في الأول تهيبت الكتابة عن هذا الديوان، رغم علاقة الحب «العاهلة» التي تجمعني بالشاعر في أعالي البحار الشعرية الصويرية. أكيد أن ، مبارك الراجي – قربان شعري منذور لغواية الحب الفاتكة – أنت ستحبه مثل حانة تفتح أبوابها في فجر القصيدة بذاكرة أوروفيسية، ضاجة بنشيد البحر والرياح ومتاهة العيش في مدينة تتكبد بدأب عناء المروق السافر فوق سواحلها لشعراء يتعاملون مع العناصر الأربعة للطبيعة ك «ضرورة شعرية». لم أكتب شيئا، لكني قرأت الديوان مرارا كما لو أنه أوراد و نذور و تمائم مفضية إلى عتبات ال ( Haut langage) . كان ما يشدني عن الكتابة هو صدور الديوان مرفوقا بمقدمة للشاعر تندرج في سياق L›auto – lecture مكتوبة بلغة ميتاشعرية باذخة وشبيه بسيمولاكر يضاعف النص في حياة أولى قبلية. يمكن للقارئ أن يقرأ هذه المقدمة ويقول : تبا للنقاد، بما فيهم ( أنا) / أنا هو عنوان السيرة الذاتية لعباس محمود العقاد _ مشكلة هاذي. ليس هذا فقط، فالديوان صدر و هو محفوف بست شهادات – قراءات ضوئية كريستالية الوميض [ أحمد بوزفور، أنيس الرافعي، صلاح بوسريف، لحسن العسيبي، محمد معتصم، الشريف آيت البشير] و لله درهم من عصابة أسرفوا في منادمة الشعر بجلق في الزمان الأول. وهم عصابة لا تبقي من القول الشعري و لا تذر، ولهم المودات المكينة. كدت أنصرف عن الكتابة لولا أن يدا ملطوخة بأصباغ انطباعية عدة خرجت من أوراق الديوان وحطت على كتفي تربت، وسمعت معها صوت فان كوخ يكلمني بالدارجة قائلا : فين غادي آلشريف، آجي لهنا، الغاوون لا ينصرفون عن القصيدة قبل يتركوا شيئا من دمهم مضرجا على هيكل النص. حسنا يا سيد فان كوخ. سنسمع كلامك، ونفعل، كيف لا وأنت الذي تملأ بغرابيبك و غربانك وحقول قمحك وذراك الديوان جملة جملة / نبضا نبضا ، ضربة فرشاة تلو الأخرى من طفولة الماء إلى سرير السنبلة. هكذا اهتديت بفضل مشيئة لا مقدرة لفان كوخ إلى الباب السابع في الحكاية. أن أطل على الديوان من شرفة المدى الذي تتساكن فيه ألوان اللوحة و ضوء الشعر، فرشاة التشكيلي وصوت القصيدة، وقت يندغم الألم في تواشج كوني إنساني ليقول بأن جوهر الشعر يكمن في الاختراق النازف لجسد كل الأجناس الأدبية و التعبيرية بمعادل اختراقه لتجربة الألم من طرفة بن العبد إلى أبي حيان التوحيدي إلى بودلير وأبولينير وفان كوخ إلى شاعرنا مبارك الراجي. لنقل بأن الشاعر اعتمد بنية شعرية تناصية لقول مضاعف يجعل التجربة الذاتية للشاعر تندغم وتتضام مع التجارب الشعرية و الإبداعية الكونية ( جلجامش، هوميروس، ابن عربي، بيكاسو، فان كوخ، ادوارد مونيش، طرفة بن العبد، أدونيس… الخ) ، نقرأ من الديوان : « من قال أن لا أحد على هذي الرمال كل الآلات الموسيقية أراها أسمعها واحدة تراوح الأخرى من آلة ( الباكو) التي كان يعزفها ( أنكيدو) إلى عود زرياب إلى الكمان من الوسوسة الشعرية ل ( آدم) إلى تفاحة ( أبولينير) الزرقاء ها كل الشعراء في البحر الآن ( لوركا)، ( بودلير) – ناظم حكمت)، ( السياب) (رامبو)، ( صافو) ، ( المتنبي) (أحمد بركات)، ( ديك الجن) كل الشعراء هنا الآن.» وفي هذه البنية الشعرية التناصية المضاعفة، يكون التفاعل و التعالق الشعري / التشكيلي هو « سند القصيدة / اللوحة» في آن واحد. يحدث هذا في هذا الديوان الذي يعيد كتابة تجاريح الذات بجعل الأنا الشعري متكلما بلسان سيميائي هو فان كوخ، لسان غيري و شبيه في وقت واحد. و هو ما يجعل لغة الشعر والقصيدة « خلاسية» تلتقط علاماتها الرمزية من أرخبيل متخيل لتلاقي التدويني الشفوي و الأثر البصري. التقاء نصين وذاكرتين وحقلين دلالين سيميائيين، بأجواء و مناخات تعبيرية تراجيدية عاكسة لوجع الاغتراب الأنطولوجي وألم العزلة الفردية للشاعر في قلب العتمات الشرسة، في قلب السواد الشرس شراسة غربان كل تجارب الموت الفعلي والرمزي : « غربان الشاعر ( إدغار ألان بو) و ( أوفيد) في قصيدة فاستي، غربان ( برومثيوس)، غربان ( ابن المقفع) ، غربان ( فان كوخ)، غربان ( لا فونتين)، غربان ( قابيل) و ( هابيل)، غربان ( هيتشكوك)، كل هذه الغرابيب أسطورة مندغمة في الثوب الآهل للسهرة الفاتنة. «(…) أقول في بركة الماء النرجسية هكذا أريد وجهي غرابا، و أعماقي غابة عالية، هيا تكلم أيها الغراب، فيما أنا أنعق»] لمبارك الراجي جملته الشعرية التي تتراوح أسلوبيا بين حدي الغنائية و السرد الشذري بألوان المجازية وصوره الإنطباعية. وله أيضا ذلك المتخيل الذي يحفر في الهوية السيرية لحياته الشخصية من أجل استيلاد العلامة الشعرية محولة إياها إلى رمز و أيقونة. مبارك الراجي شاعر مقل (بثلاثة دواوين شعرية لا غير على مسافة ثلاثين سنة) لكنه شاعر عميق وهائل الارتجاج في جسد الموت الذي يسكن تحت الزلازل.