ألف المفكر المغربي الفذ عبد الله العروي كتابا يحمل اسم «رجل الذكرى»، الصادر عن المركز الثقافي العربي في طبعته الأولى لسنة 2014. وأصل هذا النص ، كما ورد في التقديم، ورقات متناثرة حررها المؤلف خلال صيف 1958، وما شجعه على «نشره مجددا رغم عيوبه الجلية والكثيرة، هو أنه يتضمن نواة كل ما ألفت في ما بعد، أكان إبداعا أو نقدا ثقافيا»، لذلك نتساءل مع المفكر العروي . من هو رجل الذكرى ؟ يعرفه العروي كما يلي «طبعا هو القاص، الحافظ، المذكر ، المنذر ، في حلتيه القديمة والجديدة . لكن لكل واحد منا قاص ، ولو في جانب واحد من تفكيره وتصرفاته " ص 6 . ورجل الذكرى هو عنوان لنص مسرحي أو كما يقول المؤلف : "النص مسرح ضمن مسرح " ص 7 . إذا كان الأمر كذلك لماذا كانت البدايات نصا مسرحيا؟ لماذا تم اعتقال هذا النص طيلة هذه المدة حتى يفاجئنا بأنه الشهادة والاستشهاد؟ هل تغير الوضع بما يفيد أن النص أصبح ينتمي إلى التاريخ أم أن استدعاءه كأثر له امتداد ، لتعرية ماض لم يمضي وواقع لم يرتفع ؟ إن العناصر الجوهرية المؤسسة لمشروع عبد الله العروي ، وقد تم تضمينها وبثها في مفاصل النص ، تثير في أذهاننا فضول السؤال : هل المشاريع الفكرية الضخمة والمتشعبة تحتاج إلى تشخيص مسرحي ، في نشأتها ، يكون أفيد في تبليغ الرسالة والقصد ؟ ألا يعد النص المسرحي بمثابة بيان إبداعي لمشروع عبد الله العروي الضخم والمتين؟ لماذا توسل العروي المسرح وسيلة لعرض الخطوط الكبرى لتفكيره الذي سيؤطر مشروعه التنويري؟ هل معنى ذلك أن القضايا التي ظل ينظر لها العروي، على مدار نصف قرن ، والتي تشكل أحد فصول الحداثة، ليست قضايا ما تحت أو فوق التاريخ بل نابعة من صلبه وتصب في مجاريه . بل كل أعمال الحفر المضنية التي قام بها العروي لتفكيك الأساطير المؤسسة لأوهام الثقافة/الموروث ، وتشريح أعطاب التاريخ ومكره واستئصال أورام بناء الدولة الحديثة ووضع المجهر على ثقوب الذاكرة وفجواتها وإكراهات الجغرافيا والندرة، جعلته يقف على ضحالة الوعي التاريخي وهو المدافع الشرس عن التاريخانية، وغياب المساهمة التاريخية وعدم الاستفادة من المتاح للبشرية جمعاء للانخراط بشكل إيجابي في الزمنية المعاصرة. وبالرجوع إلى النص/النواة المؤسسة والمؤطرة للرؤية والمنهج، لاختيارات العروي الفكرية والمواقف السياسية وتناوله للقضايا المجتمعية والثقافية ، فإننا نعثر على هذه الأمشاج مبثوتة في الهيكل العام للنص المسرحي ، منها ما يتعلق بموقف الحسم والاختيار على مستوى منظومة القيم ، أو العثور على التشكلات الأولية لمفهوم القطيعة أو في محاولة التجاوز . ويمكن أن نتلمس العناصر الأولية لاختيارات العروي في الفكر والمجتمع المرتكزة على مبدإ الحسم والفصل، وقد تجسد هذا من خلال الحوار المسرحي بين الشخصية المحورية "عمر" وعلاقته بالمرأة والقيم والزمن بكل أبعاده . ونظرا للتكلفة الباهضة للتردد والانتظار فإن العروي يرى أن الخسارة تكون أقل عندما نبادر ونحسم ، سواء تعلق الأمر في قضايا أسرية، مجتمعية أو سياسية أو ثقافية .. ذلك أفضل بكثير من أنصاف الحلول بما في ذلك الموقف الوسط ، تقول سونيا: " سئمت حلول الوسط ، إما أن تقبل أن نسكن هذا المكان الضيق المظلم ، بدون أن تلتفت إلى الباب الذي دخلت منه وأغلق من ورائك ، وإما أن ترفضه وتنغمس في هيام لا نهاية له . تأمل وافصل ،خير لي ولك ،موافق ؟ ، عمر : موافق " ص 50 . إن مبدأ الحسم المستوحى من الحوار المسرحي يشكل أداة إجرائية في منهج العروي الذي يحتل فيه مفهوم القطيعة مفهوما مركزيا يشكل عصب فكر العروي ، إذ نعثر على صياغته الجمالية في هذا النص المسرحي ، " إذ يقترب عمر من حليمة ، يأخذ بيدها ويقول بتأثر : جئت لندشن معا عهد الفراق كما عشنا عهد الوفاق ، فنجعل من العهدين فترة متصلة مكتملة" ص 31 . هذا الانتقال السلس من وضع إلى آخر ، يتم بشكل احتفالي ، غير عدواني أو إقصائي ، إنما بتبصر واقتدار، يعترف للما قبل بالكينونة وينتصر للمابعد بالتاريخانية ، هي تسوية اقتضاها منطق المغايرة . بناء عليه نتساءل ، ألا يمكن أن يكون لمفهوم القطيعة الذي نظر له وتبناه ودعا إليه العروي ، جذورا نفسية وامتدادات سيكولوجية محددة للاختيارات الذهنية قبل أن يصاغ المفهوم صياغة فكرية ؟ لكن إذا تناولنا البعد الآخر للعروي كمؤرخ ، فما موقفه من مفهوم القطيعة؟نوفاليس، يجيبنا كما ورد في التقديم :"قيل إن القطيعة أمر مستحيل وإن المؤرخ، وهو بالتعريف المؤتمن على سر الماضي ، يناقض نفسه إذ يقول بها . لم أقل بالقطيعة كحافظ للماضي بل كداعية للإحياء والتجديد ،بعث حياة جديدة ، مستأنفة ، في نفس من كاد القديم ، ترديد القديم ، أن يخنقه ويجمده " ص 7. إذن بدلا من ترديد القديم ، لابد من بعث حياة جديدة ، وتولد هاته من منطق الاستيعاب والتجاوز، ها هنا نعثر على العقدة التي يحاول العروي فك شفرتها ، إنه يرفض أن يكون قاصا / حافظا، أي يرفض أن يكون رجل الذكرى بل صانع وفاعل في الحدث ، لكن هل امتلكنا الأدوات الكفيلة بإدراك وعقل الإرث للتوجه نحو المستقبل والمساهمة في صنعه والاستفادة من المتاح أم ما زلنا نراوح المكان والتردد ما بين دائرة التمجيد وعتبة التجريب؟ يلاحظ من خلال النص المسرحي أن الشخصيات تظل في اختياراتها أسيرة مجموعة من العوائق المرتبطة بالقيم (التربية، الثقافة، الذهنية العامة المهيمنة)، القدر/الإمكان، وهو ما يجعل الوعي الذاتي يتأرجح بين الممكن واللاممكن، وعدم امتلاك الوعي الذاتي يلحق أعطابا بالآلة الذهنية وينتج وعيا زائفا لا صلة له بمقتضيات التاريخ كمنجز ومنهج . إلا أنه في خضم هذا الاشتباك مع الذات كمحاولة لعقلها والانفلات من إسارها لضبط المفارقات ، نرصد محاولة في التجاوز من خلال حوار المواجهة والمحاكمة لتعرية مكامن الضعف وخدع الوعود التي تجسدها حيل الحكي للقاص / الماضي ، الواعظ والواعد، المتحكم في توجيه الوعي واللسان. حيث لا يفيد الوعظ أمام عناد التاريخ ورجاته القوية إن الصراع المحموم الذي يخوضه " عمر" الذي يبحث عن حل لمعادلة اشتباك الذات مع الموروث باعتبارها مرحلة تأسيسية لوعي الموضوع المتعدد الأبعاد ، فرض عليه اختيار منطق المواجهة ، ذلك أن الهيمنة النمطية المتكررة والرتيبة ، المناقضة لمنطق الحياة ، الملغية للعقل والوجدان ، الكابحة للوعي واللسان، الخادعة بوعودها الوردية، كل ذلك جعله يتموقع في مفترق الطرق لأجل الحسم في الاختيار إما الموافقة أو المفارقة . ويستفاد من حوار مونولوج الانتفاضة والمحاكمة الذي قرر "عمر" خوضه لمواجهة القاص المصفح بمكر الحكي / الإلهاء ، لاسيما بعد الخيبة والانكسار والكساد والعجز عن عدم مواجهة رياح المتغيرات ، أن أم المعارك تبدأ من بناء الذات من خلال استنهاض العزائم وتعميق التأمل أي إعمال العقل . إذا تتبعنا مسار الشخصية المحورية في النص المسرحي نرى أنها تتحرك ضمن استراتيجية محكمة، تتبنى خطة تدريجية، تنتقل من استعمال أسلوب التسوية إلى أسلوب المواجهة . وبما أن ميزان القوة يميل لصالح القاص ، فإن تغييره يبدأ من خلال محاكمته أمام متغيرات التاريخ الذي يصنعه ويكتبه الأقوياء . وعليه نتساءل هل مشروع العروي الفكري والإبداعي بني على هذه الهندسة العامة التي تتبنى خطة الانتقال من أسلوب التسوية إلى أسلوب المواجهة المفتوحة ؟ هل جاد علينا الزمن ببعض النسيان؟ هل توقف هذياننا أم تواصل وتجدد؟ هذا سؤال المؤلف لقارئ اليوم.