رحل كبيرنا الذي علمنا توليف الأحاديث، كيف نفك طلاسم زوايا اللقطات ، كيف نحصر المعنى ونحدد الدلالات ، علمنا كيف نعيد نسج خيوط الحكاية ونرى ما وراء الكلمات، رحل. رحل نور الدين، ذات صباح فاجأنا نذير بأنا لن نراها خطيبا معلما شارحا، سنتفقد ذاك الصمت الرهيب ونحن نسيخ السمع لوصاياه ، كلماته في ترتيبها الأنيق تسعفه في بسط كل تفاصيل الرؤيا وما تحمله في ثناياها لينكشف المعنى . هكذا اكتشفنا أن السينما ثقافة ورؤية وبهجة للحياة، فانشطرنا أندية على امتداد الوطن، نستعيد درسه ونتلو بياناته حول الصورة والمعنى، أصبح في فهمنا أن للصمت في السينما أبعادا أخرى وأن وراء كل حكاية عبرة، وأن آخر مشهد في الفيلم يحيل على سؤال ، تضاء القاعة ويمتد النقاش لتتجلى أشياء أخرى ويعلو صخب الحديث .هي أيام أشرقت لحظاتها وفاحت نسائم سويعاتها في حضرة رجل غمره التوقير والاحترام، اهتدينا إلى سبيل معارفه فلفنا قلقه الدائم وانشغاله بتفكيك طلاسيم أفقنا البهيم ، سرته فورة استعدادنا لمرافقته في سبك خطوه نحو أفق قوامه فكر مستنير وشباب متوثب وطامح. رحل كبيرنا وقد اشتد عودنا ، وأصبح منا الرواة والمثفقهون والحالمون بأن تمتد فينا عوائد التأني في إصدار الأحكام والتقويمات، صرنا ثلة من الواثقين بأن السينما أداة تنموية على أكثر من مستوى، وأن الحكي سبيل لبسط الجمال وربط الوجدان بواقع معاش هنا وهناك. تعلمنا كيف نختلف ونحفظ الود ونجعل من السجال مدخلا للتواصل وتعميق الروابط .هكذا أصبحت لقاءاتنا فسحة وشحذ للأفكار ، نستمع بتأني ونصغى للآخر باحترام ، لا تنقصنا الحجة في سرد ما عن أنه حقيقة يلفها الوثوق سمات اكتسبناها في عز فورتنا الشبابية وتطلعاتنا الحالمة رحل نور الدين واستوطن الحزن كل الجوانح، لم تسعفنا الآهات في صد رجة الحسرة وقسوة عنف الآلام. عزاؤنا أنا كنا في رحاب أيامه وفورة عطائه على أهبة الانفصال عن رواسب اعاقة إدراكنا ، فاهتدينا إلى أن الابداع ضفاف شاسعة وأن المسار الناجح يقتضي هبة أولى . فلروحه الطاهرة أزكى.