فرضت جائحة «كورونا»، ومن دون إشعار مسبق، قرار حظر التجول على الفنانين التشكيليين، ما جعلهم يغلقون أبواب بيوتهم ومحترفاتهم عليهم طواعية وكرها، ويلتحقون بالعالم الافتراضي كرواق بديل للمشاركة عبر الملصق أو التصوير، إسهاما في التحسيس بخطورة الجائحة . اختلف الفنانون التشكيليون في أمر هاته العزلة الإنسانية المضروبة عليهم، هل يمكن اعتبارها فترة انكفاء على الذات في البعد الديني والبعد الروحي، أم شد خناق على حرية البدن والنفس، أم مناسبة لإطلاق العنان للفكر والخيال والإبداع وإعادة ترتيب أوراقهم والتزاماتهم والتأقلم مع الوافد الجديد.. من خلال منجز تعبيري يوثق لهواجسهم وقلقهم وتوترهم وتجاربهم اليومية، ينفذون بعضها بما لديهم من مواد وأخرى بواسطة الفن الرقمي. نحاور اليوم الفنان ابراهيم الحَيْسن فنان وناقد تشكيلي من مواليد الطَّنْطَانْ، 1967. كاتب عام اتحاد كتاب المغرب- فرع العيون. باحث في التراث الأدبي والجمالي الصحراوي. رئيس تحرير مجلة «ثقافة الصحراء» (فصلية متخصصة). مفتش جهوي تخصصي- مادة التربية التشكيلية/ جهات الصحراء. – حاصل على جائزة الشارقة في البحث النقدي التشكيلي بالشارقة ( إ. ع. م.) ثلاث مرات أعوام 2009، 2010 و2017. – حاصل على جائزة المغرب للكتاب – صنف الدراسات الأدبية والفنية واللغوية (دورة 2019) عن دراسة بعنوان «الكاريكاتير في المغرب- السخرية على محك الممنوع.
ماذا عن وباء كورونا؟ وكيف اشتغلتم في ظل هذه الجائحة التي أربكت العالم بأسره؟ في الواقع أن هذه الجائحة الوبائية التي شغلت العالم برمته والتدابير الوقائية والاحترازية التي جُنِّدَت لتجاوزها، علمتنا أشياء كثيرة لم نكن نعرها أي اهتمام في السابق، وجعلتنا نغيِّر سلوكاتنا تُجاه أنفسنا وتجاه الآخر، وننتبه إلى تفاصيل حياتنا اليومية وهي كثيرة ومعقدة..جعلتنا الجائحة ندبر اليومي ونتصالح مع ذواتنا وأمكنتنا الخاصة والحميمية، وخلقت لدينا نوعاً من الدفء الأسري الذي أجهضته وطأة العيش اليومي، بإيعاز من تكنولوجيا كاسحة وعدائية خرَّبت الترابط والتواصل الاجتماعي، وكرَّست بدلاً عن ذلك التفكك والتشظي والانعزالية غير المبرَّرة في الكثير من الأحيان. من الناحية الإبداعية، تركز اشتغالي على الكتابة وإتمام أبحاث مؤجلة تهم مجال النقد التشكيلي والبصري، من جملتها دراسة بعنوان «شعرية الأثر في الفن التشكيلي المغربي» حظيت بدعم وزارة الثقافة وسترى النُّور أيام بعد الجائحة إن شاء الله. مع الشروع في إنجاز عمل تشكيلي بالمناسبة استخدمت فيه الأثر والمحو وكولاجات والذي سيقدَّم ضمن معرض تشكيلي جماعي سينظم لاحقاً في الرباط وطنجة. ماهي ميزة هذا العمل الفني؟ وما هي خصائص تجربتكم الفنية الحالية بشكل عام؟ العمل الفني الذي أنجزته خلال فترة الحجر الصحي له موضوع خاص وظرفي يتعلق بتفاعلي مع الجائحة ونتائجها المرعبة، غير أنه لا ينفصل عن أسلوب اشتغالي الراهن الموسوم الاهتمام بالأثر المترحل كتيمة إبداعية محورية دامت عدة أشهر، ولا يمكن التخلص منها سوى بشكل تدريجي يمهد للانخراط في تجربة صباغية أخرى ممتدة، لكنها ستظل بالتأكيد شديدة الارتباط بثقافة الصحراء وتقاليد الرحل. بمعنى آخر، أن اللوحات المنجزة خلال هذه التجربة تظل تمتحُ خاصيتها الإبداعية من التراث الثقافي والجمالي في الصحراء، من خلال إيقاع خطوات الإبل ودقات أوتاد الخيمة وحركات الكثبان الرملية وأصوات الرِّياح، وكذا الصبغات البادية في الرداء واللباس التقليدي، لاسيما ملاحف النساء الصحراويات بألوانها البهية والمعبِّرة، فضلاً عن الرموز والعلامات المختزلة والشكول التجريدية المعتمدة في تنميق المشغولات اليدوية المحلية.. كفنان تشكيلي وناقد، هل تعتبرون فترة الحجر مناسبة للإبداع والبحث عن الجديد؟ وما هي رسالتكم للفنانين والشباب المبدعين خلال هذه الجائحة؟ برأيي الخاص، على المبدع أينما وجد أن يتكيف مع مختلف الظروف والفترات التي تصادفه أو تفاجئه وأن يرفع التحدِّي بجعلها فرصة مغايرة للإنتاج حتى وإن امتزج ذلك مع الخوف والهلع الذي يتسبب فيه هذا الظرف أو ذاك. وعليه، ينبغي -سواء للفنانين الشباب أو غيرهم- أن لا يتركوا هذه الظرفية تمر دون ترك أثر بتوثيقها تعبيريّاً وجماليّاً وتخليدها بأدوات إبداعهم الموجودة والمتوفرة.. هل تتوقعون انتعاشة إبداعية بنكهة خاصة في مجال الفنون التشكيلية ما بعد كورونا؟ ربما، ومن غير المستبعد، أننا سنشهد عقب الجائحة ظهور مجموعة من الإبداعات الفنية وحتى الأدبية التي ستعرض هنا وهناك، ولي اليقين أن مجموعة من الفنانين والكتاب يشتغلون خلال هذه الفترة، ليس فقط بملء الفراغ ومقاومة الروتين ولكن بتوثيق هذه المرحلة التي يمتزج فيها الإبداع بالهلع والرعب والارتكان القسري بالبيت، والأكيد أننا سنشهد معارض تشكيلية وإبداعات في الصورة والفيديو والمجسَّمات الفنية، إلى جانب إبداعات مسرحية وسينمائية وأغاني موسيقية ونصوص شعرية وسرديات قصيرة وطويلة قد تصنف ضمن أدب جديد وخاص على غرار أدب السجون وأدب المقاومة مثلاً. جلُّ هذه الإبداعات المتوقعة رافق إنجازها تسجيلات بالصوت والصورة بث البعض منها على مواقع التواصل الاجتماعي والبعض الآخر دار بين الأصدقاء والمجموعات الخاصة على سبيل التقاسم والتفاعل.. إلى أي حد صمد الفن ضد جائحة كورونا؟ وهل أظهر الفنانون بالفعل فعالية الفن وقدرته على تخطي مثل هذه الظروف الصعبة والمخيفة؟ لقد شكل الفن على مَرِّ السنين سلاحاً لا يُستهان بقوَّته وتأثيره وأداة للتعبير والمقاومة وتطهير النفس وتنقيتها من الشوائب، أو «الكاتارسيس» في المأساة من منظور أرسطو، مثلما هو وسيلة لتجاوز المحن والانتصار على النكبات وهزمها، سواء تعلق الأمر بالموسيقى والرقص، أو الرسم والنحت والتعبير الجسدي، فضلاً عن السينما والمسرح إلى غير ذلك من التعبيرات الفنية والجمالية ذات البعد الإنساني. بل إنه، في الكثير من الأحيان، يكون الفن وسيلة للتغلب على المرض والانتصار عليه بجمالية مستلهمة من عمق الألم والوجع. وفي ظل هذه الجائحة التي أفزعت الناس في كل مكان وفرضت حالات السكون والعزل والتباعد الاجتماعي، في ظل ذلك تضاعفت الجهود الطبية والبحثية والأمنية للحد من خطورة هذا الوباء الفتاك، وقد صاحبتها تعبيرات فنية (أشعار، موسيقى، رقص..) من عمق المشافي وكذلك بداخل الإقامات والمجمعات السكنية حيث يلتزم الناس بالحجر الصحي الذي فرضته السلطات خوفاً عليهم وحماية لهم من التناقل والانتشار السريع والمخيف لهذا الفيروس الخطير والقاتل. وقد بدت هذه التعبيرات الفنية قويِّة ومؤثرة رامت التخفيف من مشاعر الرعب والوجع التي ملأت وجدان الناس. اختلف الفنانون التشكيليون في مسألة الدعم المخصص من قبل المؤسسة الوطنية للمتاحف (والمقدر ب600 8مليون سنتيم) للفنانين التشكيليين. وقد أثارت مسألة الدعم هاته ردود أفعال متضاربة وإشكالا كبيرا، أين أنتم من هذا؟ مهما يكن من أمر، ورغم ما حصل من تضارب وجدل حول المسألة التي أعلن عنها بداية ك»دعم استثنائي» وفي ما بعد ك»منافسة حول اقتناء أعمال فنية» إلى جانب انسحاب أحد أعضاء اللجنة، فلا يمكن إلا أن نثمن هذه «الالتفاتة» التي ستستفيد منها –لامحالة- فئة واسعة من الفنانين المغاربة شريطة استحضار ظروفهم الاجتماعية والمادية دون عزلها طبعا عن المعايير الإبداعية، أي تقييم تجارب الفنانين ومساراتهم الفنية بمصداقية وبكل تجرد مع مراعاة تنوع الأساليب والأجناس التعبيرية وكذا الأجيال التي ينتمون إليها ضمانا للتعدد والاستمرارية الإبداعية المفترضة. مع ملاحظة، تتعلق بأهمية تعزيز لجنة التقييم والانتقاء بنقاد وباحثين في الجماليات المعاصرة وهم موجودون في المغرب ويشتغلون بوتيرة جيدة ولهم إصدارات وإسهامات مؤثرة في الحقل الفني والبصري. كلمة أخيرة: نتمنى أن يتطهر الحقل التشكيلي والبصري في المغرب من الشوائب التي لا تزال تعتريه على عدة مستويات، وأن يتضاعف الاهتمام بالفنانين الشباب الذين أثبتوا قدراتهم الإبداعية في عدة مناسبات وفرضوا إبداعاتهم وإنتاجاتهم التشكيلية داخل وخارج بلدهم، لذلك هم جديرون بالرعاية والاهتمام.