يبدو أن قدر العلاقات المغربية الجزائرية أن تبقى في منطقة الجمود، وأن تتصدى لكل مقاربة أو مبادرة تسعى إلى دفن رواسب الماضي وجراحه. بل يمكن القول، من دون تردّد، إن هذه العلاقات اكتسبت، عبر عقود من القطيعة المحكمة، مناعةً قويةً لم ولن تنفع معها أقوى الوصفات العلاجية، فكلما لاحت في الأفق بارقة أمل لإحداث صدمة إيجابية، تكون خطوة نحو هدم الجدار السميك لهذه القطيعة، تنتصب العراقيل، وتتناسل عوامل الإجهاض والتقويض تباعا، من دون أن يكون هناك أي تفسير مقنع أو تعليل موضوعي ومنطقي لذلك. لقد باءت كل المحاولات والمبادرات، الساعية إلى إصلاح ما أفسدته السياسة في العلاقات المغربية – الجزائرية، بالفشل. ولم تفلح في احتواء تداعيات الاستيهامات الجيو- استراتيجية، والتسابق على الزعامة الإقليمية الذي جعلت منه الجزائر رهانا أساسيا، وخطا أحمر، حتى ولو كلفها ذلك التضحية بثرواتها ومخزونها من النفط والغاز الطبيعي. وكأن معاكسة المغرب، والعمل بكل الوسائل، واستثمار مختلف الإمكانات المتاحة، لتقزيم دوره، والتضييق عليه والطعن في حقوقه الترابية والسيادية في الصحراء، هو الهدف الذي من أجله قامت الدولة الجزائرية، علما أن السلطات الجزائرية، مدنية وعسكرية، تعتبر المغرب قوة احتلال في الصحراء، وأن الصحراء مدرجة، منذ عام 1966، ضمن قائمة الأقاليم غير المستقلة، وتبعا لذلك تدعو الجزائر إلى تطبيق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بإجراء الاستفتاء لتقرير مصيرها، فيما تدرك جيدا أن هذا الخيار لم يعد مجديا وواقعيا. اقترح العاهل المغربي محمد السادس، في خطاب وجهه إلى الأمة بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين للمسيرة الخضراء، عام 2018، مبادرة وصفها المراقبون بأنها جريئة ومسؤولة وذات أبعاد استراتيجية، عندما أكد استعداد بلاده للحوار المباشر والصريح مع الجزائر، لتجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية التي تعيق تطور العلاقات، وأرفق هذه المبادرة باقتراح آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور، وأكد انفتاح المغرب على الاقتراحات التي قد تتقدم بها الجزائر، بهدف تجاوز حالة الجمود في العلاقات بين البلدين الجارين الشقيقين. ولإقناع السلطات الجزائرية بجدّية المبادرة ومصداقيتها وصفاء طوية المغرب، أوضح الملك أن الآلية المقترحة ستنكبُّ على دراسة جميع القضايا المطروحة، بكل صراحة وموضوعية، وصدق وحسن نية، وبأجندة مفتوحة، ومن دون شروط أو استثناءات، وقال إن مصالح الشعبين الجزائري والمغربي «هي في الوحدة والتكامل والاندماج»، من دون الحاجة لطرف ثالث للتدخل أو الوساطة. وعندما انتخب عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية الجزائرية في ديسمبر 2019، بعث الملك محمد السادس برقية تهنئة، جدّد فيها دعوته إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات المغربية الجزائرية على أساس الثقة المتبادلة والحوار البناء. وفي يوليوز الماضي، دعا الرئيس تبون، في مقابلة صحافية، المغرب إلى المبادرة لإعادة العلاقات بين الجزائر والمغرب إلى طبيعتها، وتجاوز التوتر بين البلدين الجارين، معتبرا أنه ليست لدى الجزائر أي مشكلة مع المغاربة، لكنه قال «يبدو أنهم هم من لديهم مشكلة معنا». وأضاف «إذا كانت هناك مبادرة من الإخوة المغاربة لتجاوز التوتر، سنرحب بها بالتأكيد، وأظن أنهم يمكنهم إطلاق هذه المبادرة لإنهاء هذه المشاكل». وقال الرئيس تبون إن التوتر بين الجزائر والمغرب ما زال لفظيا، مضيفا «نرى أن الأشقاء المغاربة مروا إلى مرحلة أخرى، ونتمنّى أن تتوقف الأمور عند هذا الحد (..) صوت العقل كان دائما الأعلى في علاقات البلدين». ويثير الغرابة والدهشة قول الرئيس الجزائري ذلك عن مبادرة يطلقها المغاربة، فموضوعيا وخارج قراءة النيات والحسابات، وبعيدا عن الاحتكام إلى العواطف والمشاعر، قدّم المغرب مبادرة عملية منذ سنتين، وأرفقها باقتراحات وإجراءات عملية، وهي تنطوي على قدر كبير من الجدّية والحكمة. وردت في خطاب ملكي، وفي إطار إحياء مناسبةٍ لها رمزية قوية بالنسبة للمغاربة، علاوة على أنها جاءت على لسان الملك الذي هو، بموجب الدستور المغربي، الممثل الأسمى للدولة ورمز وحدة الأمة وضامن استقلال البلاد. مع ذلك، لم يهتم الرئيس الجزائري الجديد بأبعاد هذه المبادرة ودلالتها وغض الطرف عنها، في ما يشبه نوعا من التجاهل المتعمّد، والذي يمكن قراءته باعتباره عنادا راديكاليا، غرضه إضاعة مزيد من الوقت في المعارك الهامشية، والإصرار على إنهاك المغرب، والتشويش على أي مبادرةٍ يطلقها لصالح استقرار المنطقة وأمنها وسلامها. مؤكّد أن الوصول إلى تفاهمات وتوافقات بين دولتين أصيبت علاقتهما في مقتل يتطلب تنازلاتٍ متبادلة، ولو كانت رمزية، كما يستلزم إرادة سياسية صريحة، وقرارا جريئا وتاريخيا، مسنودا من مختلف المؤسسات والفاعلين، ويتمتع بحاضنة شعبية. وليس هناك شك في أن عرض الملك محمد السادس يمتلك كل هذه الخاصيات، إذ يدعو السلطات الجزائرية إلى طاولة الحوار لدراسة جميع القضايا المطروحة، بكل صراحة وموضوعية وصدق وحسن نية، وبأجندة مفتوحة، ومن دون شروط أو استثناءات. والتأكيد على أن مصالح الشعبين، الجزائري والمغربي، تكمن في الوحدة والتكامل والاندماج، من دون الحاجة لطرفٍ ثالث للتدخل أو الوساطة، يشكل منعطفا تاريخيا واستراتيجيا بكل المقاييس، وكان من الممكن لو تعاطت معه السلطات الجزائرية بشكل إيجابي وعملي، أن يحدث تحولا نوعيا وعميقا في المنطقة، بما في ذلك إعادة الروح إلى الاتحاد المغاربي، الذي، هو الآخر، يشكو من حالة الشلل، على غرار باقي الاتحادات في العالم العربي. ويبدو جليا أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وهو يقرّ صراحة بالتوتر الحاصل في العلاقات مع المغرب، ويظهر نوعا من التعقل والرزانة الممزوجيْن بتهديد مبطن، لا يملك سلطة القرار والقدرة على تنفيذه، لأن الأمر رهين بموافقة المؤسسة العسكرية وتزكيتها، أسوة بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي كرّس وضع الجمود وعمّق الجراح، وشجّع على إنتاج خطاب التوجس والتحامل في كل المناسبات والسياقات. من المسلّم به أن الأزمات تكون أكثر حدّة وتعقيدا بفعل التماس الجغرافي، والتداخل الثقافي والحضاري والاجتماعي، وبسبب ما يكرّسه هذا القرب من حذرٍ متبادل. ولكن إذا قمنا بعملية إحصائية بسيطة لعدد الأعوام التي انصرمت من دون تمكّن المغرب والجزائر من حل عقدة الماضي القريب، ندرك مستوى الخسارة التي طاولت كل المجالات. على الرغم من أن التاريخ المشترك وعامل الجغرافيا يفرضان حتمية الاختلاط والتمازج، وضرورة التعاون والتعاضد من أجل البناء الصلب للمستقبل. لقد أخلف المغرب والجزائر مواعيد كثيرة مع التاريخ، وأهدرا فرصا لا تعوّض لإطلاق مشاريع اقتصادية عملاقة، كان من شأنها أن تحقق طموحات الشعبين في التكامل والاندماج، وتخدم مصالحهما، وتنعش النشاط التجاري، وتحرّك عجلة الاستثمارات ورؤوس الأموال، بما يجعل من المنطقة المغاربية سوقا كبيرة تتمتع بكل عناصر الجذب والاستقطاب. غير أن ما يحدث على أرض الواقع ينقض، بصورة جذرية، كل هذه الأحلام والتطلعات والآمال المشروعة. عندما تحرّكت الآلة الدبلوماسية المغربية بشكل فعال وإيجابي للعب دور الوساطة في الأزمة الليبية، عبر احتضان منتجع بوزنيقة (قرب الرباط)، مشاورات برعاية الأممالمتحدة، بين طرفي الأزمة، مجلس النواب المتمركز في شرق البلاد، وهي المؤسسة التي تعتبر الذراع السياسية للواء المتقاعد المتمرد خليفة حفتر، والمجلس الأعلى للدولة المحسوب على حكومة الوفاق الوطني، حرص المغرب على الالتزام بالحياد الإيجابي، ولم يتقدم بأي مبادرة أو اقتراح، انطلاقا من قناعة راسخة بأن الحوار يجب أن يكون ليبيّاً، على الرغم من أنه ينتصر لاتفاق الصخيرات أساسا للبناء والمصالحة وحماية سيادة المؤسسات وهيبتها، ولم ينخرط في سياسة المحاور ومساندة طرفٍ ضد آخر، وهو اختيارٌ مكّن المغرب من فرض مصداقيته وجدّيته على طرفي الأزمة. وتوج هذه الوساطة بتوحيد الرؤى بخصوص المناصب السيادية التي تحددها المادة 15 من اتفاق الصخيرات (قرب الرباط)، المبرم عام 2015. وحظيت جهود الوساطة المغربية بإشادة فرقاء الأزمة الليبية والأممالمتحدة على حد سواء، وأطراف دولية وازنة، غير أن الجارة الجزائر لم تشعر بارتياح، وعبرت عن امتعاضها من الزحف الدبلوماسي المغربي على المستوى الإقليمي. ولم يُخف الرئيس عبد المجيد تبون انزعاجه من نتائج مشاورات بوزنيقة. وفي كلمته أخيرا، في مقر وزارة الدفاع، قال إن الحل الوحيد للأزمة الليبية يتمثل بتنظيم انتخابات تشريعية يشارك فيها كل الشعب الليبي، معتبرا أن أي مبادرة خارج هذا السياق هي مضيعة للوقت، وتساهم في تأزيم الأمور. وفسر هذا الموقف بأنه يهدف إلى التشويش على التفاهمات التي توصلت إليها أطراف الأزمة في المشاورات التي استضافها المغرب ورعاها، وهو ما جعل منه فاعلا محوريا في هذه الأزمة المعقدة وذات الامتداد الدولي، كما أن مخرجات هذه المشاورات أشعرت الجزائر ضمنيا بأنها خارج شتى مسارات التسوية لهذه الأزمة. وعكس موقفه السلبي من جهود الوساطة المغربية وتقزيمها، أشاد الرئيس تبون بدور تونس ومساعيها لحل الأزمة الليبية، في رسالة واضحة موجهة إلى المغرب. وحضرت النبرة الهجومية ذاتها بقوة، عندما تحدّث الرئيس الجزائري عن تطورات الأوضاع في مالي، حيث قال «لا توجد دولة في العالم تعرف مالي مثل الجزائر، نظرا للجوار بيننا». وأضاف أن الجزائر كانت دائما حاضرة في أزمات مالي، قبل أن يسمع أحد بوجود دولة مالي، ولا ترغب في أي سيطرة أو توسع إيديولوجي، في إشارة إلى الروابط الدينية والروحية التي تجمع بين المغرب والفرقاء الماليين. وهاجم تبون المغرب قائلا «إن دولة لا تجمعها حدود مع مالي عملت على تقزيم الدور الجزائري، بعد الاتفاق الذي وقع في الجزائر العاصمة، في وقت سابق، بخصوص إعادة إدماج شمال مالي مع جنوبها». وجاء هذا المنحى التصعيدي في كلام الرئيس الجزائري في أعقاب تحرك دبلوماسي مغربي لحلحلة الأزمة المالية، حيث زار وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين في الخارج، ناصر بوريطة، مالي، والتقى مع الرئيس الانتقالي ونائبه، وكذا مع الوزير الأول الانتقالي ومع زعماء دينيين يحظون بثقل رمزي. ويجد قلق الجزائر وانزعاجها من المغرب أسبابه كذلك في مبادرة حوالي عشر دول إفريقية لفتح تمثيليات دبلوماسية لها في العيون والداخلة، أكبر المدن في إقليم الصحراء المغربية، ما يشكل صفعة قوية لجبهة البوليساريو وإحراجا كبيرا للجزائر. وقد تزامن هذا الإنجاز الدبلوماسي مع تحول الرباط إلى قبلة لرؤساء الدبلوماسية في دول إفريقية قرّرت تأييد مغربية الصحراء، بعدما أخفقت الجزائر وجنوب إفريقيا في ثني هذه الدول عن التراجع عن قراراتها السيادية. نشر في موقع «العربي الجديد»