بطاقة: يعرف الكاتب والفيلسوف اللبناني علي حرب المعروف بآرائه النقدية الحرة والمثيرة للإعجاب، والمتميز بنصه الفكري الرشيق القائم على نوع من فن الكتابة، وقد أغنى حرب الحقل الفلسفي في موضوعات تردد كثيرون في ولوجها، وبرع بنقده مأزق الهوية وأوهام الحقيقة، انتقل جهده من البحث عن الحقيقة إلى نقد خطابها؛ إذ لا نستطيع الإمساك بها، وكتابته بقيت ابنة زمنها، ودائمًا تجدد منطلقاتها. هذا حوار أجرته معه مجلة «الفيصل» في بيروت وحاورته حول كتبه وقضايا أخرى.
ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري. في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.
p بعد عقود من الانغماس في الكتابة والمقاربات الفلسفية والفكرية إلى جانب أنك عشت تحولات الثقافة العالمية والأضداد والتناقضات والفتوحات والصدامات؛ كيف تقرأ شخصيتك الثقافية باختصار وموقعك في حقل الفلسفة، وما الذي لم تكتبه بعد؟ n فيما يخصّ شخصيتي، أشعر بأن هناك فجوة بين موقعي ككاتب، وبين مكانتي الاجتماعية أو السياسية. على هذا الصعيد أشعر أحيانًا، بأنني أضعف خلق الله؛ لكوني لا أرتبط أو ألوذ بجهة أو مؤسسة أو جماعة أو حزب أو حتى صحيفة. أما من حيث موقعي الفكري، فأنا، على العكس، أُمارس حضوري وأثري في المشهد الثقافي اللبناني والعربي، وربما خارجه، بالطبع ليس عبر علاقاتي أو منصبي، لكوني عاريًا من أي منصب ثقافي أو سواه، بل عبر أعمالي ونصوصي لا غير. وبات من النرجسية أن أعاود الحديث عن الأثر الذي تركته أعمالي. بدءًا من كتابي «التأويل والحقيقة» (1985م). ثم كتاب «النص والحقيقة» بأجزائه الثلاثة، وبالأخص «نقد النص» الذي اعتُمِد مقررًا دراسيًّا في جامعة باريس منذ عقدين، وما أعقب ذلك من كتب استُقبلت بوصفها طريقة جديدة في التفكير، أو أسلوبًا جديدًا في الكتابة الفلسفية، أو رؤية مختلفة إلى الأشياء والعالم. فالفلاسفة مشهورون بأنهم من عشاق الحقيقة وشهدائها. ثم أتى من يكتب عن «نقد الحقيقة»، فكان ذلك بمنزلة فتح أفق جديدة للتفكير والتنوير. وهكذا، فإن أعمالي شكلت إمكانًا للتفكير فُتحت معه أبواب جديدة بالمقاربة والمعالجة أمام النقاد والكتّاب والدارسين، فاعتمدوها مراجع في تحصيلهم، أو نسجوا على منوالها في كتاباتهم الفلسفية، أو استخدموا تقنياتها المنهجية في الدرس والتحليل، أو اقتبسوا منها أو نقلوا عنها أفكارًا وصيغًا استخدموها في مؤلفاتهم ومقالاتهم. p كيف تتعاطى الآن مع كتابك «أوهام النخبة» الذي كانت له أصداؤه الواسعة في الساحة الثقافية؟ n أما كتاب «أوهام النخبة» الذي رسخ لنقد المثقف، فيكفي أن أذكر هنا أنه بعد صدوره قال لي أحد المثقفين الذي أصبح صديقي: بعد قراءتي الكتاب خرجت على حزبي السياسي الفاشي. p كيف تقرأ في هذا السياق كتابات الفيلسوف سلافوي جيجك؟ n مؤخرًا سئل جيجك: ماذا نفعل في مواجهة الرأسمالية التي لا تتوقف عن التوسع والانتشار؟ أجاب: لست أدري، ثم أضاف علينا أن نقلب نظرية ماركس؛ لأن المطلوب ليس فهم العالم كما يفعل الفلاسفة، بل تغييره؛ أي العودة إلى موقف الفلاسفة. وعندما كان أحدنا يقول قبل عشرين عامًا، على وقع انهيار المشاريع الأيديولوجية للنخب الثقافية: إن النظريات والإستراتيجيات السائدة في فهم العالم وتغييره، قد فقدت مصداقيتها، وباتت بحاجة إلى التغيير، كان يُتهم صاحب الرأي بأنه بورجوازي ومعادٍ للتقدم. والآن يأتي جيجك ليتبنى هذا الرأي ويتخلى عن رأي ماركس بوصفه تعبيرًا عن موقف بورجوازي سابق. وهكذا فإن جيجك، عوضًا من أن يعيد النظر في أساس مشروعه، يعدّ كل ما هو رأسمالي خاطئًا، وكل ما هو اشتراكي صحيحًا، مثله في ذلك مثل الأصوليين الإسلاميين الذين يسطون على النظريات العلمية لنسبتها للقرآن الكريم. p يقول إدغار موران تعليقًا على مجزرة صحيفة شارلي إيبدو الساخرة، إنه يدين هذا الاعتداء، لكنه ليس مع مسّ المقدسات... n أنا أخالفه الرأي، فيما يخص العالم العربي؛ لأن الممارسات التقديسية هي علة العلل وأم المشاكل، كما تتجلى في عبادة الكتب والأشخاص والأسماء أو الأمكنة والأحجار. وللقداسة مفاعيلها السلبية، المدمرة والقاتلة أحيانًا، بقدر ما تقوم على حجب قوامه خلع صفات الألوهة والتعالي أو العظمة والإطلاق على ما هو عادي ونسبي ويومي ومتغير، وربما غير مقبول أو مشروع.... وهكذا من يُقدس شيئًا، إنما يسدل الستار على عقله بقدر ما يتعلق به تعلقًا أعمى. والحصيلة أن يقع ضحيته، أو أن يضحي بغيره، كما تشهد علاقة الناس بمطلقاتهم ومقدساتهم وطوطماتهم الدينية أو السياسية أو الثقافية. p ما رأيك في المقولات التي تتكرر في بعض الأفكار؟ n أعترف بأن هناك شيئًا من التكرار فيما أكتبه، أما فيما يخصّ ما لم أكتبه بعد، فأنا منذ سنوات أفكر في أن أكتب كتابًا يكون بمنزلة الجزء الثاني لكتابي «خطاب الهوية»، وبالطبع سوف يختلف الأمر، بعد أكثر من ثلاثين عامًا، بالأسلوب والمقاربة. المهم أن يكون منطلق الكتاب عن حياتي وسيرتي أو مسيرتي. ولكن مشاغل الدراسة والصحافة وقراءة المجريات والأحداث العاصفة، قد صرفتني عن ذلك. وأخشى ألّا يكون أمامي متّسع من العمر؛ لكي أنجز قصتي مع الحقيقة، من خلال التطرق إلى هويتي ومهنتي ومهمتي. p دائمًا تحاول أن تكون سجاليًّا انتقاديًّا، نجحت بقوة في كتابك «أوهام النخبة/ نقد المثقف»، وتابعت في مجالات أخرى، خصوصًا الأصوليات والأصنام الفكرية والأيديولوجية والداعشية؟ n ثمة كلام يتكرّر منذ زمن، بأنه لا وجود لسجالات خصبة على ساحات الفكر في العالم العربي. وكي لا أقول بأن هذا الكلام لا معنى له أو لا طائل من ورائه، أقول بأن ما يعنيني من المعارك الأدبية والسجالات الفكرية، التي تكون أحيانًا علنية وأحيانًا أخرى صامتة، هو أن أُحْسِن قراءة المجريات، وأن تفتح مقارباتي إمكانًا لتشخيص ما أتناوله من القضايا والمشكلات. p كيف تقيّم ما كتبته في السنوات الأخيرة؟ n ما كتبته في السنوات الأخيرة، حول مشكلات الساعة وحول التحديات المصيرية التي تواجه العرب، والعالم، أعطى مصداقية لما قدمته من الآراء والتحليلات. صحيح أن ما قلته لاقى معارضة شديدة من جانب المتشبثين بأطروحاتهم ومواقفهم، من أصحاب التيارات الأصولية، الدينية والعلمانية، القومية واليسارية، ممن يتعاملون مع شعاراتهم بعقل أمني، عسكري، شمولي. لكن ما كتبته أكّد صحة رهاناتي، سواء في تفسيري للظاهرة الأصولية بالعودة إلى جذورها الدينية، أو بقولي: إن أنظمة الاستبداد، شأنها شأن المشاريع الدينية، غير قابلة للإصلاح أو للمفاوضة والتسوية، وهذا ما كتبته عن المحادثات حول اليمن قبل شهور: إنها مضيعة للوقت. وهذا ما حصل؛ لأنه لا مساومة مع من يفكر بعقل طائفي، عنصري، فاشي. كذلك الأمر فيما يخصّ قراءتي لحرب تموز من خلال مقولتي عن النصر الخادع والمستحيل، بعد أن انخرط أهل التحرير في خوض حروب تفضي إلى تدمير غير بلد عربي، بدعم من إيران. هنا أيضًا، صحّ رهاني، حول طبيعة المشروع الإيراني الرامي إلى تفكيك دول المشرق العربي؛ لإعادة ترتيب أوضاعه السياسية والطائفية، كما كتبت منذ سنوات. أَصِلُ من هذه المرافعة، غير المحمودة، إلى قضية الساعة، بعد المذابح التي تعرضت لها فرنسا. فأنا من القائلين، منذ زمن، بأن فرنسا قد تراخت وتأخرت بمعالجتها للظاهرة الجهادية. وما حصل شاهد؛ إذ تحولت الجالية الإسلامية إلى حاضنة اجتماعية وثقافية لولادة الوحوش الإرهابية.