رحل عنا المفكر الكبير، والمناضل الاتحادي الأصيل، محمد سبيلا . وبرحيله، يفقد النضال الديموقراطي الذي أعطاه الفقيد أزهى أيام عمره والفكر الحداثي الذي اهداه عصارة عقله وتفكيره فارسا شهما دافع باستماتة عن أفق إنساني رحب وقيم كونية في خدمة المغرب الحر ، منذ فجر الاستقلال، كما يفقد المغرب والعالم العربي أحد المفكرين الكبار ورائد من رواد الحداثة بالمغرب. انشغل الراحل، على نحو شامل، بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و»عقلنة» الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. كما كان يرى أن الانتقال الفكري والثقافي هو انتقال بطيء وعسير، أو بعبارة أخرى أن الزمن التاريخي وزمن التحول الاجتماعي يختلف عن الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن بطيء، والانتقال إلى الديمقراطية -الذي يعد رهان العالم العربي- دون الانتقال إلى ثقافة الحداثة، لأن هناك اقتباسا فقط لجزء من الحداثة، هو الحداثة السياسية. وقد كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة «أقلام» و«آفاق الوحدة» و«الفكر العربي المعاصر» و«المستقبل العربي». كما ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة «مخاضات الحداثة» و«في الشرط الفلسفي المعاصر» و«حوارات في الثقافة و السياسة» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«الأصولية والحداثة»، وترجم كتاب «الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» للويس ألتوسير، فضلا عن «التقنية – الحقيقة – الوجود» لمارتن هايدغر، و«التحليل النفسي» لبول لوران أسون، و«التحليل النفسي» لكاترين كليمان. في ما يلي، نعيد نشر مجموعة من المقالات والحوارات التي أنجزها الراحل، ونشرها في مجموعة من المنصات المغربية والعربية، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عنه وعن فكره..
10 يشكو العديد من الدارسين من غموض معنى الحداثة، ومن تعدد وعدم تحدد مدلولاتها. وإذا كان هذا الغموض والالتباس يرجع في جزء منه إما إلى غموض ذهني، أو إلى غياب العناء الفكري اللازم أحيانا، أو إلى سوء نية مسبق ضد الحداثة، فإن أحد أسباب هذا الغموض هو كون هذا المفهوم حضاريا شموليا يطال كافة مستويات الوجود الإنساني حيث يشمل الحداثة التقنية والحداثة الاقتصادية، وأخرى سياسية، وإدارية واجتماعية، وثقافية، وفلسفية الخ... مفهوم الحداثة هذا أقرب ما يكون إلى مفهوم مجرد أو مثال فكري يلم شتات كل هذه المستويات، ويحدد القاسم المشترك الأكبر بينها جميعا. وبمجرد انتهاج طريق هذا النموذج الفكري المثالي، فإن الدارس يشعر مباشرة بوجود قدر من التعارض بين الحداثة والتحديث. فالمفهوم الأول، يتخذ طابع بنية فكرية جامعة للقسمات المشتركة بين المستويات المذكورة، منظورا إليها من خلال منظور أقرب ما يكون إلى المنظور البنيوي، بينما يكتسي مفهوم التحديث مدلولا جدليا وتاريخيا منذ البداية من حيث إنه لا يشير إلى القسمات المشتركة بقدر ما يشير إلى الدينامية التي تقتحم هذه المستويات، وإلى طابعها التحولي. وعندما يختار المرء الدخول إلى هذا الموضوع من الزاوية الأولى، زاوية الحداثة، فإنه يجد نفسه محكوما بضرورة الاهتمام بالثوابت والقواسم والسمات المشتركة، مهملا الخصوصيات ومظاهر التباين، كما يجد نفسه مدفوعا إلى عدم التركيز على الوقائع والأحداث والتواريخ والفواصل، موليا الاهتمام الأكبر للمنحنيات العامة في كل مستوى. في هذه المحاولة سأحاول، قدر الإمكان، التركيز على التحولات الفكرية العامة للحداثة على كافة هذه المستويات، محاولا الجمع بين المنظور البنيوي الذي يحاول تتبع السمات الأساسية للحداثة، والمنظور التاريخي الذي يحاول متابعة التحولات التدريجية والانفصالية أحيانا، التي تطال هذه السمات نفسها. كما سأحاول أيضا، من خلال تتبع التحولات الفكرية الكبرى المصاحبة للحداثة، التمييز قدر الإمكان بين مستويين في هذه التحولات الفكرية : المستوى الإبستيمولوجي والمستوى الفلسفي، وذلك على الرغم من تداخل هذين المستويين وتشابكهما إلى حدود كبيرة. 1 في المعرفة تتميز الحداثة بتطوير طرق وأساليب جديدة في المعرفة قوامها الانتقال التدريجي من "المعرفة" التأملية إلى المعرفة التقنية. فالمعرفة التقليدية تتسم بكونها معرفة كيفية، ذاتية وانطباعية وقيمية فهي أقرب أشكال المعرفة إلى النمط الشعري الأسطوري القائم على تملي جماليات الأشياء وتقابلاتها ومظاهر التناسق الأزلي القائم فيها. أما المعرفة التقنية فهي نمط من المعرفة قائم على إعمال العقل بمعناه الحسابي، أي معرفة عمادها الملاحظة والتجريب والصياغة الرياضية والتكميم. النموذج الأمثل لهذه المعرفة هو العلم أو المعرفة العلمية التي أصبحت نموذج كل معرفة. هذا النمط من المعرفة تقني في أساسه، من حيث إن المعرفة العلمية استجابة للتقنية وخضوع لمتطلباتها. فالتقنية كما أوضح هيدجر ذلك ليست مجرد تطبيق للعلم عبر إرادة الإنسان، بل هي ما يحدد للعلم نمط معرفته المطلوب. فالعلم الحديث علم تقني في جوهره أي خاضع لما تقتضيه التقنية بالدرجة الأولى، أي التكميم منهجا وطريقة والتحكم والسيطرة غاية. ضمن هذا المنظور للمعرفة تكتسب مسألة المنهج أهمية قصوى. فالمنهج، من حيث هو تنظيم وتحقيب لعملية المعرفة، وطريقة في التناول تؤدي إلى تحقيق التقدم في المعرفة، وتقود إلى اكتساب القدرة على تملك الأشياء، يقود بالضرورة إلى إضفاء طابع تقني على المعرفة العلمية1. إن المعرفة الحداثية معرفة علمية بمعنى أنها معرفة تقنية، أي في خدمة التقنية، وبالتالي فهي معرفة حسابية وكمية وأداتية همها النجاعة والفعالية وغايتها السيطرة، الداخلية والخارجية، على الإنسان وعلى الطبيعة، أو بعبارة أدق إنها سيطرة على الطبيعة عبر السيطرة على الإنسان. وارتباط المعرفة بالسيطرة والقوة لا يطال الطبيعة والعلوم الطبيعية وحدها، بل يطال الإنسان والعلوم الإنسانية ذاتها حين يختلط هم المعرفة والتحرر بهمِّ السيطرة والتحكم. عقل الحداثة عقل أداتي والمعرفة الحداثية معرفة تقنية بمعنى أنها إضفاء للطابع التقني على العلم، لكنها بنفس الوقت ومن حيث هي إضفاء للطابع العلمي على العلوم الإنسانية والاجتماعية على وجه الخصوص، فهي إضفاء للطابع التقني على الثقافة ككل. في هذا السياق تصبح أشكال المعرفة غير المنطبعة بالطابع العلمي، أي بالطابع التقني، أشكالا دنيا من المعرفة، ومن ثمة الهجومات المختلفة، ذات النفس الوضعي، التقني، على الفلسفة مثلا، باعتبارها معرفة متجاوزة. فالمعرفة الحقة هي المعرفة العملية الاختبارية لا النظرية التأملية إذ أن الممارسة تحوز الأولوية القيمية والإبستمولوجية على النظرية2.وهذه المعرفة العلمية التقنية لا تكتفي بالحط من قيمة الأنماط المعرفية الأخرى، بل تطال الفضاء الثقافي كله، وتتحول إلى ثقافة وإيديولوجيا بل إلى ميتافيزيقا أيضا. يصبح العلم التقني ثقافة تحل محل الثقافة التقليدية وتكيفها بالتدريج، مؤطرة المجتمع العصري، مزودة إياه بمشاعر الهوية والانتماء وبمعرفة وأخلاق. كما يتخذ العلم التقني مصدرا للشرعية السياسية أي نواة لإيديولوجيا سياسية. ولعل الديموقراطية، كتكنولوجيا سياسية، هي في أحد أوجهها تعبير عن هذا النوع الجديد، الدنيوي، من المشروعية القائمة على العلم كتقنية. بل إن هذا المركب المعرفي الجديد ينتزع بالتدريج صورة ميتافيزيقا أي تبشيرا بالأمل, ووعدا بالخلاص، ومصدرا واهبا للمعنى. 2 في الطبيعة الحدث الفكري الأساسي في تاريخ الفكر الغربي الحديث، هو نشوء ما اصطلح على تسميته بالعصر العلمي التقني ابتداء من القرن السابع عشر الميلادي. ويشكل منشأ هذا العصر الجديد تحولا أساسيا في النظر إلى الطبيعة. وقد كانت هذه الأخيرة في العصور الوسطى نظاما متكاملا يتسم بنوع من التناسق الأزلي الذي يعكس الحكمة العلوية المبثوثة في كافة أرجاء الكون والمحققة لمظاهر كمالاته الروحية. هذا التحول المفصلي في تاريخ علم الطبيعة تمثل في الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس مفتتحا الانتقال الحديث من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي. لكن النقطة الجوهرية في هذا التحول هي النظر إلى الطبيعة كامتداد كمي هندسي وحسابي، وهو التحول الذي حدث مع غاليلو. لقد أصبحت الطبيعة امتدادا Rex extensa متجانس العناصر لا فرق ولا تميز بين مكوناتها ولا تخضع لتراتب انطولوجي كما كان الأمر في الفكر القديم والفكر الوسطوي. فالمكان عبارة عن وحدات أو نقط متجانسة، والزمان بدوره آنات متجانسة، مما مهد لقبول التصور الرياضي الميكانيكي للطبيعة، وهو التصور الذي يفرغ الطبيعة من أسرارها لينظر إليها ككم هندسي ممتد قابل للحساب وخاضع لقوانين الرياضة. فنزع الطابع الإحيائي السحري عن الطبيعة هو الوجه الآخر في النظر إليها من خلال مفاهيم رياضية تعتبر الطبيعة كما قال غاليلو كتابا مفتوحا بلغة المثلثات والمربعات والأشكال الهندسية. والعلاقة القائمة بين عناصر الطبيعة هي علاقات ميكانيكية وديناميكية خاضعة لقانون العلية. ويشكل هذا القانون نقلة نوعية في فهم العلاقة بين الظواهر لأنه ينتقل بها من مستوى التفاعلات العضوية المحملة بالأسرار والألغاز إلى تفاعلات القوى والكميات القابلة للرصد والحساب، أي من التصور العضوي والغائي إلى التصور الميكانيكي والديناميكي العلّي. والطريف في الأمر هو أن ليبنتس الذي صاغ وطور مبدأ العلة (مبدأ العقل Principe de raison)، قد طور في نفس الوقت تصورا ديناميا غائيا للمادة والكون حين اعتبر أن طبيعة الأجسام ليست هي الامتداد بل القوة أي النزوع والقدرة على الفعل ورد الفعل، كما ساهم في إرساء التصور الرياضي للطبيعة عندما اعتبر أن الله، وهو يمارس الحساب، يخلق أفضل العوالم الممكنة. وهكذا حول العلم الحديث الطبيعة إلى معادلات رياضية وأشكال هندسية أي إلى هياكل عظيمة فارغة كما يقول برتراند راسل3،أو إلى مجرد مخزن للطاقة منذور لأن يتحول إلى موضوعات قابلة للاستهلاك، كما يقول هيدجر4. وقد أبدى العلم الحديث منذ البداية تواضعا معرفيا جما إذ رسم لنفسه حدودا في فهمه للطبيعة. فهو لم يدع أبدا أنه يسعى إلى فهم الجواهر والأشياء في ذاتها، بل قصر مسعاه منذ البداية على محاولة فهم الظواهر مركزا على ما هو قابل منها للرصد وللتعبير الكمي. ومن ثمة طغت روح النسبية على أحكامه ونظرياته، بل إن البحث العلمي اتسم في الأغلب الأعم بنزعة مواضعاتية (conventionnaliste) واضحة. فالخطوات والاحتياطات المنهجية التي يلجأ إليها العالم هي نوع من الاختيار القبلي للموضوع، اختيار للمجال الذي يجب أن يظهر فيه الموجود، ولزاوية النظر إليه. فالموجود هنا –بلغة هيدجر- لا يظهر من تلقاء ذاته بل يرغم على الظهور وفق الخطاطات والتصميمات المسبقة وشبكات التأويل التي تخضعه لها وتدرجه في سياقها5. 3 في الزمن والتاريخ إذا كان المسار الطويل الذي تدرجت فيه الحداثة في تصورها للطبيعة هو تبين أن كينونة الطبيعة تتمثل في الدينامية والآلية بدل الغائية، فقد وازى هذا التطور، فيما يخص تصور الزمن والتاريخ، تحول فكري قاد إلى إظهار أن كينونة التاريخ تتمثل في الصيرورة، أو بعبارة أخرى فإن تحول الكينونة إلى فعل وصيرورة ابتدأ في الطبيعة ثم سرى إلى التاريخ. فقد أصبح التاريخ سيرورة Processus وصيرورة Devenir أي مسارا حتميا تحكمه وتحدده وتفسره عوامل ملموسة كالمناخ والحاجات الاقتصادية للناس، أو حروبهم وصراعاتهم من أجل الكسب، وكالصراع العرقي، أو القبلي، أو المذهبي أو غيره. وبعبارة أخرى فإن غائية التاريخ بدأت تختفي وتتضاءللصالح الميكانيزمات الداخلية والحتميات المختلفة التي تتدخل في تحديده تحديدا لا تعرف وجهته إلا من خلال مقارنة العوامل الفاعلة فيه. وبعبارة ليوستروس فقد أصبح التاريخ توسطا بين الواقع6والمثال، عبر حركة تطورية مستقيمة الاتجاه. فمثلما نزع العلم عن الطبيعة طابعها السحري والإحيائي، فقد نزعت المعرفة والممارسة الطابع الأسطوري عن التاريخ بنفي طابعه الغائي والنظر إليه باعتباره مجرد حركة تطورية مستقيمة تتحكم فيها عوامل داخلية قد تكون هي المحددات الاقتصادية (ماركس) أو التقنية أو السيكولوجية (فرويد) أو غيرها. وقد قاد ربط تطور التاريخ بعوامل تاريخية محددة وملموسة إلى تطور نزعة تاريخانية ترجع كل شيء للتاريخ وتشرطه به لدرجة أنه تم وسم الحداثة بكونها عبادة للتاريخ 7(Idolatrie de l'histoire)الذي أصبح هو المصدر أو المنتج الأساسي للمعنى. وقد واكب التحول في مفهوم التاريخ تحول آخر طال مفهوم الزمن. فقد تمثلت الحداثة للوعي الفلسفي في القرن الثامن عشر مع هيجل كفترة جديدة جدة راديكالية بالقياس إلى ما سبقها من عصور، وخاصة ابتداء من القرن الخامس عشر والأحداث الثلاث الكبرى التي راوحت حواليه : اكتشاف العالم الجديد، النهضة الأوربية والإصلاح الديني. وقد كان هيجل هو أول من طرح قطيعة الحداثة مع الإلهامات المعيارية للماضي، التي هي غريبة عنها، طرحا فلسفيا8. يتميز زمن الحداثة بأنه زمن كثيف، ضاغط، ومتسارع الأحداث، فهو يعاش كمادة فريدة 9 (denrée rare) تتمركز حول حاضر مشرئب إلى الآتي. فالحاضر هو اللحظة التي يتم فيها انتظار الانتقال المتسارع لمستقبل مختلف كلي. وهذا الحاضر، الذي تمثله في نظر هيجل الأنوار والثورة الفرنسية، يمثل "البزوغ الرائع للشمس" الذي يقطع مع العالم القديم وينشئ عاملا جديدا كليا. يبدو إذن أن زمن الحداثة زمن متجه نحو المستقبل الذي يكتسب بالتدريج دلالات يوتوبية عبر تجربة تتنامى فيها بالتدريج المسافة بين الحاضر والمنتظر ، وتطغى على قاموسها مصطلحات التطور، والتقدم والتحرر والأزمة10. عصر الحداثة هو العصر الذي يختل فيه التوازن بين الماضي والمستقبل، فهو العصر الذي يحيا بدلالة المستقبل، وينفتح على الجديد الآتي، وبالتالي لم يعد يستمد قيمته ومعياريته من عصور ماضية، بل يستمد معياريته من ذاته11،وذلك عبر تحقيق قطيعة جذرية مع التراث والتقليد. إذا كان الزمن التقليدي متمحورا على الماضي فإنه حتى عندما يشرئب إلى المستقبل، فهو ينظر إليه باعتباره استعادة إسقاطية للماضي في المستقبل، إذ أن الزمن في المنظور التقليدي يتميز بالحضور الكثيف للماضي وبقدرته على تكييف كل الآنات الأخرى. أما زمن الحداثة فيتسم بالفاصل المتزايد بين "فضاء التجربة" و"أفق الانتظار"، وهو الفاصل الذي لا يني يتزايد باستمرار لدرجة تجعل البعد اليوتوبي مطالبا للمفهوم الحداثي للزمن. لكن الانتظارات والآمال التي يحملها زمن الحداثة تحمل بشائر المستقبل المنتظر حدوثه داخل خط الزمان نفسه عبر نقلات كمية أو نوعية لا تقع خارج أفقه، وبذلك يمارس الوعي التاريخي الحداثي استدماجا مستمرا للانتظارات الكبرى البعيدة المدى، إما عبر التقنية أو من خلال الإيديولوجيات المحملة بالطوبي. ومن ثمة مجاسدة مفهوم التقدم للمفهوم الحداثي للزمن مجاسدة كمية وكيفية في نفس الآن. مما يكسب مفهومي التاريخ والزمن من جديد بعدا غائيا وإن كان تاريخانيا هذه المرة. يمكن أن نطلق على التصور الجديد للتاريخ والزمن اسم النزعة التاريخانية وهي النزعة التي بدأت تطال بموازاة تبلور وتغلغل روح الحداثة كافة مجالات الحياة الإنسانية، وعلى رأسها المجال السياسي الذي تنطلق داخله دينامية تمايز واستقلال تدريجي عن المجال الديني، وتتبلور فيه شرعية جديدة قوامها استمداد السلطة لشرعيتها من الشعب، وتتطور فيه آليات جديدة للحكم قائمة على فكرة التعاقد، والانتخاب، والمراقبة، وفصل السلط، والمشاركة الواسعة في إدارة الشأن السياسي. 4 في الإنسان تميز فكر الحداثة، وثقافة الحداثة بإيلاء الإنسان قيمة مركزية نظرية وعملية. ففي مجال المعرفة أصبحت ذاتية العقل الإنساني هي المؤسسة لموضوعية الموضوعات12. وتم إرجاع كل معرفة إلى الذات المفكرة أو الشيء المفكر Res Cogitaus أو الكوجيتو13. المفارقة الكبرى في تصور فكر الحداثة للإنسان هي أنه عندما يجعل الإنسان مركزا مرجعيا للنظر والعمل، وينسب إليه العقل الشفاف، والإرادة الحرة، والفاعلية في المعرفة وفي التاريخ، فهو بنفس الوقت يكشف بجلاء عن مكوناته التحتية، ومحدداته العضوية الغريزية والسيكولوجية ودوافعه الأولية (الجنس، العدوان، البحث عن الربح، التغذية...)14. وهكذا تلتقي النظرة الحداثية للإنسان، من حيث هي إضفاء صبغة طبيعة على الإنسان، بإضفاء صبغة تاريخية على الطبيعة، وإضفاء صبغة طبيعية على التاريخ. والفلسفة ومعظم العلوم الطبيعية والاجتماعية تنخرط في هذه الحركة ابتداء من الفيزياء الفلكية إلى الأنتروبولوجيا الإحيائية إلى الماركسية إلى التحليل النفسي إلى العلوم السلوكية المعاصرة. غير أن هذا التصور العقلاني للإنسان الذي بلوره فكر الحداثة الأوربية سرعان ما تعرض للمراجعة والنقد. فمقابل هذا التصور العقلاني للإنسان كذات مركزية، عاقلة وعارفة، مريدة وفاعلة، بدأ يتبلور خط فكري معاكس قوامه أن الإنسان ذات مشروخة ومشروطة، غير عارفة بذاتها، وخاضعة لحتمية البنيات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية واللسانية والرمزية التي تحددها معا، ذات يداهمها اللاعقل والوهم والمتخيل من كل جانب. لقد أدت الثورات المعرفية الكبرى التي حصلت منذ نهاية القرن الماضي في الفكر الغربي (الثورة اللغوية، الثورة الإبستمولوجية، الثورة البنيوية، الثورة التاريخية) إلى فصل المعنى عن الوعي، والمعرفة عن اليقين، والمعنى عن التمثل، مبينة أن المعاني لا تصدر عن ذات سيكولوجية أو ترسندنتالية، وإنما تتولد في اللغة ومنظومات القرابة ومختلف المنظومات الرمزية، وأن الذات ليست فاعلا بقدر ما هي حصيلة مفاعيل15.وقد أطلق ريكور على هذا التوجه اسم فلسفة الوجس16. غير أن هذه المراجعات لم تمس جوهر التصور الحداثي للإنسان بل سعت فقط إلى تلطيف وتنسيب عقلانيته ووعيه بذاته وحريته وفاعليته. الحداثة والفاعل يمكن أن نميز، فيما يخص فواعل الحداثة بين الفواعل السوسيولوجية، والفواعل الفكرية. الصنف التفسيري الأول نجده لدى ماكس فيبر وكارل ماركس، والصنف الثاني نجد نموذجه لدى بعض الفلاسفة كهيجل وهيدجر. التفسير السوسيولوجي يرجع نشأة الحداثة إلى الدور الفاعل للمنشأة الرأسمالية والإدارة البيروقراطية كمؤسستين عقلانيتين، عقلنت أولاهما العملية الاقتصادية، وعقلنت الثانية نظام تسيير المجتمع. يرى ماكس فيبر أن هناك علاقة داخلية حميمية بين العقلانية والحداثة. وإذا كانت العقلنة اتخذت طابعا مؤسسيا منظما في الاقتصاد والإدارة، فإنها مع ذلك عملية شاملة اكتسحت المجتمع الغربي كله. وقد أدت عملية نزع الطابع السحري عن العالم إلى تفكيك التصورات التقليدية وتولد ثقافة دهرية من طلب المسيحية نفسها. وفي سياق هذه العملية تطورت العلوم التجريبية، واستقلت الفنون، وتشكلت دوائر الثقافة خاضعة لمعايير داخلية خاصة مرتبطة بالممارسة17. وبعبارة أخرى، وأخذا بتأويلات هابرماس لنظرية الحداثة عند فيبر، فإن العقلنة لم تقتصر على إضفاء طابع دنيوي على الثقافة، بل دفعت أساسا إلى تطور المجتمعات الحديثة. لقد تمايزت البنيات الاجتماعية الجديدة، وتباينت المجالات الثقافية متمحورة حول مركزين ناظمين ومنظمين لنمط الحياة الجديدة وهما النشأة الرأسمالية والجهاز البيروقراطي للدولة، اللذين هما مركزان متنافذان من الناحية الوظيفية. وقد اكتسحت الأنشطة العقلانية بالقياس إلى غاياتها في مجالي الاقتصاد والإدارة الحياة اليومية، وأشكال الحياة التقليدية، تلك التي كانت متمحورة حول التنظيمات الحرفية، وفككتها بالتدريج كبنيات وكثقافة18.ومن ثمة الأهمية القصوى والحاسمة لكل من الاقتصاد والسياسة في المجتمع الحديث. يربط ماركس نشأة الحداثة بالرأسمالية كنظام اقتصادي، وبالبورجوازية كقوة بشرية تحديثية. ففي "البيان الشيوعي" يكيل ماركس أعظم المدائح للبورجوازية من حيث أنها "عندما استولت على السلطة وضعت حدا للعلاقات الإقطاعية والبطركية والعاطفية"، وأدخلت تغيرات ثورية على أدوات وعلاقات الإنتاج، "فهذه الانقلابات الثورية المستمرة في أساليب الإنتاج، وهذا التزعزع غير المنقطع في النظام الاجتماعي بأسره، وهذا القلق والاضطراب الدائبان، كل ذلك يميز عصر البورجوازية عن العصور السالفة كلها". إن سائر العلاقات الاجتماعية المتوارثة، الجامدة المتجلدة، وما تجره وراءها من مواكب الأوهام والأفكار القديمة المبجلة تكنس وتندثر، أما التي تحل محلها فتشيخ ويتقادم عهدها قبل أن يصلب عودها. فكل ما هو صلب يتبخر، وكل ما هو مقدس، يدنس". بل إن "البورجوازية تجتاح الكرة الأرضية بأسرها، تحثها الحاجة إلى الأسواق الجديدة دائما". لقد أخضعت البورجوازية الريف للمدينة، وخلقت مدنا عظيمة، وزادت بصورة مفرطة سكان المدن على حساب سكان الأرياف وبذلك انتزعت قسما كبيرا من السكان من بلاهة حياة الحقول. وقد خلقت البورجوازية قوى منتجة أكثر عددا وأعظم جبروتا كما خلقت سائر الأجيال مجتمعة. فقد قامت بإخضاع قوى الطبيعة والآلات وتطبيق الكيمياء على الصناعة والزراعة والملاحة بالبخار، والسكك الحديدية، والبرق الكهربائي وعمران قارات كاملة، وحفر القنوات للأنهار. وفي عهدها اتحدت مقاطعات بكاملها بمصالحها وقوانينها وحكوماتها وتعريفاتها الجمركية المختلفة واجتمعت في أمة واحدة وفي مصلحة وطنية وطبقية واحدة وراء حبل جمركي واحد19. وعلى وجه العموم فإن المادية التاريخية ترجع التحولات الاجتماعية إلى التناقض بين علاقات الإنتاج القائمة وقوى الإنتاج الجديدة، إلا أن ماركس في هذا النص من "البيان" يسند إلى البورجوازية، بروحها الثورية الإدارية المغامرة، كل التحولات الكبرى التي شهدتها أوربا بالانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، مما يجعل موقف ماركس في هذه المسألة مراوحا بين إيلاء الأولوية في التغيير للعنصر الإرادي البشري أحيانا وللعوامل البنيوية التقنية والاقتصادية أحيانا أخرى. هناك نموذج آخر للتفسير مختلف كليا نجده لدى كبار الفلاسفة الذين يرجعون التحولات الكبرى في تاريخ المجتمعات، وفي التاريخ البشري عامة إلى تحولات فكرية وفلسفية, فهيدجر يرى أن المصادر التاريخية لثقافة ما أو لمجتمع ما يحدده مسبقا فهم كل ما يمكن أن يحصل في العالم20،وهو الفهم الذي يلزم ويوجه كل مجموعة بشرية إلزاما وتوجيها ضمنيا أشبه ما يكون بحتيمية قدرية مضمرة. وهذا الفهم المسبق تتضمنه الميتافيزيقا. فهي التي "تؤسس عصرا وتمنحه من خلال تأويل محدد للموجود، ومفهوم معين عن الحقيقة مبدأ تشكله الأساسي"21.وهذا قانون فلسفي يشمل كل العصور " فكيفما كانت الطريقة التي يتم بها تأويل الموجود، سواء كروح بالمعنى الوارد لدى النزعة الروحية، أو كمادة وقوة بالمعنى الوارد لدى الاتجاه المادي، أو كصيرورة وحياة، أو كتمثل، أو كإرادة، أو كقوام جوهري (Substance)، أو كذات فاعلة، أو كطاقة، أو كعود أبدى لذات الشيء، فإن الموجود يظهر كموجود على ضوء الوجود"22.وهذه الفكرة نجدها متداولة في الفلسفة الألمانية منذ هيجل الذي كان قد اعتبر تاريخ الفلسفة مفتاحا لفلسفة التاريخ كما أن تاريخ الغرب الحديث حسب هيدجر يجسد أساسه في تاريخ الميتافيزيقا الغربية، التي تشكل "التاريخ المخفي للغرب"23. وحتى إذا كان من العسير، من خلال المنظور الهيدجري، أن نرجع نشأة الحداثة إلى "فاعل"، لأن الأمر عنده يتعلق بتحولات قدرية في معنى الموجود وتصور الحقيقة، أكثر مما يتعلق بفعل فاعل، فإن ممن الممكن، من باب المجاز، اعتبار ديكارت (وكذا ليبنتس) هو بطل الحداثة ورائدها. على الرغم من أن هيدجر يتتبع جذور نشأة العقلانية الحديثة إلى التحول الذي حدث مع أفلاطون، والذي تجسد في الانتقال من الفيزيس إلى الايدوس. ففلسفة ديكارت تجسد هذا التحول الكبير الذي دشن مطلع العصور الحديثة وجعل الذات "مركزا ومرجعا للموجود بما هو كذلك. وذلك لم يكن ممكنا إلا بشروط تحول معنى الوجود كليا (...) إذ أصبح ينظر إلى الموجود في كليته على أنه لا يوجد حقا، ولا يكون موجودا إلا إذا كان محط تمثل وإنتاج (...). وأصبح يُبحث عن وجود الموجود ويعبر عنه في الوجود المتمثل للموجود"24. يربط هيدجر إذن نشأة الحداثة بالحدث الفلسفي المتمثل في جعل الذات مركزا ومرجعا. لكن مضمون هذه الذات المرجعية هو العقل والإرادة، وهو كونها عقلا حاسبا وحسابيا بالمعنى اللاتيني لكلمة Ratio. هذا العقل الحسابي الأداتي حسب تسمية رواد مدرسة فرنكفورت، يجد تعبيره في العلم كمنظور حسابي وكمي للأشياء المدركة والقابلة للاستعمال25،وفي التقنية كتحريض للطبيعة وإرغام لها على أن تسلم طاقتها وتكشف أسرارها. يبدو من خلال استعراض المواقف المختلفة من مسألة فواعل الحداثة أنه حتى وإن اختلفت الفئات ومن ثمة المؤسسات التي يكل إليها المفكرون دورا مولّدا أو محركا للحداثة (الرأسماليون، الإداريون، المثقفون، الساسة، العسكر...إلخ) فإنه يكاد يكون هناك نوع من الإجماع على تبلور ثقافة عقلانية شكلت الأرضية الفكرية والإيديولوجية الحافزة على انطلاق مخاض الحداثة. السمات الفلسفية يربط العديد من الدارسين نشأة الحداثة بمبدأ الذاتية. وهذا المفهوم متعدد الدلالات فهو يشكل مضمون ما سمي بالنزعة الإنسانية. ومن ثمة فهو يعني مركزية مرجعية الذات الإنسانية وفاعليتها وحريتها وشفافيتها وعقلانيتها. كان هذا المفهوم يحيل لدى هيجل على دلالات أخرى يوجزها هابرماس في أربع دلالات ملازمة : 1 الفردانية، وتعني أن الفرادة الخاصة جدا هي التي لها الحق في إعطاء قيمة لادعاءاتها. 2 الحق في النقد، ويعني أن مبدأ العالم الحديث يتطلب أن على كل فرد أن يتقبل فقط ما يبدو مبررا ومقنعا. 3 استقلالية الفعل، فمن خصائص العصور الحديثة تهيؤها لتقبل ما يفعله الأفراد والاستجابة له. 4 الفلسفة التأملية ذاتها، فمن خصائص العصور الحديثة كذلك عند هيجل أن الفلسفة تدرك الفكرة التي تجتاز وعيا بذاتها26. يرى هيجل أن مبدأ الذاتية هذا بدلالاته المختلفة قد فرضته الأحداث التاريخية الكبرى : الإصلاح الديني، والأنوار، والثورة الفرنسية. فمع الإصلاح البروتستاني لدى لوثر أصبح الإيمان الديني مرتبطا بالتفكير الشخصي، وكأن العالم القدسي قد أصبح واقعا مرتبطا بقرارنا الشخصي. فهذا الإصلاح قام على التأكيد على سيادة الذات، وأبراز قدرتها على التمييز والاختيار باعتباره حقا من حقوقها، في حين كان الإيمان التقليدي قائما على ضرورة الإتباع والخضوع للقوة الآمرة للتراث والتقليد. كما أن الثورة الفرنسية وإعلان مبادئ حقوق الإنسان قد فرضت مبدأ حرية الاختيار، بمقابل الحق التاريخي المفروض، كقاعدة أساسية للدولة27. هكذا أصبح مبدأ الذاتية محددا في كل مجالات الفعل، ومحددا في كل أشكال الثقافة الحديثة. فالحق والأخلاق أصبحا قائمين على الإرادة الحالية الحاضرة للإنسان في حين أنها كانت من قبل مدونة ومملاة على الفرد. كما أصبحت الذاتية أساس المعرفة العلمية التي تكشف أسرار الطبيعة بقدر ما تحرر الذات العارفة، فالطبيعة تصبح جملة قوانين شفافة ومعروفة من طرف الذات. وعلى وجه العموم فإن الحياة الدينية، والدولة، والمجتمع، وكذا العلم والأخلاق والفن تبدو جميعا كتجسيد لمبدأ الذاتية. هذا المبدأ الذي يظهر كذاتية مجردة في الكوجيتو الديكارتي أو الوعي الذاتي المطلق لدى كنط28. ومن زاوية أخرى فإنه يمكن القول بأن الأنشطة المعرفية في مجال العلم والأخلاق والفن كانت قد تمايزت واستقلت معاييرها الداخلية، كما أن دائرة المعرفة كما يقول هيجل، قد تمايزت عن دائرة الإيمان، وكل هذه الدوائر ظلت بمثابة تعبير عن مبدأ الذاتية29. السمة الأساسية الملازمة للذاتية هي العقلانية بمعنى إخضاع كل شيء لقدرة العقل التي هي بحث دؤوب عن الأسباب والعلل، ومن ثمة الارتباط الحميم لمبدأ السبب أو العلة بمبدأ العقل (Principe de Raison). وهذا المبدأعبرعنه لأول مرة ليبنتس في الصيغة التي تقول لا شيء بدون علة، وبفضله يصبح كل من الواقع الطبيعي والواقع التاريخي معقولا أو عقلانيا (أو قابلا للتفسير) بالنسبة للذات30.هكذا يصبح كل شيء مفحوصا ومفهوما بل ومحكوما من طرف العقل. وعبره يتحقق الإنسان من سيادته النظرية على العالم الذي يغدو شفافا وخاليا من الأسرار31. هذه العقلانية الحسابية الصارمة أو الأداتية سواء في مجال المعرفة العلمية والتقنية أو في مجال الإدارة والتسيير هي شكل من أشكال السيطرة والقوة، ومن ثمة ارتباط العقلانية بالسيطرة سواء تعلق الأمر بالسيطرة الكوكبية للتقنية المنفلتة من عقالها أو بالنزعة الكليانية السياسية. إن العقلانية الأداتية سيطرت على الطبيعة عبر السيطرة على الإنسان، وسيطرت على هذا الأخير عبر السيطرة على الطبيعة بواسطة التقنية، فالحداثة في عمقها مشروع تندغم فيه بصورة رفيعة إرادة الهيمنة بإدارة التحرر. ترتبط بالعقلانية الأداتية وما ينتج عنها من سيطرة، سمة فلسفية أخرى أساسية تسم العصور الحديثة وهي غياب المعنى32،وانتفاء المقاصد الغائية الكبرى التي كانت تشد وتزين العالم التقليدي. فنتيجة اكتساح ثقافة الحداثة لكل القطاعات الاجتماعية، وعقلنتها لكل مستويات الوجود الاجتماعي هي خسوف المعاني الكبرى، أوبتعبير ماكس فيبر افتقاد العالم لسحره (Ent zauberung). ورغم أن هيدجر يستعمل مصطلحا آخر (Ent Gotterung) للتعبير عن نفس الفكرة فإنه يجمل في النهاية هذه السمة في لفظ العدمية، ويعني بها افتقاد القيم العليا لقيمتها، وغياب الأهداف الكبرى، وانعدام الجواب عن السؤال البسيط: لماذا؟33والعدم المعني هنا حركة تاريخية أصيلة وليست رأيا لهذا الفرد أو ذاك وليس حتى ظاهرة تاريخية بين ظواهر أخرى، بل هو بالأحرى، في جوهره، الحركة الأساسية في تاريخ الغرب الحديث34.وغياب المعنى، الملازم للعصور الحديثة، ليس سمة منعزلة، بل هو الوجه الآخر لانتصاب الذاتية معيارا، ولظفر العقلانية الأداتية التي تشكل "عالما مروضا"، ولانفلات العلم التقني، وتحوله إلى أداة سيطرة على الطبيعة والإنسان، لدرجة يبدو معها أن "غياب المعنى ناتج عن الطابع النهائي الحاسم لبداية الميتافيزيقا الحديثة"35. ولعل النعوت التي تطلق على عصرنا هذا عصر الموضة، عصر الفراغ، عصر التفاهة والهشاشة (la médiocrité, l'ephemère) تعكس صدى هذه السمات المتحدث عنها، والتي وازت في نشأتها تبلور مفهوم الحداثة نفسه كما نجد ذلك لدى الشاعر الفرنسي بودلير الذي يعرف "الحداثة بأنها ما هو عابر، وفرار fugitif وعارض contingent.." (بودلير: رسام الحياة الحديثة). إلا أن هذا الفراغ الناتج عن غياب المعاني الكبرى غالبا ما " يتم ملؤه باستكشاف تاريخي وسيكولوجي للأساطير"36،وباستثمار أقانيم جديدة كالإيديولوجيات اليوتوبية الكبرى الواعدة بالسعادة والحرية والمساواة، والأبطال الجماهيريين لهذا العصر في مختلف المجالات كأبطال الرياضة والسياسة والسينما والغناء والموضة. الحداثة ومفعولاتها تتميز الحداثة بأنها تحول جذري على كافة المستويات: في المعرفة، في فهم الإنسان، في تصور الطبيعة، وفي التاريخ. إنها بنية فكرية كلية. وهذه البنية عندما تلامس بنية اجتماعية تقليدية فإنها تصدمها وتكتسحها بالتدريج ممارسة عليها ضربا من التفكيك ورفع القدسية. تستخدم الحداثة أساليب رهيبة في الانتشار والاكتساح. فهي تنتقل كالجائحة في الفضاءات الثقافية الأخرى إما بالإغراء والإغواء عبر النماذج، والموضة والإعلام، أو عبر الانتقال المباشر من خلال التوسع الاقتصادي أو الاحتلال الاستعماري أو الغزو الإعلامي بمختلف أشكاله إلى غير ذلك من القنوات والوسائل. وعندما تصطدم الحداثة بمنظومة تقليدية فإنها تولد تمزقات وتخلق تشوهات ذهنية ومعرفية وسلوكية ومؤسسية كبيرة، وتخلق حالة فصام وجداني ومعرفي ووجودي معمم. وذلك بسبب اختلاف وصلابة المنظومتين معا. فللتقليد صلابته، وأساليبه في المقاومة والصمود أمام الانتشار الكاسح للحداثة، وطرائقه في التكيف معها ومحاولة احتوائها ؛ كما أن للحداثة قدراتها الخاصة على اكتساح وتفكيك المنظومات التقليدية، وأساليبها في ترويض التقليد، ومحاولة احتوائه أو استدماجه أو إفراغه من محتواه. فالصراع بين المنظومتين صراع معقد وشرس بل قاتل. وقد سبق لي أن تحدثت في مكان آخر عن العلاقة الاستعارية بين التقليد والحداثة. فكثيرا ما يتلبس التقليد لبوس الحداثة ليتمكن من التكيف والاستمرار بينما تتلبس الحداثة بالتقليد أحيانا لتتمكن من أن تنفذ وتفرض نفسها. وهذا التزاوج نشهده في كافة مستويات الكل الاجتماعي، نشهده في التلاقح بين منظومتي القيم،وفي المستوى الإدراكي،والسلوك الفردي،في المعرفة،في الاقتصاد وفي السياسة. ففي المجال السياسي مثلا يحصل تمازج بين مصدرين للشرعية السياسية: الشرعية التقليدية المستمدة من الماضي،والتراث والأجداد، وشرعية المؤسسة العصرية القائمة على أن الشعب هو مصدر السلط. وهذا التمازج والاختلاط يطال الخطاب السياسي والإيديولوجي، والسلوكات السياسية، ويطبع المؤسسات السياسية، والثقافة السياسية برمتها. وهو على الرغم من كل مظاهر التعايش تمازج صراعي في عمقه. هذه الحالة البينية هي حالة طويلة الأمد إذ أنها لا تحسم بتحويل إرادي للمؤسسات أو للمنظومات القانونية بل عبر تحولات بعيدة المدى. وانتقال منظومة ثقافية تقليدية إلى الحداثة هو في الغالب انتقال عسير مليء بالصدمات الكوسمولوجية، والجراح البيولوجية أو الخدوش السيكولوجية للإنسان، وكذا بالتمزقات العقدية لأنه يمر عبر "قناة النار"، أي عبر مطهر العقل الحديث والنقد الحديث. وكل ثقافة لم تتجشم مثل هذه المعاناة المرة تظل تراوح مكانها على عتبة الحداثة، وفي عدم قدرة على الحكم على نفسها بسبب عدم قدرتها على رؤية ذاتها من الخارج، وهذه القدرة لا يمكن اكتسابها إلا بموضعة الذات وإخضاع المسلمات لمحك العقل والنقد، والحد.