده البرنامج. اللغة صورة العصر وحركيته إضافة إلى لغة متوارثة. فثمة جدل –على سبيل المثال- أثارته القصيدة الرقمية للشاعر د. مشتاق عباس "تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق" سبب هذا الجدل صدمة الوسيلة الجديدة غير المألوفة في قراءة النص الشعري."1" ويمثل الأدب الرقمي مرحلة ما بعد العولمة، مرحلة ثورة الاتصالات التي بلغت أوجها في شبكة الانترنت. فمن إفرازات العولمة النقد الثقافي، والنص الرقمي، والعالم الافتراضي. وهي مجالات مستحدثة تفرض واقعها، وذاتها على مثقفي عصرها؛ لإيجاد أنجع الأسئلة اللازمة لحل مشكلاتها المعقدة. فكل فعل إنساني صادر عن معرفة ما. وقد رافقت العولمةَ ثورةٌ معلوماتية هائلة، وتقدم تكنولوجي مذهل في مجالات الحياة. والأدب الرقمي موجود، ويتطور ولا بد له من وسائل نقدية خاصة به. ولا يغادر الأدب الرقمي الحاسوب إنتاجاً، وقراءة، ونشراً. والحاسوب ليس مجرد وسيط للنشر. إنه يتجاوز ذلك إلى إلحاق تعديلات جوهرية على النص، فيتحول إلى غير ما سيكون عليه لو صدر عبر الوسيط الورقي. والسؤال البدهي هل سيحل الأدب الرقمي محل الأدب الورقي؟ أو أننا على عتبة مرحلة سيختفي فيها الأدب نفسه؟ فالرقمية تجلّ لقطيعة مع الأدب السابق، وهي آخر مرحلة من مراحل تطور الأدب التي يمكن أن نمثلها بالشكل التالي: أدب شفهي← أدب ورقي← أدب رقمي يحتاج الأدب الرقمي إلى معرفة تقنية تهم الباث والمتلقي على حد سواء، وهو أمر يمكن أن نطلق عليه مصطلح الهندسة الثقافية؛ لذا يجب دعوة المؤسسات الثقافية إلى إيلاء الثقافة الرقمية الشأن الذي تستحقه، ودعوة وسائل الإعلام إلى تكثيف العناية بالثقافة الرقمية، ودعوة الجامعات إلى إدراجه في مناهجها الدراسية. والأدب الرقمي تجل أدبي غير مألوف للمتلقي؛ لذا يمثل التعامل معه في غياب شروط معرفية نقدية واعية إخلالاً بمنطق تلقيه، ورفضاً له. ولا بد أن تدخل الجامعات العربية مجال هذا الأدب؛ لتكون أرضية خصبة للتحفيز أكثر على التفاعل مع هذه التجربة. وإذا كانت اللغة المعجمية هي الأساس في تجربة النص الأدبي فإن موقعها يتغير في النص الرقمي، وتصبح اللغة المعلوماتية ذات وجود جوهري. فهي إنجاز النص الرقمي. تتغير الوسائط فيتغير البناء، ويؤسس لشكل أدبي مغاير تبعاً لطبيعة اللغة الجديدة التي تأتي بلغة المعلوماتية، وتنجز مساحة مفتوحة للنص يتحرر معها القارئ من التعاقد المألوف في الكتاب الورقي من جهة بداية الكتاب ونهايته. فتتلاشى الحكاية، ويصبح للقارئ الوظيفة الأهم في إعادة بناء الحكاية من جديد؛ لذا يمكن القول إن الأدب الرقمي حالة تطورية للأدب في صيغته التكنولوجية، واستجابة لأسئلة الإنسان في هذا الزمن. فرواية" شات" –على سبيل المثال- لمحمد سناجلة رواية رقمية عربية تُظهر تحولات النص الروائي في بعده الرقمي"2" والأدب الرقمي ليس بديلاً من الأدب الورقي. فهو أدب أفرزه العصر، وله خصوصيته. فالكتابة الرقمية استجابة لدخول البشرية في مرحلة العصر الرقمي. الصورة إذن هي الأصل في الكتابة الرقمية لا الكلمة. لكن التجريد هو الأصل لا الصورة، والفكرة تسبق الصورة. والتمثيل يستدعي اختفاء الشيء لكي يتم تمثله وتصوره؛ لذا يعد التمثيل أغنى من الشيء في حد ذاته. وللكلمة قدرة كبيرة على الاختزال، تفتح أمام المتلقي قدرة على الخيال. بينما الأدب الرقمي يستعمل مؤثرات تحد من هذه القدرة، وتوجد قارئاً سلبياً، فهو مجبر على استعمال البرامج التي استعملها الكاتب الرقمي. تدمر الصورة الرقمية العلاقة بين الواقع والخيال، وهنا نجد أننا أمام تساؤل مهم: هل العولمة قيمة مضافة للأدب، أو تهديد للكتابة. لدينا ثلاث كلمات مفتاحية "الانترنت، العولمة، المثقف العربي" تؤدي إلى الكلام على أسئلة الأدب الرقمي. فإلى أي حد استطاع المثقف العربي أن يستفيد من الثورة التكنولوجية التي شهدها العالم؟ وإلى أي مدى كان الانترنت البديل الجيد من الكتاب الورقي؟ ماذا ألغت الرقمية؟ وبأي فتح جاءت العولمة؟ استطاعت وسائل الاتصال الحديثة أن تقتحم تفاصيل حياتنا اليومية، ويجب أن ننخرط في الثورة العلمية الحديثة بهدف الانتقال من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج، وعقلنة هذا الاستهلاك بما يخدم هوية ثقافتنا المحلية والوطنية والقومية بشكل يمكّننا من إقامة جسور تواصل بين الثقافات الكونية، يضمن حق التنوع الثقافي، ويعترف بأحقية الوجود. اللغة في الرواية الورقية عاجزة عن الاستجابة لحاجات نظيرتها الجديدة التي تتحدد بعدة بسمات متعددة منها: تجاوز اللغة المكتوبة إلى مكونات أخرى: صورة، صوت، مشهد سينمائي، حركة.. ويجب أن تكون هذه اللغة سريعة، فلا تتجاوز المفردة فيها أربعة أحرف، أو خمسة أحرف، وعدد صفحات الرواية لا يتجاوز مئة صفحة، والجمل من ثلاث إلى أربع كلمات على الأكثر. وعلى الروائي تجاوز مجرد معرفة الكتابة إلى الإلمام بهذا القدر أو ذاك من مجموعة من البرامج والحاسوب."3" يغيب إذن مفهوم أدبية اللغة لأن الأدب فن تعبيري أداته الكلمة. لكن الأدب الرقمي لم يعد أدباً فقط بل أصبح فن صناعة النص، وفن لغته.