"بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 وظهور المشاريع العربية المعاصرة، تم تجاوز القسمة التقليدية للعقلانية الموروثة منذ عصر النهضة: العقلانية الإصلاحية، والعقلانية الليبرالية، والعقلانية العلمية العلمانية، إلى مشاريع جديدة تحت مسمى (نقد العقلانية) بفروعها الثلاثة:نقد العقل الإسلامي لمحمد أركون، ونقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري، ونقد العقل الغربي لمطاع صفدي" (1). حينها أخذ (نقد العقل) موقع الصدارة، واحتلَّ حيزاً كبيراً في خطاب المفكرين في الساحة العربية، نتيجةً للمأزق الذي كان يمرّ به الواقع العربي منذ السبعينيات على كافة الأصعدة (الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية)، الأمر الذي دفع بالمثقفين العرب إلى توجيه أصابع الاتهام بالدرجة الأولى إلى العقل العربي ذاته. من هذا المنطلق بالذات كما يقول علي حرب: "نفهم الاهتمام الذي يبديه الباحثون والمفكرون العرب حالياً بنقد العقل، كما يتجلى ذلك فيما صدر وما يصدر تباعاً من مؤلفات أو فيما تطالعنا فيه الصحف والمجلات من حوارات، أو فيما يعقد من مؤتمرات وندوات، كلها تخصص لمساءلة العقل العربي عن فاعليته وجدواه والبحث في أزماته ومشكلاته واستكشاف إمكاناته وحدوده ... فمن هذه الأعمال - ونقول ذلك علي سبيل المثال لا الحصر - ما يتوجه فيه صاحبه إلى العقل ويحتكم إليه ويستنهضه، ككتاب الدكتور فؤاد زكريا "خطاب إلى العقل العربي"، ومنها أعمال تنتصر للعقل وتدافع عن قضيته وتنعى عليه سجنه بل موته، كما في محاولة برهان غليون المسماة "اغتيال العقل"، ومنها محاولات تتوجه بالاتهام إلى العقل العربي ذاته كما يتجلى ذلك في أعمال الدكتورمحمد عابد الجابري والدكتور محمد أركون على اختلافٍ بينهما" (2). ومفهوم (نقد العقل) في أصله وامتداده مفهوم كانطي، نسبةً إلى الفيلسوف الألماني إمانويل كانط (1804م)، والذي استطاع أن يحدث انعطافا فلسفيا حادا في تاريخ الفكر الأوربي، من خلال مشروعه الضخم (نقد العقل المحض)، حيث بلور فيه منهجية صارمة في عملية النقد تحول معها النقد من نقض المسائل والمقولات والمذاهب، إلى تحليل العقل ذاته المنتج لتلك المقولات والمسائل، وذلك من خلال فحص الشروط القبلية التي تجعل تلك المقولات ممكنة. واختبار الأصول والمسلمات والبديهيات المنتجة لتلك لمقولات (2). وقد أصبح يعرف هذا النقد ب(النقد الكانطي). لقد شكَّلت النظرية الكانطية لحظة تحول أساسية وخطيرة في تاريخ الفكر الأوربي، فلم يعد النقد مجرد دحضٍ ونقضٍ، وإنما أصبحفحصا وتحليلا لأنظمة المعرفة والكشف عن أسس التفكير وآلياته وبحث في كيفية إنتاج المعنى وقاعدة تشكيل الخطاب . يقول الناقد علي حرب: "لا جدال في أن ما أتى به كانط هو عمل غير مسبوق يمتاز بالجدّة والأصالة، وتتجلى الأصالة أول ما تتجلى في النقلة التي أحدثها كانظ في مفهومه للنقد نفسه وفي ممارسته له بطريقة جديدة ومغايرة، ذلك أنه مع النقد الكانطي ننتقل من نقد (الكتب والمذاهب) إلى نقد (العقل نفسه) أي نتخطى نقد المعارف إلى نقد الآلة التي بها نعرف" (2). لقد صار مفهوم الفلسفة بعد كانط ممارسة النقد، وأصبحت الفلسفة النقدية، تنضوي داخلها جميع الاتجاهات الفلسفية المعاصرة، فلا توجد فلسفة غربية اليوم إلا وهي نقدية، وبالتالي فالفلسفة النقدية تعني: الاتجاه الماركسي، والوجودي، والظاهراتي، والبنيوي، والتفكيكي، وكذلك مناهج البحث التاريخي واللساني والتحليل النفسي والأنثربولوجي(3). هذا التوجه الكثيف والعميق نحو النقد، أكسبه مع مرور الوقت مجالا معرفياً مستقلاً، وأصبح له قوانينه وتقنياته الخاصة به، وتحول من أداة لاستكشاف الحقيقة أو إنتاجها، إلى فلسفة قائمة بذاتها، بحيث أن النقد بات وبصورة مستقلة "يفضي إلى الحقيقة دون الرجوع إلى أي معطى ماروائي/غيبي (=الوحي) يكسبه مشروعية الحكم" (1). وإذا كان مشروع كانط منصبا على العقل المحض/ الخالص/ المجرد عن أي صفة معرفية أو مذهبية، فإن المفكرين من بعده قد أفادوا منه في نقد العقل المختص معرفياً أو المنتمي مذهبياً بعد تجريده من كل تجسيداتها الواقعية والإمساك بالمعالم النظرية لذلك العقل، فصار هناك نقد العقل السياسي، ونقد العقل الصناعي، ونقد العقل الوضعي، ونقد عقل التنوير، ونقد العقل الديني ... إلخ . وكلها تتجه إلى فحص النظام المعرفي المبنى على مسلمات وأصول معينة، هذه المسلمات والأصول هي المنتجة والمشكّلة للمقولات في ذلك الحقل المعرفي . 2 - من هنا كان مشروع الجابري وأركون في نقد العقل العربي/ الإسلامي، حيث تحول نقد التراث عبر مشروعهما، من نقد المسائل والمقولات التراثية إلى فحص وتحليل النظام المعرفي الذي أنتج تلك المسائل والمقولات ... من مناقشة التصورات الدينية في التراث إلى مناقشة النظام الفكري العميق، أو الأنظمة الفكرية المنتجة للتصورات الدينية في التراث الإسلامي . هذا هو الانعطاف النقدي الجديد الذي حصل مع الجابري وأركون . وحين نقول نقد النظام أو الأنظمة، فهذا يعني أن الهدف هو دراسة المنهج، أي بنية العقل الديني وطريقة اشتغال آلياته وليس مضامين الشريعة والعقيدة بحدّ ذاتها، فمسائل الشريعة والعقيدة كما يقول أركون "قد تختلف، ولكن الجذور المعرفية واحدة"، أو بتعبير آخر؛ "ليس الاهتمام بالأفكار ذاتها، وإنما بالأداة المنتجة لهذه الأفكار"، وهو المنهج . والهدف النهائي من هذين المشروعين، هو معالجة إشكالية ثنائية (التراث والحداثة) في الفكر الإسلامي، من خلال تهيئة أو تمهيد أرضية تراثية يمكن لها أن تستقبل الحداثة دون تصادم أو ممانعة. المشكلة أن هذه المنهجية تفترض - بوعي أو بدون وعي - أن الإشكالية تكمن في التراث دون الحداثة، ولهذا ينصب نقدها ومراجعتها وقراءتها وإعادة الصياغة والتكوين للتراث دون الحداثة. مع أن الحداثة الغربية بحاجة ماسة أيضاً إلى القراءة والمراجعة، إن لم تكن هي أولى بالنقد والمراجعة وإعادة الصياغة والتكوين حتى تتوافق مع الذات المسلمة . على أية حال؛ الهدف النهائي لمشروع (نقد العقل العربي/ الإسلامي) هو صياغة ذات عربية تراثية يمكنها أن تتوافق وتنسجم مع الحداثة المعاصرة . وهذا يعني إزالة كافة الأطر والسياجات الدينية والتراثية (الفاسدة والصحيحة على حدّ سواء)، والتي طالما كانت تحول المسلم من الدخول في فضاء الحداثة . لقد كان لهذين المشروعين الكبيرين صدى واسعا وكبيرا بين عامة النخب الفكرية في العالم العربي والإسلامي، بل وعدّه البعض مرحلة حاسمة للحداثة العربي للتحول المنهجي من التراث العربي الإسلامي . هذا بالنسبة لمفهوم النقد . 3 - أما مفهوم العقل الذي يستخدمه الجابري وأركون في مشروعهما، فليس المقصود به الصفة القائمة بالإنسان، والتي هي بمثابة الغريزة أو القوة التي تحكم أقواله وأفعاله، أو النشاط الذي يحصل به الفهم والإدراك والتمييز من خلال العمليات العقلية المختلفة: كالتجريد، والتحليل، والتركيب، والاستقراء والاستنتاج. كما أنهما لا يقصدان بالعقل؛ العقل الأنطولوجي (الوجودي)، المفارق للإنسان، وهو عند الفلاسفة أحد موجودات العالم، والذيرسمه أرسطو ونظمه من خلال نظرية (العقل الهيولاني) و (العقل الفعَّال)، وهما - في نظره - "عقلان ثابتان خالدان مفارقان للطبيعة وللعقول الفردية معاً" . كذلك الجابري وأركون لا يقصدان بالعقل، ذلك المفهوم المثالي الذي تبلور في فضاء الفلسفة الحديثة على يدي ديكارت وكانط وهيجل، المفهوم الذي يرى بأن العقل هو مجموع المبادئ الصلبة المنظِّمة للمعرفة، كمبدأ عدم التناقض، ومبدأ السببية، ومبدأ الغائية، والتي تتميز بضرورتها وكلِّيتها واستقلالها عن التجربة. ثم قابله المفهوم المادي، الذي يذهب إلى أن العقل صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات الحسية لتصبح أفكاراً كلية بعد عمليات طويلة من التركيب، بحيث تكون تلك الأفكار في النهاية انعكاس للواقع . عموماً؛ مفهوم العقل في مشروع الجابري وأركون مختلف تماماً عن هذه المفاهيم السائدة في حقل الفلسفة الكلاسيكية. لقد تجاوز الجابري وأركون كل هذه المفاهيم، واتجها إلى آخر المواقع الفلسفية الغربية المعاصرة (الفرنسية على وجه الخصوص)، ينهلا من إنتاجها، ويستقيا منها مفهومهما للعقل. والفلسفة المعاصرة كما هو معلوم قد أحدثت قطيعة معرفية (ابستمولوجية) مع عقل التنوير، ومع المفاهيم الفلسفية التي كانت سائدة في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، وصارت تبدع مفاهيمها وفق آخر ما توصلتْ إليه العلوم الإنسانية المعاصرة (1) . لقد كانت لحظة تحول مفهوم العقل في الفكر الأوربي المعاصر "نتيجةً لما سمي في تاريخ الفكر الغربي بأزمة الأسس (la crise des bases) ، والمراد بها الأزمة التي عرفتها مختلف العلوم في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ نتيجة ظهور معارف ونتائج علمية ومستجدات فكرية لم تعد العلوم الكلاسيكية قادرة على استيعابها واحتوائها، الشيء الذي استدعى إعادة النظر في مختلف مفاهيم ومناهج ونتائج العلوم وهو ما سمي بإعادة السبك" (2). فظهور الخلية في مجال البيولوجيا، وظهور نظرية المجموعات في الجبر والهندسات اللاأوقليدية في الرياضيات والنظرية الكوانطية والنظرية التموّجية والنظرية النسبية في الفيزياء... الخ، كل ذلك أدى إلى إحداث قطيعة إبستمولوجية بين العلوم أو العقلانية الكلاسيكية من جهة، والعلوم أو العقلانية المعاصرة من جهة ثانية. فأصبحت العقلانية الحالية أكثر انفتاحا نتيجة تجاوزها لتلك المبادئ التي تحكم العقل: الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع والسببية (3). وهكذا لم يعد العقل جوهراً ثابتاً، أو بنية قبلية مطلقة متعالية على الزمان والمكان تماثل ذاتها عند كل إنسان أيا كان، بل أصبح العقل أداة إنتاج المعرفة تنمو وتتطور من خلال عملية إنتاج المعرفة ذاتها. فالعقل إذن كيان قابل للتوسع واستيعاب المستجدات المتغيرة باستمرار، فهو إذن خاضع لكل الملابسات والحيثيات الزمكانية (1). من هنا تشكلَّت فكرة (تاريخية العقل)، لدى منظِّري ما بعد الحداثة - وفي فرنسا على وجه الخصوص (المنبع الأساس لفكر الجابري وأركون) - هذه الفكرة تقول: إن العقل لم يعد "جوهراً ثابتاً يخرج عن كل تاريخيِّة وكل مشروطيِّة" (2)، بل هو متجذِّر داخل التاريخ. "بمعنى أنه مشروط بالعصر والظروف، وأنه يتغير إذا ا تغيِّرت العصور والأزمان وتجددت وسائل المعرفة" (3). لقد اكتشف أركون "أن مفهوم العقل له تاريخ، فالعقل الذي كان يستخدمه الحسن البصري ليس هو العقل نفسه الذي كان يستخدمه ابن خلدون، والعقل الذي كان يستخدمه ابن خلدون ليس هو نفسه الذي استخدمه محمد عبده، والعقل الذي كان يستخدمه محمد عبده ليس هو نفسه الذي استخدمه طه حسين، وعقل طه حسين ليس هو العقل الذي أستخدمُه أنا شخصياً اليوم"(4). إذن "العقل ليس شيئاً مجرَّدا قابعاً في الهواء وإنما هو شيء محسوس ومؤطَّر بشكل جيد، فللعقل تاريخيته أيضاً، وكل واحدٍ من هذه العقول المذكورة مرتبط بالبيئة والمجتمع والحالة التطورية للأنظمة الثقافية والمعرفية السائدة في زمن كل مفكّر" (5). بمعنى آخر؛ أن المفهوم الأفلاطوني والأرسطي للعقل، والذي امتدَّ أثره إلى فلاسفة الأديان وعلماء اللاهوت في (اليهودية والمسيحية والإسلام) واستطال أثره إلى فلاسفة التنوير (ديكارت، لابينتز، كانط، هيجل)، والذي يقوم على أساس أن العقل مفهوم متعال، كلي، أبدي، "لا يعتريه البلى والتغيير كما تتغير الأشياء الفانية" (1)؛ هذا المفهوم بحسب أركون "لم يعد أحدٌ يقتنع بوجوده ... ولم يعد أحدٌ يستطيع أن يدعي أنه يمتلكه، بل إن كل من يزعم ذلك يُرفض مزعمه بصفته نوعاً من الايديولوجيا" (2). ولهذا يقول: "لا أقصد بالعقل المفهوم الجاري عند فلاسفة الإسلام والمسيحية الموروث عن الأفلاطونية والأرسطية، وهو القوة الخالدة المستنيرة بالعقل الفعَّال، المنيرة لسائر القوى الإنسانية في النشاط العرفاني، بل أقصد القوة المتطورة المتغيِّرة بتغيِّر البيئات الثقافية والأيديولوجية، القوة الخاضعة للتاريخية" (3). وأركون حين يتبنى هذا المفهوم، فهو يعتمد على الإبستمولوجيا المعاصرة التي تقول: العقل يتطور من عصر إلى آخر، "الإبستمولوجيا المعاصرة أو فلسفة العلوم لم تعد تعتقد بإمكانية تأصيل العقل، أو الحقيقة بشكل نهائي، والدليل على ذلك أن الحقيقة تتغير، والعقل يتطور من عصرٍ إلى آخر" (4). كما أنه يعتمد على التاريخية الجديدة التي أسسها تيار مجلة الحوليات الفرنسية (5)، والتي تأثر بها أركون بشكل عميق كما يقول عن نفسه. فمدرسة الحوليات ترى بأن العقل مشروط بأنظمة تاريخية محددة. يتطور بتطورها ويزول بزوالها (6). ولا يخفى المنزع الماركسي لهذا الاتجاه الجديد. وإن كان هو ليس ماركسياً تماماً، لأنه لا يتبنى الفلسفة الماركسية بشكل كامل بل هو ينقدها في بعض جوانبها. كما سيأتي معنا. إذن العقل ليس شيئاً ثابتاً لا يتحول، بل هو نسبي، في ظل صيرورة تاريخية دائمة. وهذا المبدأ بحسب أركون ينسحب على جميع العقول المفكرة، حتى الأوربيين، "فعقل القديس توما الأكويني ليس هو عقل ديكارت، وعقل ديكارت ليس هو عقل هيجل" (1). وهنا أتساءل؛ كيف يمكن لهذه العقول أن تتواصل إن كانت هي مختلفة فيما بينها؟ كيف يمكن لها ذلك إن كانت العقول بطبيعتها متحوِّلة جذرياً وباستمرار إلى درجة أنه في غضون عقد أو عقدين لا يوجد أي تناسب يجمعها؟ إذا كان كلام أركون صادقاً فإننا لا يمكن أن نقرأ لمفكِّر سبقنا بقرنٍ من الزمن، بل حتى بعقد أو عقدين، لأن عقله مختلف عن عقلنا وفضاءه العقلي بعيد عن فضائنا. وأركون بهذا المفهوم إنما يؤكد النسبية السفسطائية ويردد أطروحات الفلاسفة العدميين أتباع التيار النيتشوي، كهايدغر، وفوكو، ودريدا (2). فعلاً؛ "إذا أردت أن تُضعف من سلطة شيء ما، فعليك أن تُفتِّته إلى أجزاء غير قابلة للوصل، أو تُخضعه إلى صيرورة زمنية لا تقف عند حدٍّ ولا تملك أي مرجع ثابت، هكذا تتلاشي وحدته وتنحلّ شموليته. أركون يجزِّئ العقل ويُفتّته إلى هباءات لا يجمعها جامع، ولا يمكن ربطها أو إيجاد حتى قرابة نظرية ومبدئية بينها" (3). أما محمد الجابري، فمن خلال مشروعه (نقد العقل العربي)، يذكر بأنه يعتمد في تحديده لمفهوم العقل، على نظرية العقل المكوِّن(بالكسر)، والعقل المكوَّن (بالفتح)، وهي نظرية حديثة صاغها الفيلسوف الفرنسي رينيه لالاند في كتابه (العقل والمعايير)، وكان أصله سلسلة محاضرات ألقاها في جامعة السربون عام 1909 تحت عنوان (العقل والمبادئ العقلية) (1). يقول الجابري شارحاً لهذه النظرية: "لنستعن بادي ذي بدء، في تلَّمس الجواب عن هذه الأسئلة بالتمييز الذي أقامه لالاند بين العقل المكوِّن أو الفاعل، والعقل المكوَّن أو السائد. فالأول يقصد به النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة والذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ، وبعبارة أخرى إنه: الملكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية وضرورية. وهي واحدة عند جميع الناس. أما الثاني فهو مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا ... وهو العقل كما يوجد في حقبة زمنية معينة [لاحظ هنا تاريخية العقل] وبعبارة أخرى إنه: منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما، والتي تُعطى لها خلال تلك الفترة قيمة مطلقة" (2). ومما يدلُّ على أن التقسيم الثنائي اللالاندي للعقل قائم على أساس (تاريخية العقل). هو أن العقل الذي يسميه لالاند ب(السائد) أو (المكوَّن) لا يمكن أن يكون - في نظره - ثابتاً مطلقاً، إنما يكون ثابتا في فترة تاريخية معينة، فإذا بدأ العقل الفاعل (المكوِّن) يراجع ذاته ويقوم بوظيفة نقدية للعقل السائد (المكوَّن)؛ عندها سيدخل العقل الناقد في أزمة مع العقل السائد، وبالتالي يمهِّد الانتفاضة عليه لا محالة، الأمر الذي يجعل العقل في صيرورة دائمة وإعادة تكوين. يقول جورج طرابيشي شارحاً لهذه الفكرة: "العقل المكوَّن (السائد) عند لالاند هو عينه العقل المكوِّن (الفاعل) عندما يتخذ من نفسه موقفاً نقدياً، فالعقل خلافاً لدعاوى العقل المكوَّن (السائد) ليس له طابع ثابت ومطلق. وأياً ما تكن أوهام المنتمين إليه في حقبة تاريخية ما؛ فإن عقلَ عصرٍ ما ليس هو قط العقل المحض. وحدهم أولئك الذين لم يكتسبوا في مدرسة المؤرخين أو الفلاسفة الحس النقدي اللازم يمكن أن يتراءى لهم أن العقل المكوَّن السائد في عصرهم عقل مطلق" (3). إذن متى يحصل التحول للعقل ويصبح نسبياً؟ يحصل ذلك "عندما تتراكم في الأفق التاريخي مؤشرات الحاجة إلى (تنسيب) هذا المطلق [أي جعله نسبيا)" وحينها "يكون العقل قد دخل في مرحلة أزمة مفتوحة. والحال أن الاستقرار في الأزمة هو بالضبط وظيفة العقل المكِّون [الفاعل]. فالعقل المكوِّن هو العقل عندما يراجع ذاته، والعقل عندما ينتفض ضد ذاته. وهذا العقل الذي في أزمة ... هو ما يعمِّده لالاند باسم (حركية العقل)" (1). و(حركية العقل) هذه، هي التي يريدها الجابري: "إن هذا العرض الذي قدمنا فيه بصورة مجملة تطور مفهوم العقل ... يؤكد تاريخية هذا العقل، أي ارتباطه بالثقافة التي يتحرك داخلها، الشيء الذي ينزع عنه الصبغة الإطلاقية" (2). "فالعقل كوني ومبادئه كلية ضرورية ... نعم . ولكن فقط داخل ثقافة معينة أو أنماط ثقافية متشابهة" (3). إذن؛ (تاريخية العقل) أو (حركية العقل) ... هو ما يحتاجه الجابري بالفعل في مشروعه النقدي، لأنه حينها "يمكن النظر إلى (العقل العربي) بوصفه عقلاً ينشئ ويصوغ العقل السائد في فترة تاريخية ما" (4). مما يعني أنه "بالإمكان إنشاء وصياغة مبادئ وقواعد جديدة تحل محل القديمة، وبالتالي قيام عقل سائد جديد، أو على الأقل تعديل أو تطوير أو تحديث أو تجديد؛ العقل السائد القديم. وواضح أن هذا لن يتم إلا من خلال نقد العقل السائد" (5). وكيف تتم عملية نقد العقل السائد؟ هنا ... في هذه المنطقة يتقاطع الجابري مع محمد أركون؛ فيقول: "إن عملية النقد هذه يجب أن تمارس داخل هذا العقل نفسه من خلال تعرية أسسه وتحريك فاعليته وتطويرها وإغنائها بمفاهيم واستشرافات جديدة نستقيها من هذا الجانب أو ذاك من جوانب الفكر الإنساني المتقدم، الفكر الفلسفي أو الفكر العلمي" (1). "تعرية الأسس"، "تحريك الفاعلية"، "استدعاء مفاهيم من جوانب الفكر الإنساني المتقدم"، هذه منهجية الفكر الحداثي في نقد العقل السائد (العقل العربي الإسلامي). وأريد أن ألفت النظر هنا؛ إلى أن هذا المفهوم التاريخي للعقل الذي يتبناه الجابري وأركون، له انعكاس عميق على موقفهما الفلسفي، وبالتالي على مشروعهما النقدي. فالعقل بهذا المفهوم التاريخي له خصائص ومفاهيم، تؤول في نهايتها إلى مشارف أبواب الفلسفة العدمية النسبوية التي يتبناه مفكري ما بعد الحداثة، وليس بالضرورة أن الجابري وأركون يتبنيان صراحة الفلسفة العدمية ولكن مفهوم تاريخية العقل ينتهي إلى هذا . فمن هذه خصائص هذا العقل، أنه عقل متحول غير ثابت، وهذه شرطُ تاريخيته، ولذا فلا يوجد في مفهومه معنى المطلق والكلي والثابت. يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران: "يبدو لنا اليوم أنه من الضروري عقلياً نبذ كل تأليه للعقل، أي نبذ كل عقل مطلق ومغلق ومكتف بنفسه، ويجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار إمكانية تطور العقل، إن العقل ظاهرة تطورية لا تتقدم بصورة متصلة وخطية، كما كانت تظن ذلك النزعة العقلانية القديمة، بل إن العقل يتطور عبر طفرات وإعادة تنظيم عميقة" (2). ومن خصائصه أيضاً أنه، منفتح، ومعنى الانفتاح: أن العقل أصبح لا يلغي ولا يُقصي اللامعقول (وهو ما يخرج عن نطاق الخبرة الحسية بحسب المفهوم الوضعي للعقل)، بحيث صار يحتوي في مفهومه الخيال والعاطفة والشعور، ولذا فهو يعترف بالسحر والأسطورة والشعوذة، وهذا الذي يفسِّر لنا ما يحدث في المجتمعات الأوربية في الآونة الأخيرة من الإقبال الملفت نحو الممارسات الدينية الشاذة الملتفة بالأساطير والسحر والطلاسم. "إن عقلاً متفتحاً هو وحده الذي يمكنه ويتعين عليه أن يعترف بوجود اللامعقول (الصدف، مظاهر عدم الانتظام، النقائض، الثغرات المنطقية) ويمكنه أن يشتغل على ما ليس معقولاً، إن العقل المنفتح ليس كبتاً بل هو حوار مع اللامعقول" (1). ومن خصائص العقل التاريخي أيضاً أنه، تعددي، وهذا نتيجة لصيرورته وانفتاحه، ونتيجة أيضاً لبروز النزعة الذاتية في الفلسفة المعاصرة، والتي تقوم على أساس أن المعرفة مصدرها الذات العارفة وليس الموضوع المعروف (2)، وبالتالي فمفهوم العقل على هذا الأساس ظاهرة ذاتية، وهذا ما أدى إلى تعدده بتعدد الذوات، فأصبح من الجائز الحديث عن عقول بعد أن كان حكراً على العقل الواحد بمفهومه الكبير، وبدأنا نسمع عن عقل غربي، وعقل عربي، وعقل إسلامي، وعقل مسيحي، وعقل يهودي، وعقل سياسي، وعقل ثقافي، وعقل اجتماعي ... إلخ، والقائمة تطول (3). هذه الخصائص للعقل التاريخي؛ تؤدي في النهاية إلى نتيجة واحدة وهي ما يعرف الآن ب: (موت العقل) . وهو الإعلان الذي دائماً ما يطلقه مفكرو ما بعد الحداثة حين ينعون عقلانية التنوير (4)، يقول جان فرنان - وهو أحدهم - : "عندما نسأل العقل عن أصوله فإننا نقحمه في التاريخ ونعامله على أنه ظاهرة بشرية ومن ثمَّ على أنه نسبي خاضع لشروط تاريخية معينة منقلب بتقلب الشروط، وبذلك فإننا ننتقل من مفهوم لاهوتي ميتافيزيقي عن العقل إلى شيءٍ مخالف تمام الاختلاف" (5). وهنا نساءل فرنان، ما هو هذا الشيء "المخالف تمام الاختلاف" ؟ الجواب بطبيعة الحال: إنه عقل ما بعد الحداثة. وما وجه الاختلاف بينه وبين عقل الحداثة ؟ يقول أركون: "الفرق الوحيد بين عقل الحداثة وعقل ما بعد الحداثة هو أن الثاني وهو يبلور المعارف الجديدة؛ يعرف أنه لن يصل إلى الحقيقة المطلقة. إنه يصل إلى حقائق نسبية، مؤقتة، قد تدوم طويلاً أو أكثر، ولكنها حتماً لن تدوم أبدياً" (1). ولا يخفى على القارئ، أن مفهوماً للعقل كهذا؛ لابد وأنْ تنعدم عنده الحقائق بالكامل، ويفسح المجال للنسبية والعدمية، وبالتالي تغيب المعيارية؛ لأن المعيار وجوده مرتبط بوجود المبادئ الكلية الضرورية. وإذا غاب المعيار الذي يفصل بين الصواب والخطأ، لم يبق هناك مجال للتفاضل، بل كل شيءٍ متكافئ ومتجانس، وحينها لا يمكن تأصيل أي فكرٍ ولا الثبوت على رأي واحد، لأن الأصل لا وجود له ... ولاشك أن محمد أركون يجد في هذا الاتجاه دعامةً قوية لمشروعه النقدي، ولهذا كان كتابه (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل) الذي قال فيه بوضوح: "أردتُ قبل كل شيء أن أنقد مفهوم الأصل، وعملية التأصيل، أو بالأحرى الإدعاء لإمكانية التأصيل لفكرة ما: دينية، أم علمية، أم فلسفية، أم أخلاقية، أم سياسية، أم اقتصادية، أم اجتماعية" (2). ويضيف هاشم صالح شارحاً: "يقصد أنه لا توجد أصول دائمة وأبدية، وإنما هناك أصول متغيِّرة بتغير العصور لكي تتناسب مع المستجدات، وبالتالي فالتأسيس النهائي للحقيقة أو للعقل شيء مستحيل، لأن الحقيقة أصبحت نسبية ولم تعد مطلقة وأبدية كما يتوهم الأصوليون من كل الأنواع والأجناس