إن الثورات الشعبية التي عرفتها بعض دول العالم الإسلامي أفرزت نقاشات واسعة في الظرف الراهن حول أنظمة الحكم في بلدانها و ما يعتريها من فساد أرجعها الكثيرون إلى عدم تطبيق الديمقراطية في أنظمة حكمها. وكانت الديمقراطية التي ادعاها حكام العرب طيلة عقود من الزمن بعيدة المنال و باتت دون أن تعرف طريقا إلى التحقيق , إلا انه من الأكيد في الأمر أن هذه الثورات أفرزت عكس ما يدعيه الحكام و يتعلق الأمر ببروز تيارات مذهبية بمختلف التجليات تنتسب إلى الإسلام. و اختارت تنظيماتها المسلحة أسلوب الحرب و الاقتتال. تارة بعضها لبعض و تارة أخرى مع الأنظمة الحاكمة. ويبدو مما لا شك فيه ظاهريا إن ما يجمعها هو السعي لإقامة أنظمة إسلامية تتبنى الخلافة التي انتهت مع العثمانيين. أما الخائضون في هذا الموضوع فإنهم يتكلمون فيه بقصور مبالغ فيه وتصور الحقائق حكما على المذاهب المعاصرة و ينكرون الديمقراطية جملة وتفصيلا. ومنهم من يعتبرونها كفرا بإطلاق ومخالفة للشريعة الإسلامية. وهذا التصور ينبني على عدم الفهم للديمقراطية وسوء الفهم لأحكام الشريعة الإسلامية. ذلك أن الديمقراطية الحقة ترتكز على مبادئ و أحكام من صميم الشريعة كمبدأ اختيار الناس لحكامهم عند المقدرة و محاسبة المسؤولين و إرساء قواعد الشورى والمسؤولية في جميع الأمور الدنيوية و إقامة العدل و المساواة في الحقوق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و احترام كرامة الإنسان و حريته باعتباره أفضل المخلوقات و محور الحقوق الكونية في ماله و عرضه و نفسه , وهذا التفاضل جاءت به الآية القرآنية 70 من سورة الإسراء (( وكرمنا بني ادم و حملناهم في البر و البحر و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا.)) , و هذه الآية تفيد أن الإنسان هو المحور الذي ترتكز عليه الشريعة و تسعى لرقيه و إسعاده و مراعاة مصالحه و بصفة عامة درء كل مفسدة و جلب المصلحة , وهذه الأهداف و الفضائل لا تختلف فيها الديمقراطية عن الشريعة الإسلامية السمحاء . أما بالنسبة لنمط الحكم في الإسلام. فإنه مبني على الشورى في الأمور الدينية و الدنيوية, و هو ما أشارت إليه الآية 109 من سورة آل عمران بقوله تعالى: ((و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك , و اعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.)) و الخطاب هنا موجه للنبي (ص) اثر هزيمة المسلمين في غزوة احد بسبب خداع المنافقين لعنهم الله أينما وجدوا. و جاء الخطاب أيضا للثناء على الرسول (ص) و التخفيف عليه من اثر الصدمة بقوله : لو كنت يا محمد جافي الطبع قاسي القلب و تعاملت معهم بالغلطة و الجفاء لتفرقوا عليك و نفروا منك و أمر بالتجاوز عما نال المسلمين من الأذى و اطلب لهم المغفرة من الله رغم ذلك و شاورهم في جميع أمورك ليقتدى بك الناس , وهو ما جاء على لسان الشيخ الحسن البصري ( من شاور قوم قط إلا هدوا و لا رشد أمورهم.). أما الذين أصروا على مواصلة الجهاد رغم ما أصابهم من القروح و الجروح فقد جاء في حقهم (( و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.)) و في نفس السياق المتعلق بالشورى جاءت الآية 28 من سورة الشورى لتدعو المسلمين إلى التشاور في جميع الأمور و بدون استعجال و لا يبرموا أي أمر من مهمات الدنيا و الدين إلا بعد التشاور في شأنها بقوله سبحانه : (( و الذين استجابوا لربهم و أقاموا الصلاة و أمرهم شورى بينهم و مما رزقناهم ينفقون, و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون .)). و هذا ما كان عليه الرسول (ص) حيث يكثر من التشاور مع أصحابه في جميع الأمور الدنيوية و الدينية و سار على نهجه الخلفاء الراشدون المهد يون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .لذلك كان اختيار ولاة الأمور في الديار الإسلامية يتم عن طريق التشاور بين أهل الحل و العقد و يتعلق الأمر بالعلماء و الأئمة الموثوق في صحة عقيدتهم و الصدق في أقوالهم و أفعالهم و فقههم وعلمهم بالأحكام التي جاء بها القران و السنة و الآثار و الفقه و بهم تتم البيعة لأولي الأمر و اختيارهم لتولية شؤون البلاد و العباد دينية كانت أم دنيوية, لما فيه صلاح الأمة, و لا يتولى هذه المسؤولية إلا من كان أهلا لها لتحقيق الاستقرار و الأمن و الطمأنينة و إقامة العدل و يعتمد في الحكم على مبادئ الشريعة الإسلامية الوسطية مع فتح باب الاجتهاد و الاستصحاب و الاستحسان و القياس كلما تطلب الأمر ذلك, لأن الدين قابل للمرونة و التطور يصلح لكل زمان و مكان دون المساس بالثوابت التي وردت في شأنها أحكام شرعية قطعية و المتعلقة أساسا باركان الإسلام و الإيمان و الإحسان و الحلال و الحرام و ستأتي التفاصيل الخاصة بالاجتهاد و التطور في شأنها.هذا و خلافا لما يعتقد البعض بأن الإسلام دين لا يقبل المرونة في الثوابت و الفروع و هم دعاة الجمود و التزمت و التكفير و التعصب, و يتعلق الأمر بالأساس بما يسمى بالسلفية الجهادية التابعة لجماعة إخوان المسلمين و غيرها. و الجدير بالذكر أن هذه الجماعات أعدت مشروعا من شأنه نظريا أن يساعدها على تجاوز الجمود المذهبي و خلق نوع من المرونة بين مختلف المذاهب الثمانية التي ركز عليها المشروع و هي المالكي , الشافعي , الحنفي , الحنبلي , الجعفري , الزيدي , الاباضي و الظاهري والتي تسعى من خلاله إلى توحيد المرجعية الفقهية حتى من دون إعلانه و كذلك لضبط الحقل الديني الذي يتضمن إنشاء مؤسسة دينية تحتكر المشروعية و تعتبر كل خارج عنها خروج عن الإجماع و الأمة, بمعنى انه لم يعد مسموحا لأي احد بالانفراد باجتهاد خاص مهما كانت مرتبته العلمية ما لم ينتمي للمؤسسة. وهذا التوجه يعتبر بالنسبة لتلك الجماعات انفتاحا داخل المذهب الوهابي و يتم انتشاره في العالم العربي الإسلامي للوصول إلى السلطة قصد الحكم لوحدها , و أخيرا لم تتمكن الأحزاب المنبثقة عنها من الوصول إلى الحكم إلا بسبب حراك الشارع العربي الذي مهد لها الطريق و جعل دخولها إلى السلطة أمرا ميسورا بعدما عجزت طيلة عقود, رغم ما وضعت من برامج و استراتيجيات متكاملة لاختراق المؤسسة العسكرية كما حصل في السودان و جزئيا في الجزائر و بعدها جاء فوز حزب النهضة في تونس و الإخوان في مصر و العدالة و التنمية في المغرب, و لكنها لم تكن تضع في حسبانها الرأي العام داخل البلد الذي تسعى إلى حكمه , وهذا ما أفرزته الثورات الشعبية, لا سيما في تلك التي أسقطت فيها الأنظمة الحاكمة و بات النظام في سوريا يصارع الهوان و هذا الوضع الذي تعاني منه بعض البلدان في المشرق العربي و ليبيا لا محالة . وقد كشف القناع عن هوية الجماعات و الأحزاب التي تنتسب للمرجعية الدينية و كذلك البرامج التي تسعى إلى تحقيقها باسم الدين التي تتنافى مع مبادئه التي تتبنى على الشورى و التشاور, الأمر الذي يعرض شعوب تلك البلدان للهلاك و الدمار بذنوبها و بأساليب بشعة و لا إنسانية لم يسبق للاستعمار الذي لم تساهم في مقاومته إن قام بها , أما بالنسبة للديمقراطية كنمط حضاري للحكم فلا يختلف في مرتكزاته عن الاجتهاد و التطور الذي يدعو إليه الإسلام, بل من صميم توجهاته الخاصة بفروعه حيت يتم تطبيقها دون الخروج عن الثوابت غير القابلة للتغيير التي تمت الإشارة إليها و لا بأس من التذكير بها لما لها من أهمية, سواء ما يتعلق بأحوال الدين و السنة المنصوص عليها في الكتاب و السنة كأركان كل من الإسلام و الإيمان و الإحسان و ما يتعلق بالمعاملات و الأعمال الصالحة و كذلك تحليل حرام أو تحريم حلال . وهكذا فالديمقراطية تعني حكم الشعب بواسطة ممثليه الحقيقيين لتدبير الشأن العام المتعلق بهم ,حيث يتم اختيارهم بواسطة انتخابات حرة نزيهة تسفر عنها مؤسسات تعكس إرادة الشعوب لا يشوبها شوائب أو التأثير عليها إما بالتزوير أو استعمال المال كما هو معمول به في البلدان التي تحترم حرية الإنسان و كرامته غربية كانت أم شرقية يسودها العدل و الأمن و الاستقرار, خلافا لما اعتادته الأنظمة في الدول العربية الإسلامية لا فرق بين التي تعرف شعارا للشورى أو الديمقراطية في الحكم .ومما لا يدع مجالا للشك فإن الديمقراطية لم تكن نتاج المفكرين الغربيين من هوبس أو مونتسكيو الداعي إلى فصل السلط و غيرهم خلافا لما يدعيه البعض بل هي مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى احترام كرامة الإنسان و حقوقه و تولية الأمور من طرف أهل الصلاح و الفلاح , لأن الأمة لا تجتمع على ضلال . و حتى الجماعات و الأحزاب ذات المرجعية الدينية , فقد تبوأت سدة الحكم عن طريق الانتخابات و التحالف مع الأحزاب التي تخالفهم المرجعية كما هو الشأن في تونس و المغرب . هذا و قبل التطرق إلى العلاقة بين الشورى و الديمقراطية أشير إلى أن الإسلام هو ما كان يدعو إليه الرسل و الأنبياء و هو ما وصى به إبراهيم و نوح عليهما السلام و إخوتهم من الرسل و الأنبياء و كلهم يدعون إلى التوحيد و جاءت كثرتهم لكثرة الأقوام في مختلف الأزمنة و الأمكنة , و سبب الخلاف في عددهم يرجع إلى ما جاء في القران من ذكر البعض و من لم يقع ذكرهم ((منهم من قصصنا ومنهم ما لم نقصص عليك )) و الخطاب موجه لرسولنا الصادق المهدي محمد (ص) . هذا و كل من امن بما جاء به الأنبياء و الرسل فهو مسلم إلى أن نزلت الرسالة المحمدية و ختمت جميع الرسالات الإلهية و جاءت للإنسانية جمعاء, أنسهم و جنهم فأصبح الدين الإسلامي هو الوحيد الذي يجب اعتناقه مصداقا لقوله تعالى في سورة آل عمران :(( إن الدين عند الله الإسلام .)) , ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه .). لهذا, فإن الدين الإسلامي جاء بشريعة وسطية جامعت بين الثبات و المرونة (التطور) حيث ربط العلاقة بينهما كما صور ذلك أحسن تصوير , المفكر الإسلامي الكبير محمد إقبال حين يقول ( إن القرآن الذي يعتبر الكون متغيرا لا يمكن أن يكون خصما لفكرة التطور) و هو ما يطلق عليه المتغيرات , أي الأمور القابلة للتجديد و التطور و هو ما أشار إليه ابن القيم بتصنيف الأحكام إلى صنفين و يتعلق الأول بالثابت كوجوب الواجبات لا تقبل الاجتهاد لوجود حكم شرعي قطعي في القرآن, و يعني أن لا اجتهاد مع وجود النص , و الثاني يتغير بحسب اقتضاء المصلحة و هي التي لخصها القرضاوي باعتباره اكبر منظري جماعة الإخوان المسلمين, حيث ظهر صيته مع بروز قناة الجزيرة القطرية بقوله ( إن الثبات على الأهداف و الغايات و المرونة في الأساليب و الوسائل و يعني الثبات على الأصول و الكليات و المرونة في الفروع و الجزئيات أي الثبات على القيم الدينية و الأخلاقية و المرونة في الشؤون الدنيوية و العلمية .و تعتبر المرونة من مصادر التشريع كالقياس و الاستحسان و الاستصحاب . أما الاجتهاد فيدل على المرونة وهو التطور و يعتبر الرأي المستنبط أو الرأي بعد إمعان النظر و طول التدبر و الأمة الإسلامية في حاجة دائما إلى المجتهدين فيما لم يرد فيه النص . أما العلامة محمد الشرقاوي فيقول أن الإسلام يقرر مسايرة لحاجات الناس , يجب أن يستمر التفكير فيه و التقليب لقواعده و فروعه مع المحافظة على أصوله حتى لا يخرج عن مسايرة التطور و لا ينحرف عن مصالح الناس أو يتعارض معها , و هو أيضا ما جاء عن الماوردي بقوله ( الذي تضمنه كتاب الله من أحكام تشتمل على خمسمائة آية و الذي تضمنته السنة نحو خمسمائة حديث و توازي الأحكام أكثر من أن تحضى و لا تقف على هذا العدد فكان الاجتهاد لازما ). و قد مارس الرسول (ص) عملية الاجتهاد و مارسه أصحابه في حضرته و في غيبته و اقرهم (ص) و لو أن الرسول لم يمارسه لامتنع الصحابة الكرام من ممارسته و هو الذي فتح باب الاجتهاد لإنارة السبيل لأصحابه و أعطاهم الضوء الأخضر لمسايرة تطور الأمم و الشعوب , و هكذا فإن حرية الاجتهاد هي التي جعلت الشريعة لا تمنع الديمقراطية و الشورى في وقتنا الراهن بالنسبة للحكام الذين يختارون من طرف شعوبهم في حكم بلدانهم , وكانت الأنظمة السياسية الحاكمة إلا قليلا منها يتبؤون الحكم إما بالانقلاب أو ثورات شعبية , أما بالنسبة للمغرب فقد فتح باب النقاش على مصراعيه من جديد حول نظام الحكم, حيث يعتقد البعض أن النظام الأصلح هو أن يتحول النظام الملكي من ملكية دستورية يسود و يحكم إلى ملكية دستورية برلمانية تحدد اختصاصات مؤسسات الدولة , و بالفعل خلص الأمر إلى دستور جديد سنة 2011 و سن منهجية ديمقراطية و وسع من صلاحيات رئيس الحكومة و البرلمان و ربط المسؤولية بالمحاسبة الخ, و تم التصويت عليه بالإجماع من طرف جميع أحزاب المشهد السياسي إلا أن المنهجية المنصوص عليها فقد استفاد منها الحزب الإسلامي العدالة و التنمية و الذي تمت الإشارة إليه في إطار المشروع المعتمد من طرف الجماعات الإسلامية و أحزابها و على رأسها جماعة الإخوان المسلمين بمصر , وهذه المنهجية لم تتوفر عليها حكومة التناوب التوافقي التي يرأسها الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي سنة 2002 بصفته الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي آنذاك رغم تبوء الحزب المرتبة الأولى في مقاعد البرلمان و لم يسعف حظ الشعب المغربي أن تواصل هاته الحكومة مشروعها الديمقراطي الحداثي المتفتح و الذي أسس لمرحلة جديدة من الانجازات في مختلف المجالات ,وكان رد فعل الاتحاد الاشتراكي هو بلاغ المكتب السياسي الذي كان واضحا و واقعيا من الناحية السياسية, و الذي يفيد أن لا مناص للخروج من المنهجية الديمقراطية رغم عدم التنصيص عليها في جميع دساتير المملكة من دستور 1962- 1970- 1971- 1984- 1992- 1996- إلى دستور 2011 حيث لم يسبق للاتحاد الاشتراكي أن صوت عليها باستثناء دستوري 1996 و 2011 . لكن الحزب الاغلبي الذي استفاد من الدستور الأخير,اصبح عاجزا عن تنزيل مقتضياته. و في هذا الإطار انتهجت الحكومة التي يرأسها سياسة الانتكاس و الاستبداد في اتخاذ قرارات تهم الشعب المغربي و مصيره لا تستمع لمقترحات و أراء المعارضة و صيحات الشعب المغربي الذي يئن من سياسة التفقير و تنامي الفساد و الرشوة و الذي تناولته جريدة الصباح في العدد 4589 ليومي 17-18 يناير 2015 حيث تحدث في بعضها بنكيران و اخرون و الذي تم التعليق عليه من طرفنا في جريدة الاتحاد, كما انقضت على المكتسبات التي تحققت في ظل حكومة التناوب التوافقي و ممن بعدها , تلك المكتسبات التي ناضل من اجلها الشعب المغربي و قواه الحية و الإجهاز عليها هي الحصيلة التي تمادت فيه الحكومة, الشيء الذي يكشف بالملموس المشروع الذي تم إعداده من طرف الجماعات فيها الاخوان و من معها . و يبدو مما لا شك فيه أن ما آلت إليه الأمور في ظل حكومتنا الحالية مسألة حتمية, بالنظر إلى ما تمت الإشارة إليه حول ما أفرزته الثورات الشعبية و من يخوض في مسألة الديمقراطية بقصور مبالغ فيه و ينكرونها جملة و تفصيلا, بل أكثر من ذلك يعتبرونها كفرا . و ها هو الحزب الإسلامي يرأس الحكومة بتحالف مع حزب التقدم و الاشتراكية ,الحزب الشيوعي الذي تم تأسيسه ابان عهد الحماية كامتداد للحزب الشيوعي الفرنسي و ذلك على مضض.و من الطبيعي أن يكون الحزب الاغلبي مستبدا و متحجرا لا يحترم الرأي الآخر, خلافا لمبدأ الشورى في القران الكريم , و لا يقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية التي أتت به إلى الحكم في إطار الانتخابات و صناديق الاقتراع , و الواقع إن ما يقوم به الحزب الاغلبي هو و أعضاء حكومته التي قبلت التحالف معه في تدبير الشأن العام رغم اختلاف المرجعيات و التجليات و المسلكيات, شيء غيرطبيعي جدا بالنسبة للمشروع المذكور , إلا أن الغريب في الأمر أن أقوال منظري هذه الجماعات و مسؤولي أحزابها تتنافى مع أفعالهم و سرهم وعلنهم, خلافا لما جاء في القران الكريم الذي يعتبر الدستور الذي يجب الاستناد عليه في جميع الأمور بالنسبة للمسلمين و المسلمات و المؤمنين و المؤمنات, حيث أشارت إليها الآية القرآنية : (( يا أيها الذين آمنوا كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )). وقوله كذلك : (( اتامرون الناس بالبر و تنسوا نفسكم )) صدق الله العظيم . و انطلاقا مما ذكر, فالحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع هو غياب الديمقراطية في بلداننا العربية الإسلامية و الإساءة إليها في التطبيق و كما هو الشأن بالنسبة للشورى , و الخلل لا يكمن في الشورى و الديمقراطية و بالدين الإسلامي بصفة عامة, إنما الخلل يكمن في فهم الدين و عقليات أعضاء الجماعات الإسلامية , فالحكام صادروا الحقوق و كبتوا الحريات و قمعوا الآراء, في حين أن الغرب لم يتقدم إلا بعد التخلص من النظام التيوقراطي و هو نظام يضفى نوعا من القداسة على الحاكم و كثيرا ما يستغل قداسته لاحتقار الشعب و هي نتيجة حتمية لتقديس الإنسان الناقص. أما الإسلام فلم يعرف طبقة من رجال الدين, كما لم يعرف يوما صكوك الغفران كما لم يعرف الصراع بين الدين و الدولة إجمالا ,لان الإسلام كدين و تاريخ و حضارة يختلف عن المسيحية كدين و تاريخ و حضارة , استحضر هنا مقولة شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله الذي أشرت إليها في مقال سابق نشر في جريدة الاتحاد تحت عنوان العلاقة بين العدل و الظلم في استقرار الأمم, حيث جاء فيها (( إن الله يقيم الدولة العادلة و لو كانت كافرة و لا يقيم الدولة الظالمة و لو كانت مسلمة .)) . و يبدو أن ما تعيشه بلداننا العربية الإسلامية تكاد تنطبق عليها مقولة ابن تيمية هاته , و هكذا فإن الدين الإسلامي يسعى إلى إقامة مجتمع عادل و دولة عادلة و رحمة و حرية و استشارة و تحضرا و تعددية فكرية و مذهبية و هو ما كانت عليه المجتمعات الإنسانية في الدول العريقة في الديمقراطية , و أن ما يجري في بعض بلدان المشرق و ليبيا من احداث قد حضر فيها الدين بقوة , الأمر الذي يثير الشك حول من كان و راءها من أعداء الإسلام برئاسة أمريكا, حيث يشنون حملات تشويهية ضد الدين الإسلامي و يوهمون بأنه قاس و متشدد و يسخرون الآلة الإعلامية لرسم تلك الصورة بأشكال خفية ماكرة و أحيانا بشكل مباشر و صريح . و ما فتئت أمريكا تناصر هذا التوجه و تسمى عدوها الأوحد الإسلام الأصولي و ربما تتخذ الخلايا و التنظيمات التابعة للجماعات الإرهابية المنتسبة نفسها للإسلام لتنفيذ مخططاتها هي و الدول الغربية المناوئة للإسلام و العالم بأكمله يستنكر و يندد بالعمليات الإرهابية و الوحشية التي تشاهد في جميع القنوات التلفزية و المواقع الالكترونية و تنسبها للدين الإسلامي ,و الحال أن الدين بريء من هذه الأعمال العمال بين المسلمين و غير المسلمين . و بناء على ما سلف, فإن الشورى لا يناقض قواعد الديمقراطية باعتبار أنها لا تتنافى مع حرية الاجتهاد صالحة لكل زمان ومكان , وقد ساهم الاجتهاد في الإجابة على القضايا و المشاكل الجديدة في مختلف العصور و لم يغلق على أناس يفهمون لغة القرآن الصحيحة و من أمور مستحدثة ضروب التعامل و العلاقات الدولية , و يجب على أولي الأمر من المسلمين و على علمائهم أن يعلنوا حكم الإسلام فيها على الأسس و الأصول الإسلامية , كما يجب إغلاق باب الاجتهاد في وجه دعاة التعصب و الجمود في الشريعة و في سائر العلوم العربية و الإسلامية .وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الاشتراكي تبنى في مؤتمره الاستثنائي سنة 1975 برنامجه النضالي مبدأ الديمقراطية إلى جانب التحرير و الاشتراكية, و ما زال مستمرا للدفاع عنها في البلاد إلى الآن دون أن يقع عليه أي تعديل أو تغيير , أما بالنسبة لمن يكفر الديمقراطية و الديمقراطيين و الموصوفين أعلاه, فإذا كانوا مؤمنين بالقرآن كدستور مقدس فيجدون الجواب عن تصورهم في سورة الأنفال, حيث جاء فيها (( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون . و لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم و لو اسمعهم لتولوا وهم معرضون.)) الآية 22 و 23 .و يستفاد من الآيتين أن الخطاب موجه للمؤمنين لكي يطيعوا الله و الرسول , و آنذاك سيحظون بنصر من الله و تأييده و اسمعهم القرآن و الموعظة و ليس أولئك الذين يسمعون باذانهم دون قلوبهم, لأن الغرض من السماع التدبر و الاتعاظ و لنعتهم الله بهذا الوصف الخبيث و يتعلق الأمر بشر الدواب عند الله, أي شر الخلق و شر البهائم التي تدب على وجه الأرض , ذلك أن الصم البكم الذي لا يسمع الحق و البكم و هو الأخرس الذي لا ينطق به , أما الذي فقد العقل الذي يميز به المرء بين الخير و الشر و هذه السمات هي التي وصف بها الله سبحانه الكفار في آيتين 5و6 من سورة البقرة ,حيث عطل حواسهم و لا ينفذ الإيمان إلى قلوبهم لأنها مغطاة بكثرة الأوزار و الذنوب , و كذلك الشأن بالنسبة لحاسة النطق و السمع والعياذ بالله و هذا اخطر جزاء يناله الإنسان في الدنيا بدون شعور. و أخيرا, فإن الدعاة المناؤون للديمقراطية و الساعون إلى إقامة الخلافة الإسلامية كما هو الشأن بالنسبة لداعش في كل من الشام و العراق فلا يمكن بتاتا إقامتها على الأرض إلا بعد إقامتها في قلوبهم و الخاتمة لا تكون إلا إذا قامت على الإسلام و ما بني على خلافه فلا يثمر إلا الخراب و الدمار مصداقا لقوله : (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) الآية 11 من سورة الرعد من جهة و بالتالي سيحظون بتأييد من الله و نصر منه مصداقا لقوله أيضا (( و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )) الآية 40 من سورة الحج . وكان حريا بكم ان تتعاونوا على البر و التقوى و ليس التعاون على الإثم و العدوان لعلكم تفلحون .