يكتسي سؤال المرجعية الفكرية و السياسية أهمية بالغة في تجربة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ليس فقط لان الرجل يعتبر واحد من رواد الفكر التحرري العالمي ولكن أيضا للتنازع الفكري والإيديولوجي بين مختلف التيارات السياسية والاستقطاب الحاد بين المنظمات والأحزاب السياسية والنخب المثقفة حول تبني التجربة ونسبها وتجييرها سياسيا وإيديولوجيا لصالحها. وينطبق ذلك على التيارات الأصولية المتأسلمة كما ينطبق على التوجهات القومجية العروبية وكذلك اليسارية الماركسية ومرد هذا الاسترزاق السياسي والاديولوجي على التجربة التحررية "لمولاي موحند" -التي نعيش هذه الأيام الذكرى الثانية و الخمسين لرحيله- إلى الإفلاس الإيديولوجي لهذه الحركات وعجزها عن بناء مشروع وطني مجتمعي حقيقي وواقعي ينبع من هوية هذا الوطن وتاريخه وثقافته وجغرافيته ولغته ويستجيب لطموحات إنسانه المادية والمعنوية بدون اجترار فكري وثقافي لتجارب الآخرين دون ان يعني ذلك عدم الانفتاح عن التجارب الإنسانية الأخرى والاستفادة منها. كما يعكس أيضا هذا الترامي الغير المشروع على تجربة حرب الريف التحررية والاستثمار السياسوي لرصيدها الكفاحي والنضالي ، مدى التخبط الفكري والاديولوجي لتلك الفصائل والتيارات وعدم قدرتها على قراءة هذه التجربة قراءة موضوعية محايدة منزهة عن اي هوى أيديولوجي و لم تستوعب كذلك ان البنيات الثقافية والدينية والاجتماعية التقليدية التي كانوا يرمونها بالرجعية والتخلف(بالنسبة لليسار الماركسي والتيار القومي العروبي) و"البدع الشركية" (بالنسبة للسلفية الوهابية وربيبتها الاخوانية) هي التي صنعت معجزة حرب الريف. هذه البنيات التي تشكل الهوية الامازيغية الريفية وعاءها التاريخي وإطارها الجغرافي وعمقها الاستراتيجي والبيئة الحاضنة لنهضة الخطابي التحررية وتفسر إلى حد كبير عظمة حرب التحرير والمقاومة الريفية وعبقريتها السياسية والعسكرية وهو الشيء الذي لم يستوعبه لا الماركسيين ولا الأصوليين ولا القومجيين، وراحت هذه التيارات تبحث في ملحمة "مولاي موحند" الأصيلة في فكرها والمتفردة في تجربتها ما يبرر ويتوافق مع توجهاتها الاديولوجية . وسنحاول في هذه المقالة نقد كل من تجربة اليسار الماركسي و بعض التوجهات القومجية و الأصولية الاسلاموية- النقد الذي نريده بناءا- في تمثلهما لثورة الريف التحررية في بعدها المرجعي وقيادتها السياسية والتنظيمية. وقبل تطرقنا في البداية إلى موقف ومقاربة اليسار الماركسي لثورة الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي لابد من استعراض موقف الماركسية لحركات التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار و قبل ذلك وضع هذا الاستعراض و النقد في سياقه التاريخي والفكري لتطور تجربة اليسار الماركسي. يعتقد البعض بسبب تأييد الاتحاد السوفيتي السابق لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث أن ماركس وإنجلز كانا يؤيدان حركات التحرير ويناهضان الاستعمار، ولكن القراءة المتمعنة لما كتبه هذان المفكران ستبين العكس تماماً، إذ يتضح أن رؤيتهما متمركزة حول الذات الغربية، بل و عنصرية. وهذا يعود إلى أسباب عديدة في مقدمتها جهلهما شبه التام بتاريخ الشرق وأفريقيا. وقد لخص المؤرخ الإنجليزي هوبزبوم معرفة ماركس وإنجلز بالتاريخ في الكلمات التالية: "لقد كانت سطحية تماماً حول مرحلة ما قبل التاريخ، وحول تاريخ أميركا ما قبل التاريخ وكانت معدومة تماماً حول أفريقيا. ولم تكن مبهرة حول الشرق الأوسط خلال العصور الوسطى أو القديمة، لكنها أفضل بكثير حول بعض أجزاء آسيا خاصة الهند، ولم تكن كذلك فيما يخص اليابان. وكانت جيدة حول فترة العصور القديمة والعصور الوسطى في أوربا. وقد نظر ماركس وإنجلز إلى التاريخ باعتباره حقباً متتابعة تتبع النظام نفسه في كل المجتمعات، وهما في هذا لا يختلفان كثيراً عن "أوغست كونت" أو أي مؤرخ برجوازي غربي آخر، حيث قسما التاريخ إلى حقب، وذهبا إلى أن الغرب وحده هو الذي سيصل إلى الحقبة الأخيرة (العلمية أو الاشتراكية) وأن على بقية العالم أن تلحق به.ولكل هذه الأسباب منح ماركس وإنجلز تاريخ الغرب مركزية مطلقة في تاريخ البشرية وجعلا منه النموذج الذي يجب أن يُحتذى.ولهذا كانا يشيران إلى أوْرَبَة أو "تغريب" بلدان الهند والصين، بدلاً من استخدام مصطلح "التصنيع"، فكأنهما جعلا من "التصنيع" مرادفا "للتغريب"، وبالتالي يكون توسع أوروبا فيما وراء البحار هو الآلية الأساسية للتحديث، أي أن الوضع الاستعماري هو الثمن الذي يجب دفعه لدخول العصر الصناعي، على اعتبار أن الاستعمار الغربي سيدخل النظام الرأسمالي إلى مجتمعات بدائية متخلفة تعيش في ظلال الدكتاتورية.وبالفعل رأى ماركس أن الشرق لن يصحو من غفلته وغبائه الموروث إلا من خلال الهيمنة والسيطرة الإمبريالية الغربية وإدخال الرأسمالية، وهذا يؤدي بدوره، طبقاً لنظرية الحقب التاريخية، إلى ظهور المجتمع الاشتراكي في نهاية الأمر. لكل هذا كان تأييد إنجلز للاستعمار الفرنسي في الجزائر وتأييد ماركس للغزو البريطاني للهند. وقد كان عصر ماركس وإنجلز هو عصر الحروب الاستعمارية العدوانية، وتجارة العبيد، والازدهار الكامل لنظام مزارع العبيد. لكنه كان أيضاً عصر المقاومة العنيفة من جانب الشعوب المستعمرة والمستعبدة. وهذا ما دفع بأحد ابرز المفكرين الثوريين في القرن العشرين فرانز فانون المدافع الشرس عن حقوق الشعوب المظلومة المضطهدة والمناصر للثورة الجزائرية والذي انضم إلى جبهة التحرير الوطني وكان محرراً في صحيفة «المجاهد» الناطقة باسم الجبهة رغم انه مواطن فرنسي الى نقد هذه الأطروحة ورفضها. فباعتباره جمع بين التنظير والممارسة من خلال مشاركته في حرب التحرير الشعبية بالجزائر،وجه نقدا لاذعا للعديد من يقينيات الماركسية اللينينية- رغم انه مفكر ماركسي- فمن خلال دراسته للبنيات الكولونيالية، تجاوز فانون ثنائية الاستعمار و الخاضعين للاستعمار، ورفض " الجدل" الذي اعتبر أن مرور دول العالم الثالث من الاستعمار ضرورة تاريخية لتحول مجتمعاتها نحو الحداثة والاشتراكية، فبالنسبة لفانون فان أحد هذين الطرفين زائد ويجب أن يزول. وهذا الزوال عليه أن يكون تاما و شاملا وبلا رجعة : " إن محو الاستعمار على أي مستوى درسناه هو إحلال نوع إنساني محل نوع إنساني آخر كليا شاملا مطلقا بلا مراحل انتقال" ويذهب فانون بعيدا في تحليله ليؤكد أنه لا وساطة بين طرفي العالم الكولونيالي، وأن الحدود الفاصلة بينهما هي الثكنات ومراكز الشرطة والدرك، لأن هذا العالم مطلوب منه أن يبقى منقسما إلى عالمين وإلا ما عاد عالما كولونيالي. وبعد انهيار الدولة السوفياتية ظهرت قراءات نقدية متعددة للفكر اليساري عامة، على المستويين الإيديولوجي والسياسي، وظهرت تنظيمات يسارية أطلقت على نفسها تسمية اليسار الجديد، وكانت هذه التيارات الجديدة قد اجتهدت لتقديم بعض الفروشات النظرية حتى تعطي لحركتها السياسية بعدا نظريا وإيديولوجيا يميزها عن التيارات اليمينية من جهة، وعن التيارات اليسارية التقليدية التي ظلت متمسكة بالنهج التقليدي من جهة ثانية، وهو ما أسهم في تأجيج المساجلات النقدية بين الطرفين، كما أن الأحداث العالمية كانت وما زالت تقتضي إعادة رسم خريطة اليسار العالمي من جديد، مع وضع تعريف جديد لليسار ولليمين، ذلك بأن الشيوعيين لم ينظروا بعين واحدة لهذا الحدث الكبير، فمنهم من هلل الهزيمة اللينينية، ونذكر منهم بقايا التروتسيكيين والماركسين ومغامرين جدد، كما اعتبره التروتسكيون الدليل العلمي على صواب التروتسكية، كما أن الأكثرية الساحقة في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني(مهد الماركسية العربية) رأت في الانهيار حدثا عاديا تعود أسبابه لمؤامرات حاكتها الإمبريالية وأن عودة الأمور إلى نصابها هي مسألة وقت، وهو ما اعتبره الدكتور علي مقلد في كراسته المعنونة ب"اليسار بين الأنقاض والإنقاذ" تجسيدا واضحا للجمود العقائدي والفكري الذي يقتل أي ابداع قد يطور من المنظومة الفكرية الماركسية فمع انهيار الاتحاد السوفياتي إذن انهارت منظومة القيم النضالية والمفاهيم المرتبطة بها، كما ادى انهيار المشروع الاشتراكي إلى انهيار مؤسساته الحزبية من ماركسية لينينية أو تروتسكية أو ماوية في حين وجدت الأحزاب الغير شيوعية مخرجا لغويا للأزمة، ففي نظرها أن الانهيار طال الحركة الشيوعية وحدها، ولم تنتبه إلى أن مرحلة التحرر الوطني، هي في جزء منها، سلسلة نجاح الثورة البلشفية وأغفلت أنها نسخة مشوهة عن التجربة السوفياتية بسبب تبنيها المركزية الديموقراطية وحكم الحزب الواحد والنظام الأوامري المخابراتي وكان من الطبيعي أن تنشأ على أنقاض اليسار المهجن، قوى أخرى تحمل راية النضال، ومنها أصوليات متعددة المنابع والمشارب وظفت الوعي الديني في خدمة مشروع التحرر الوطني الخالي من أي بعد اقتصادي أو اجتماعي، لا تملك مثل هذه الرؤيا التغييرية غير شعار "الدولة الإسلامية هي الحل"، على وزن الاشتراكية هي الحل، كما تزامن هذا الانهيار مع خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان واتفاقية الطائف، وللخروج من الأزمة ارتأى البعض ضرورة العودة إلى الماركسية لا إلى تأويلاتها السوفياتية وضرورة الانتقال من المركزية الديموقراطية إلى الديموقراطية في آليات العمل الحزبي، كما أفضت القراءة النقدية لدى معظم اليسار الشيوعي إلى التمسك بالاشتراكية نظريا، أي إدراجها في البرامج النضالية والتخلي عنها عمليا، وذلك بجعلها مجرد طموح بعيد المنال، واختزالها في شعارات العدالة الاجتماعية، كما تم سحب النقاش من حقل الفكر والسياسة إلى حقل التنظيم وتغليب المسؤوليات الشخصية على ما عداها من العوامل الموضوعية، مما أدى إلى انحراف النقاش عن مجراه السليم، وهو ما جعل الجواب عن الإشكالية مغلوطا بدوره.. وأخذ النقاش بصورة لا واعية، منحى تحميل الحزب مسؤولية أزمة الحركة الشيوعية العالمية، بعد حصره في قضايا الصيغة والتنظيم الى غير ذلك من النقاشات الغارقة في الشفوي والنظري وبعد هذا الإفلاس الفكري والاديولوجي وجد التيار الماركسي نفسه بدون افق فكري وسياسي وفي شرخ كبير مع القاعدة الشعبية والاجتماعية بل ومع الهوية الوطنية في كل أبعادها الحضارية والدينية والفكرية ودخل في نفق الأزمة مع الذات والواقع الثقافي والاجتماعي الذي ينتمي اليه وظهرت عليه أعراض الفصام الهوياتي ، و لعل الخطأ الكبير الذي ارتكبه الماركسيين المغاربة والقوى التقدمية عامة هو أن كل تراكماتهم النضالية وتضحياتهم على جميع الجبهات كانت تفتقد أبعاد الهوية الأمازيغية، وذلك لتبنيها " القومية العربية" كهوية ملتبسة ومتلبسة باليسار، مما فسح المجال للقرصنة الأصولية أن تستحوذ على كل شيء بعدمية فكرية ونضالية وخواء نظري مهول، وذلك عبر خدعة تبني المقدس وممارسة الأدوار السينمائية منه و به وعليه وفيه. بعد حلول ما يسمى ب " الربيع العربي". وقد بلغت فيه نخبة اليسار درجة التنظير للحركة القومجية العربية بأكملها فيما كان يسمى لديها ب" العالم العربي"، وأكبر مثال على ذلك نقدمه الدكتور الجابري في مشروعه " نقد العقل العربي"، ولهول المفارقة هو أنه لما سئل الجابري عن اللغة الأمازيغية وثقافتها أجاب:" بأنها مجرد لهجات وتقاليد بالية ستندثر بعد سنوات" بل الأدهى من ذلك سعى القومجيين إلى إقصاء ومحاربة الامازيغية لغة وهوية وتراثا وفكرا من منطلق أن الاستعمار قد حاول الركوب عليها أو استغلالها،كان هذا هو المنطق الذي تحرك به الديماغوجيون من قومجيين ومن أصوليين، ونسي هؤلاء أن ما يسمى بالقومية العربية نفسها ليست سوى نعرة حركتها المخابرات الإنجليزية الاستعمارية على يد روادها “لورنس العرب” و” مكماهون” من ضباط المخابرات الإنجليزية ، هؤلاء الذين خططوا لتأسيس دولة عربية كبرى في شبه الجزيرة سموها ب”السعودية” وذلك بدافع مواجهة وتجزئة وتقسيم الإمبراطورية العثمانية، وهو ما نجحت فيه حقا- وهو مسجل في التاريخ المعاصر- ونحن الأمازيغيون لم ندع يوما لمحاربة العروبة في بلدانها الأصلية من منطلق أن محركها هو الاستعمار البريطاني لضرب العثمانية والتركمانية، لأن ذلك لا يستقيم بمنهج علمي، إذ لا معنى لمحاربة قضية لها عدالتها وأصالتها بمبرر أن الاستعمار حركها أو حاول استغلالها، والأمر نفسه نقوله لليساريين الماركسيين والقومجيين فالهوية المغربية الامازيغية في بعدها الديني والثقافي والحضاري والاجتماعي واللغوي والبنية القبلية والسياسية للشعب المغربي الامازيغي الريفي وتكتلاتها وتحالفاتها وصراعاتها، كانت ومازالت مسألة موروثة ومن صميم تقاليدنا المغربية، وهي نفسها التي حاول الاستعمار استغلالها، لكنها هي نفسها من التفت على قيادات المقاومة والاستقلال من الشريف سيدي امحمد أمزيان، و محمد بن عبد الكريم الخطابي ، وموحا أوحمو الزاياني، وغيرهم من زعماء المقاومة، وفي شق القيادة السياسية لهذه المقاومة يجب التذكير بحقيقة مهمة وإستراتيجية في تاريخ المغرب المعاصر هو ان التفاف شيوخ القبائل على قيادات المقاومة لم يدفع أحد منهم الى التفريط في البيعة الشرعية، حتى حينما كانت قيادات المقاومة هذه وغيرها في عز قوتها، وكان السلطان الشرعي يعاني من إضعاف وحصار وهذا ليس تحريفا وتزويرا للتاريخ او جزءا من التاريخ الرسمي كما يعتبره البعض لطمس التاريخ الحقيقي، بل لان قيادات المقاومة، كانت تعلم أن القوة ليست في التسلح أو المال أو تحالفات القبائل، بل هي في نواة الوطن و الدولة وبنيتها التي لا يمكن استبدالها ولا المتاجرة فيها، وقد استشهد الشريف أمزيان برصاصة الغدر والبيعة الشرعية في عنقه، ثم جاء محمد بن عبد الكريم الخطابي خريج جامعة القرويين منطلقا من الهوية المغربية الريفية لمواجهة الاستعمار وحلفائه من الخونة، ولم يعتبر ذلك تقاليد بالية ورجعية حسب مذهب تقدميينا من ماركسيين وحداثيين، كما أنه لم يسقط البيعة الشرعية من عنقه للسلطان وهو في عز قوته وانتصاراته ضد الاستعمار، وقد حاول حينها عدد من خناسي العصر ، أن يطعنوا ويضربوا حركة الأمير الجهادية من الداخل وذلك عبر الوشاية للسلطان، كذبا وزورا، أن بن عبد الكريم قد أسقط البيعة من عنقه وشق عصا الطاعة، واصفين حركته الجهادية الوطنية العظمى للسلطان بأنها مجرد “حركة انفصالية وانقلابية وانشقاقية”، ولما أدرك الأمير الخطابي حجم المؤامرة كاتب السلطان بكتاب خطي وبيده مؤكدا بيعته الشرعية للسلطان الشرعي، وموضحا بأن ” الجمهورية الريفية” التي حاول خناسو العصر استغلالها بأنها تنظيم إداري لتدبير الكفاح والمقاومة في جهة الريف في ظل التقسيم الاستعماري للمغرب بين المنطقتين الخليفية الإسبانية والسلطانية الفرنسية، كما أكد الخطابي ذلك كتابة، مؤكدا أن تنظيمه هو تنظيم من داخل المملكة لا من خارجها، وهو في ظلها وليس بديلا عنها أو منافسا لها، وهو ما بينه الدكتور مصطفى الغديري في بحثه المعمق والموثق بتفصيل لمن أراد التوسع في الموضوع، وهو ما أكده ايضا الأمير الخطابي للسلطان محمد الخامس في لقائهما التاريخي بالقاهرة. وسيرا على نهج الشريف أمزيان في محاربته للدعي بوحمارة عمل الأمير الخطابي على محاربة الدعي الريسوني في منطقة جبالة، وتم اعتقاله واقتياده حتى أجدير، وهنا نتوقف لنجدد السؤال للرفاق الماركسيين الذين احتقروا المؤسسات الاجتماعية والتاريخية التقليدية للأمة المغربية : ألم ينتبهوا لهذه النماذج المقاومة والمستنيرة في علاقتها بالهوية المغربية، والممتدة من الشمال حتى الصحراء؟ والتي لم تكن تنظر إلى الموروث الثقافي المغربي تلك النظرة التي وسمها هؤلاء ب «التقاليد البالية والرجعية”، بل إنها كانت تنظر إلى الموروث المغربي تلك النظرة الاستراتيجية التي سماها “ريمون آرون” أستاذ علم الاجتماع في السوربون ب ” أبعاد الضمير التاريخي» المنبثق عن ذلك الوعي التاريخي الذي لم يستطع هؤلاء استيعابه واستنباطه وإدراكه الى يومنا هذا. ان نقدنا الموجه الى اليسار الماركسي فيما يتعلق بمقاربته وتمثله لتجربة الخطابي التحررية والنضالية هو نقد ذاتي بالدرجة الأولى وهو نقد بناء كذلك لأننا نؤمن بان الفكر الماركسي هو فكر بشري شكل تراكما معرفيا وإبداعيا في صيرورة تطور التجربة الإنسانية وتكاملها الحضاري والتاريخي والمشكلة ليست في الماركسية كفكر واجتهاد بشري له ما له وعليه ما عليه ولكن المشكلة في الذين حولوا الماركسية إلى عقيدة اديولوجية مغلقة ومتحجرة. كما ان نقدنا الى التوجه القومجي بالمغرب لا يعني أننا نعادي القومية العربية في موقعها وبيئتها الجغرافية والمجتمعية وفي قضاياها العادلة التي تناضل من اجلها هنالك. كما يجب التذكير انه عند دراسة البعد العالمي لحرب الريف سنقف على حقيقة صارخة الا وهي ان هذه التجربة ألهمت كثير من حركة التحرر العالمي بما فيها التي تتبنى الاديولوجية الماركسية او المتبناة من الاتحاد السوفياتي على الاقل من زعيم الثورة الصينية العظيمة "ماوتسي تونغ" الى القائد الثوري الكبير "شغي فارا" وكانت دائما المرجع والمدرسة التي تعلمت منها هذه الحركات الدروس والعبر في الكفاح مما يدل على ان الثورة الريفية شكلت تجربة قائمة بذاتها ونموذج فريد من نوعه . و بعد فشل التيارات التقدمية في استيعاب وفهم الإرث التحرري لنهضة محمد بن عبد الكريم الخطابي دخلت الساحة قوى جديدة حاولت اقتناص الفرصة للسيطرة على هذا الإرث ومصادرته لصالحها موظفة في ذلك الوعي الديني بعقلية عدمية لا تحمل أي مشروع مجتمعي او رؤية فكرية وسياسية، وهكذا حاول التوجه الأصولي في شقيه الوهابي السلفي والاخواني ان يؤسلم الحركة التحررية للخطابي بوسمها "بالإسلامية" بل ذهبت بعض الكتابات الأصولية الى اعتبار الزعيم الخطابي بأنه من المؤسسين الأوائل "للحركة الإسلامية" كما هو الشأن لكتابات الراحل عبد السلام ياسين وهنا لابد من توضيح حقيقة مهمة وخطيرة واستراتيجيه وهي ان حرب التحرير بالريف التي قادها الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي كانت حركة تحررية انطلقت من ضمير الأمة ووعيها ووجدانها في إطار الهوية المغربية الريفية بما تتضمنه هذه الهوية من إيمان بالقيم الدينية المتمثلة في الإسلام الإلهي الرباني الذي عرفه المغاربة والريفيين منذ أكثر من 12 قرن والذي أعطاهم الإحساس بالانتماء للدين الإسلامي السمح، وبرز فيه علماء وفقهاء دين ومجاهدين دافعوا باستماتة عن ارض وإنسان هذا الوطن وبالتالي فان الخطابي لم يكن في حاجة إلى تعبئة وتبليغ و دعوة جديدة للإسلام كما تفعل ذلك الحركات الأصولية التي ترفع شعار اسلمة المجتمع المغربي الذي عرف الإسلام منذ أكثر من 12 قرن. وهنا تكمن المفارقة ويتجلى التناقض الصارخ بين المدرسة المغربية بإسلامها المغربي الحضاري السمح الذي خرج علماء وفقهاء ومجاهدين وفلاسفة ومفكرين بلغوا بإبداعاتهم العالمية من يوسف بن تاشفين و”المهدي بن تومرت” و”القاضي عياض”، وقيادة معركة وادي المخازن المجيدة. ومن القادة العظام المعاصرون من الشريف سيدي امحمد أمزيان في مقاومته الباسلة خريج الزاوية الصوفية والكتاب القرآني، الذي لم يرتزق بالدين- كما يفعل المتأسلمين-، بل شمر على ساعديه للمتاجرة في البقر والبغال جالبا ذلك إلى مغنية وتلمسان في الجزائر، ليشتري بذلك لأبناء القبائل الكسوة والبنادق والبارود والرصاص الذي ستواجه به القبائل فيما بعد الاستعمار. وبالمقابل نجد الحركة الأصولية المتأسلمة التي تتهافت وترتزق على حركات التحرر الوطنية المغربية وتنسبها إليها زورا وبهتانا بادعائها أنها تشاركها في المرجعية "الإسلامية" نجدها في جوهرها حركات لا دينية لأننا إذا قمنا بإحصاء مبسط ومباشر لأعضائها فسنجدهم غير متخصصين في العلوم الدينية ولم ينتجوا طوال حياتهم كتبا علمية في المعرفة الدينية عل المستويات العقائدية والفقهية والكلامية والفلسفية والقانونية المقارنة ولم يبلغ احدهم درجة الاجتهاد والتبريز في المعرفة الدينية التي بلغها العلماء المغاربة من أمثال السادة الصدقيين والسادة الكتانيين والعلامة الورياغلي والعلامة الزتوني والعلامة عبد الله كنون والعلامة المختار السوسي...بل ان مشروع المهربين الدينيين المتاجرين بالدين قام أصلا على محاربة هؤلاء الذين يمثلون بحق المدرسة المغربية الشامخة في المعرفة الدينية المحكمة والإخلاص للمغربة والاعتزاز بالوطن وبتاريخه وبعلمائه الذين لم يرضوا قط من ان يجعلوا من الدين دكانا للارتزاق. هذه المدرسة التي يكفر بها هؤلاء المهربين الدينيين ويحاربونها عمليا وتنظيميا وذلك بالعمل الممنهج على تكفير وتبديع المنتوج الثقافي الوطني وترويج المنتوجات الثقافية الوهابية المهربة من المشرق وهو ما جعل الحضارة المغربية تنزلق من مستوى الأستاذية العالمية عبر رموزها العلمائية والنضالية والفكرية الى مستوى الجلوس على حصائر البداوة الخشنة ونخبها من أنصاف المتعلمين وشبه الأميين مما انعكس على الإنسان المغربي عامة والريفي خاصة الذي أضحى صيدا سهلا وبليدا أمام شبكات الإرهاب المتأسلمة في الداخل والخارج فتحول المغاربة والريفيين بالخصوص لوقود الإرهاب التكفيري الوهابي( سوريا-العراق- تورط 15 مغربيا في احداث 11مارس 2004 الإرهابية باسبانيا على ايدي منظرين سوريين: تيسير علوني وابو الدحداح وكذا تنفيذ اغتيال انتحاري ضد شاه مسعود في افغانستان من لدن مغاربة من بلجيكا-تورط المساوي من فرنسا والمزوطي ومنيرالمتصدق من ألمانيا في العمل الارهابي 11سبتمبر واغتيال فان كوخ في هولندا على يد مغربي...) فهذا التضخم المغربي في التورط في الإرهاب ليست ظاهرة طبيعية ويبين ان ثمة مخطط جهنمي يستهدف الهوية الدينية والحضارية للمغاربة ولم يكن ذلك ليقع بهذه السهولة لولا العمل الدءوب الذي يقوم به المهربين الدنيين في غسل المواطن المغربي من ثقافته وانتمائه التاريخي والدفع به الى الكفر بهويته الدينية. ولنا هنا أن نتساءل مع هؤلاء المتأسلمين الذين يدعون تقاسم المرجعية "الإسلامية" مع محمد بن عبد الكريم الخطابي اين اوجه هذا التقاطع والتقاسم على مستوى التمثل الفكري والسلوكي؟ اين يلتقي إسلام أجداننا الرفيين الذين حاربوا الاستعمار ودافعوا بكل تفاني وإخلاص عن كرامتهم وهويتهم وهم يتمثلون الإسلام الإلهي الرباني الأصيل في تمثله التاريخي والاجتماعي المغربي الذي ينطلق من الفطرة التي فطر الله الناس عليها بما تعني هذه الفطرة من رفض لكل أشكال الظلم والهوان الذي مارسته الأجهزة الاستعمارية مع ما تدعونهم انتم من عقائد وهابية خرافية تكفيرية يلقنها المهربون الدينيون للناشئة الريفية والمغربية عامة تحت شعار "مدارس التعليم العتيق" "والمدارس القرانية" ويغسلون أدمغتهم ويرسلونهم للانفجار في سورياوالعراق وأفغانستان.. بتمويل خليجي وفتاوى من القرضاوي..أهذا هو إسلام المجاهدين الريفيين و قائدهم الأممي خريج جامعة القرويين العالمية الذي ألهم زعماء حركات التحرر العالمي من زعيم الثورة الصينية العظيمة "ماوتسي تونغ" الى المناضل الثوري الكبير "كيفارا" "الى هوشي مينه"... ؟