عفو ملكي على 1304 أشخاص بمناسبة ذكرى 11 يناير    اطلاق ثلاث خطوط جوية جديدة تربط الصويرة بباريس وليون ونانت ابتداء من أبريل المقبل    رواية "بلد الآخرين" لليلى سليماني.. الهوية تتشابك مع السلطة الاستعمارية    طنجة : الإعلان عن الفائزين بجائزة بيت الصحافة للثقافة والإعلام    المنتخب المغربي يودع دوري الملوك    مراكش... توقيف مواطن أجنبي مبحوث عنه بموجب أمر دولي بإلقاء القبض    حرائق لوس أنجلوس .. الأكثر تدميرا والأكثر تكلفة في تاريخ أمريكا (فيديو)    مراكش تُسجل رقماً قياسياً تاريخياً في عدد السياح خلال 2024    تهنئة السيد حميد أبرشان بمناسبة الذكرى ال81 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال    وزير الخارجية الفرنسي "يحذر" الجزائر    توقيف شخصين في مراكش بتهمة النصب والاحتيال وتزوير وثائق السيارات    "الباطرونا" تتمسك بإخراج قانون إضراب متوازن بين الحقوق والواجبات    مدن مغربية تندد بالصمت الدولي والعربي على "الإبادة الجماعية" في غزة    إيكال مهمة التحصيل الضريبي للقطاع البنكي: نجاح مرحلي، ولكن بأي ثمن؟    هذا ماقالته الحكومة عن إمكانية إلغاء عيد الأضحى    مؤسسة طنجة الكبرى في زيارة دبلوماسية لسفارة جمهورية هنغاريا بالمغرب    الملك محمد السادس يوجه برقية تعزية ومواساة إلى أسرة الفنان الراحل محمد بن عبد السلام    المناورات الجزائرية ضد تركيا.. تبون وشنقريحة يلعبان بالنار من الاستفزاز إلى التآمر ضد أنقرة    أحوال الطقس يوم السبت.. أجواء باردة وصقيع بمرتفعات الريف    الضريبة السنوية على المركبات.. مديرية الضرائب تؤكد مجانية الآداء عبر الإنترنت    اللجان الإدارية المكلفة بمراجعة اللوائح الانتخابية العامة تعقد اجتماعاتها برسم سنة 2025    الملك محمد السادس يهنئ العماد جوزيف عون بمناسبة انتخابه رئيسا للجمهورية اللبنانية    توقف مؤقت لخدمة طرامواي الرباط – سلا    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إيداع 10 علامات تجارية جديدة لحماية التراث المغربي التقليدي وتعزيز الجودة في الصناعة الحرفية    أسعار النفط تتجاوز 80 دولارا إثر تكهنات بفرض عقوبات أميركية على روسيا    أغلبهم من طنجة.. إصابة 47 نزيلة ونزيلا بداء الحصبة "بوحمرون" بسجون المملكة    فيلود: "المواجهة ضد الرجاء في غاية الأهمية.. وسنلعب بأسلوبنا من أجل الفوز"    "الأحرار" يشيد بالدبلوماسية الملكية ويؤكد انخراطه في التواصل حول مدونة الأسرة    تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، محطة نضالية بارزة في مسار الكفاح الوطني من أجل الحرية وتحقيق السيادة الوطنية    القِرْد سيِّدُ المَشْهد !    ميناء الحسيمة يسجل أزيد من 46 ألف من المسافرين خلال سنة 2024    جماعة طنجة تعلن نسبة تقدم أشغال تأهيل معلمة حلبة ساحة الثيران    من هو جوزيف عون الرئيس الجديد للبنان؟    وفاة صانعة محتوى أثناء ولادة قيصرية    حوار بوتين وترامب.. الكرملين يعلن استعدادا روسيا بدون شروط مسبقة    بوحمرون: 16 إصابة في سجن طنجة 2 وتدابير وقائية لاحتواء الوضع    "بوحمرون.. بالتلقيح نقدروا نحاربوه".. حملة تحسيسية للحد من انتشار الحصبة    بوحمرون يواصل الزحف في سجون المملكة والحصيلة ترتفع    ملفات ساخنة لعام 2025    تحذير رسمي من "الإعلانات المضللة" المتعلقة بمطارات المغرب    عصبة الأبطال الافريقية (المجموعة 2 / الجولة 5).. الجيش الملكي من أجل حسم التأهل والرجاء الرياضي للحفاظ على حظوظه    صابرينا أزولاي المديرة السابقة في "قناة فوكس إنترناشيونال" و"كانال+" تؤسس وكالة للتواصل في الصويرة    "جائزة الإعلام العربي" تختار المدير العام لهيسبريس لعضوية مجلس إدارتها    ارتفاع مقلق في حالات الإصابة بمرض الحصبة… طبيبة عامة توضح ل"رسالة 24″    اتحاد طنجة يعلن فسخ عقد الحارس بدر الدين بنعاشور بالتراضي    السعودية تستعد لموسم حج 2025 في ظل تحديات الحر الشديد    الحكومة البريطانية تتدخل لفرض سقف لأسعار بيع تذاكر الحفلات    فضيحة تُلطخ إرث مانديلا... حفيده "الرمز" في الجزائر متهم بالسرقة والجريمة    بطولة إنجلترا لكرة القدم.. إيفرتون يفك الارتباط بمدربه شون دايش    مقتل 7 عناصر من تنظيم "داعش" بضربة جوية شمال العراق    النظام الجزائري يخرق المادة 49 من الدستور ويمنع المؤثر الجزائري بوعلام من دخول البلاد ويعيده الى فرنسا    الكأس الممتازة الاسبانية: ريال مدريد يفوز على مايوركا ويضرب موعدا مع برشلونة في النهائي    الآلاف يشاركون في الدورة ال35 للماراطون الدولي لمراكش    أخذنا على حين ′′غزة′′!    الجمعية النسائية تنتقد كيفية تقديم اقتراحات المشروع الإصلاحي لمدونة الأسرة    فتح فترة التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1447 ه    وزارة الأوقاف تعلن موعد فتح تسجيل الحجاج لموسم حج 1447ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية «أسرار شهريار» لحميد ركاطة وشريف عابدين .. محاكمة الحكي ولعبة القتل


«مدخل للبدء»
بقدر ما هي شخصيات أسطورية بأحداثها الغريبة والعجيبة ، تعملقت في كتاب ألف ليلة وليلة وترسخت في الأذهان على مدى الأزمان، فمازالت حكايات شهريار وشهرزاد تعاقر الزمن متشبثة بالحضور والخلود مادامت هناك سلطات وشهريارات طغاة وعدد لا متناه من النساء الضحايا اللواتي يبحثن عن إثبات الذات . وشهريار هو أيضا فكرة تدافع عن استمراريتها وبقائها في ظل صراع أبدي بين الخير والشر والقوة والضعف وحب السلطة والتملك، وعقيدة الثأر والانتقام المترسخة في الذات البشرية، والتي تشكل نسبة كبيرة من تكوين الكثير من الذوات البشرية..كل هذا يجدد أحداث شهريار وشهرزاد ويزيدها بمرور الزمن سحرا وغموضا وإدهاشا ، بالرغم من محاولات العديد ممن حاكموا كتاب ألف ليلة وليلة وأصدروا فيه فتاوى الإعدام والحرق والدفن وتغييبه الى الأبد. باعتباره كتابا دخيلا في أفكاره وأسلوبه ولغته ومحرفا للقيم الأخلاقية السائدة. وبقدر ما تحاول هذه النداءات/ المبادرات العنيفة كبح جماح انتشار هذه الحكايا وقص أجنحتها، بقدر ما يتجدد بريقها وتزداد مساحة الضوء المسلط عليها، فتستأنف تحليقها عرضا وطولا . فقاومت التلاشي في إثبات للذات ومجابهة الواقع وبالتالي التمدد في التاريخ والجغرافية. مازالت هذه الحكايات تعد ذخيرة عربية، فارسية، إنسانية لا تقدر قيمتها الأدبية بثمن، تثير دهشة وشهية الآداب العالمية .
«مدخل آخر لابد منه»
تساوقا مع ما أسلفنا ذكره ، نحن اليوم أمام عمل روائي جديد مختلف تمام الاختلاف عما عهدناه في نصوص روائية موازية لنصوص أو شخصيات ألف ليلة وليلة. يطالعنا في رواية « أسرار شهريار» ثنائي أدبي مغربي مصري بهذا العمل الابداعي المشترك الذي قل نظيره في عالم الرواية ماعدا بعض الاستثناءات القليلة جدا. إذ تأتّى للمبدع حميد ركاطة والمبدع شريف عابدين الاشتراك في كتابة عمل روائي من 252 صفحة من طينة وعجينة أخرى لا مثيل لها. ثنائي بصيغة المفرد استطاع في تحد نادر إصدار عمل روائي فيه من التشابه والتماهي سواء في الأسلوب والصنعة الأدبية ما يثير الدهشة والتساؤل والاستغراب أيضا. فالقارئ لن يكون بمقدوره التمييز بين فصول الرواية ولا مقاطعها وأبوابها. فيطرح السؤال من كتب هذا ومن كتب ذاك ومن كتب؟ ومن كتب؟ ولعمري تلك ميزة استثنائية تفرد بها هذا العمل الإبداعي الاستثنائي.
"أسرار شهريار" نص روائي تجريبي بامتياز، وكما نعلم فكل كتابة تجريبية هي مغامرة، ومخاطرة، فيها المتعة والاستمتاع، علاوة على استغوار كنه الأشياء من أوجه مختلفة وبطرق لا مألوفة وذلك بالركض المتزن خلف المغاير وغير العادي، بحثا عن مكامن الجمال في مساحات الإبداع العذراء المغايرة. هذه رواية منفلتة، بحيث كلما اقتربت من معانيها ابتعدت، وكلما حاولت أخذ نفس للتأمل توالت وتواترت أنفاس تقطع الأنفاس وتحرض على الغوص عميقا في ثنايا الأفكار المتوارية خلف الظاهر الزئبقي، وذلك من خلال التدمير والهدم وإعادة البناء. رواية مربكة من أولها الى آخرها، بعيدة كل البعد عن أجواء الشهرزادية التي تثير فضول القارئ والمستمع عبر ما تحدثه الوقائع الغريبة والعجيبة من سلطة على اهتمام القارئ والأخذ بألبابه، بل ألفيناه نصا يفكك ويركب ويعيد التفكيك في كيمياء إبداعي عجيب، حيث يقلب مواجع الماضي وتاريخ الغدر والخيانات وغرائب الجنس وخدع الحروب الكبيرة والصغيرة والبحث والتفكير في تأصيل جديد لقيم إنسانية جديدة، تبحث في طبيعة إنسانية الإنسان بطموح مشروع لإعادة صياغة تشكيل فكر واع معقلن من مواد أصيلة تتغيّى – عبر مسار الأحداث – نقاء الروح والقلب في ظل المتغيرات التي يعرفها العالم الجديد على كل المستويات.
منذ البداية يدفع الكاتبان بسرعة مذهلة – برئتين وقلمين – أحداث الرواية بكتيبة شخصيات موغلة في القدم باتجاه عوالم الحداثة والتكنولوجيا ليبهرنا هذا التزاوج والزواج الوثني العجيب الذي يفوق في غرائبيته أحداث ليلة وليلة نفسها، موظفين في ذلك براعة القصة القصيرة جدا التي هي إحدى قواسمهما الإبداعية المشتركة.
في مطلع الرواية يطالعنا الشرق ونفحات الشرق وأسراره وعجائبيته وغرائبيته التي لا تنتهي.فكأنما تعمّد الكاتبان أن يهمسا لنا بثقة بالغة أنه لا وجود لعجائبية وليدة تهيؤات وتمثلات وخوارق لا وجود لها في الواقع ولا الحقيقة، وإنما موجود بالقوة والفعل، بل مشرعة عند العرب بدستور الإسلام ، فتأتي الرواية منذ البدء معلنة انبهار الغرب في شخص الوصيفة التي تُهدى كطعم من طعوم التطبيع المصلحي الكيدي، ووجه من أوجه خُدع الحرب، تهدى لفحولة الشرق /كأننا نمنح الشرق جزءا من كبد الغرب " (ص 5) فتكتشف عرش سليمان الأسطوري وكيف أنه يحكم الريح والجان، وعالم بمنطق الطير ويكلم الحيوان، لتكون هذه بهارات ودفوعات قدمها الكاتبان عنوة في مستهل الرواية ليزجّا بنا – بكتلة لغوية ملتهبة- في عوالمها في تزاوج مبهر جلي، بين حضارة الشرق وحضارة الغرب بدءا بانجذاب الغرب لحرارة شمس الشرق والإقبال عليها .ومما يثير القارئ في مستهل الرواية هي السينوغرافيا المؤثثة للمشهد الأول التي تظهر لأول وهلة أنها فعلا أجواء غربية، حيث العربة الملكية التي تجرها الخيول وحشود الخيالة وما يواكب هذا الموكب الملكي من أجواء راقية باذخة لن تجدها إلا في أعراف وتقاليد ومراسيم الغرب خلافا للهودج عند العرب، وقافلة الإبل المسافرة عبر الصحاري في الشرق .وقد أجاد الكاتبان في وصف ذلك حيث جاء في الصفحة 5 " تستقل "لوار" عربة فخمة تجرها خيول مطهمة، محاطة بالعديد من الخيالة والحرس الملكي .بالكاد كانت الخيول تخترق الثلوج الكثيفة التي غطت الطريق" موظفين في الرواية تقنية امتزاج الماضي بالحاضر وانصهار عوالم الغرب والشرق بكثافة لغوية آسرة ، حيث يجد المتلقي نفسه في لُجج من المشاهد والأحداث والحوارات ذات الطابع العلمي الواردة على لسان شهرزاد وهي تحاكم شهريار وتنتقد سلوك الإنسان الجبّار، فيفطن شهرور لمرامي حديثها ويكسّر السرد بعد أن أدرك أنه المقصود، ليستدرجنا الكاتبان الى جلسة مفتوحة مع شهريار عبر دائرة تليفيزيونية مغلقة، تم فيها استفساره عن قضايا وأحداث وقعت له ولوالديه وفي ذلك إعادة لتسليط الضوء على تاريخ شهريار الطاغية وشهريار الضعيف في حوار استثنائي مفعم تارة بالسخرية السوداء والضحك المُمرّد بالبكاء، وتارة يحتد النقاش ويحتدم بين الحاكم والمحكوم.
ويرتكز الحوار حول سؤال مركزي لماذا قتل جميع النساء دون تمييز بدل الاقتصار على المذنبات؟، ليستمر الاعتقاد أن مسار المرأة التاريخي ممهور بداء الخيانة. فتتوتر الأجواء في الرواية بين الرجال والنساء من جهة، وشهريار من جهة ثانية، في جلسة مكاشفة نفسية تحليلية أكثر منها محاكمة، الغاية منها تفسير السلوك العدائي لشهريار ليكون ردّه أنه لم ينتقم لنفسه كفرد، بل انتقم لشرف الشعب والأمة ككل باعتباره ممثل الشعب وعليه أن يقتص ممن اعتدى على الملك وخدش شرفه، لنجد فيها من نفحات وعوالم "الأمير" لماكيافيلي ما يتماشى ورغبة السلطة عند شهريار وكل الشهريارات في العالم. فعاد الفصل الرابع من الرواية ليعيد تقليب ملفات ومواجع شهريار ويعرضها على التشريح النفسي والإجابة عن مجموعة من التساؤلات التي تكون قد أرّقت القارئ أو حتى شخصيات الرواية نفسها ، وتفسير العديد من أسباب الضغائن والخيانات داخل أسوار القصر، وما كان يقع خلف الستائر بأسلوب حواري تناوب فيه الكاتبان على تنشيطه تارة أحدهما مستَجوِب وسائل وتارة مستَجوَب، فتتوالى محاكمات الشخصيات ومحاكمة السرد في توليفة غريبة حيث وفي زواج وثني مجنون تستعمل شخصيات ألف ليلة وليلة وسائل التواصل الحديثة من سكايب وبلوثوت وغيرها من المواقع الافتراضية والأماكن الحقيقية وقواعد وبيانات في عالم المعلوميات ومناقشة القضايا الكبرى المطروحة في هذا العمل الروائي العميق من طرف شخصيات من مختلف التخصصات : الأطباء علماء النفس والاجتماع والتكنولوجيا الحديثة وعلماء السرد كذلك حيث قلّب الكاتبان أحداث وشخصيات ألف ليلة وليلة وفي رواية " أسرار شهريار " من كل الجوانب ليخرجا خلال كل محاكمة بأنه من العبث أن يغيّر عاقل من طبيعة الأشياء وإلا فلن يجنيَ سوى المتاعب .وفي سؤال آخر يطرحه الطبيب بالصفحة 163 " كيف استطاعت أن تؤلف كل هذه الحكايات تحت التهديد ؟" ويعلق تارة أخرى في ص 159: " تجربتك السردية مع شهريار نموذج لدور الحكي في علاج النفس "
وفي موقع آخر من الرواية ينبري الكاتبان لموضوع السلطان والرعية كيف تكون هذه الأخيرة مع وضد السلطة في آن واحد، حيث حياة المئات من فتيات الشعب تهدر وتنتهك فتؤلّب الطغمة – التي تشكل حاشية السلطان- الشعب على الحاكم فينتفضون متظاهرين ثم يتم قمع المظاهرات والتظاهرات في مرحلة تالية بإيهام آباء وأولياء الزيجات أنهن سيسعدن أكثر من غيرهن في بحبوحة العيش الرغيد وهن في كنف السلطان الحاكم..
ويستطرد الكاتبان على لسان شخصية شهرور في محاولة منه لتلميع صورته كونه هو من أبدع ألف ليلة وليلة، وإليه يرجع الفضل في إبداع هذه السرود التي نالت شهرتها العالمية بفضل البطش والاضطهاد الذي مارسه على شهرزاد، مؤيدا فكرة أن البطش يولّد الإبداع (ص 209) معرّجا على واقعية أمريكا اللاتينية السحرية وفضل الليالي على ذيوع وشيوع آدابها في العالم أجمع.
بيد أن شهرزاد تتمكن في نهاية المطاف أن تحكم وتسود بفعل سحر الحكي وأضحت سيدة قومها بعدما أقيمت جلسات الاستماع التي كانت جلسات للتطهر والكاتارسيس من الأمراض العضوية والنفسية والمعنوية.على أن السؤال المطروح كما في ورد في (ص 163 ) من الرواية ، كيف استطاعت شهرزاد أن تؤلف كل هذه الحكايات تحت التهديد لدرجة أن الكاتبين استعملا تركيبا لغويا سيميائيا جميلا هو " لعبة القتل " وأن التخييل يمنحنا الفرصة للتنفّس في آفاق جديدة "نقتنع فيها بأن جرحنا ليس نهاية العالم" (ص 158 )
"أسرار شهريار" رواية مربكة مستفزة ومن هذا تستمد تفردها وفرادتها فكما تفتح كوى ومنافذ نطل منها على الزمن الغابر، تفتح أيضا أبوابا مشرعة على العصر الحديث بكل زخمه العلمي وثورته المعلوماتية الرهيبة، مرورا بما وصل إليه علم التحليل النفسي. وفي اعتقادي كل رواية لا تربك ولا تقلق فهي رواية عادية، والدهشة تأتي من اللامألوف وغير العادي. إذ يجد القارئ نفسه في كل محطة من محطات الرواية مطوقا بالعديد من الأسئلة كيف؟ ولماذا؟ وهل من جزء موال لإشباع الرغبة والفضول، إذ كيف يتحول عالم ألف ليلة وليلة الأسطوري الى قاعدة بيانات لمعالجة وقائع مجتمعية آنية وتجيب على العديد من المظاهر المشينة والتشوهات المجتمعية، وكذا استنفار الإرادة القوية لإنجاح مشاريع النهضة والتقدم التي مازالت متعثرة في مجملها أو لم تر النور بعد ، حيث وضعت الرواية في جل أحداثها الأصبع على مكمن داء الواقع العربي والربيع العربي، الذي نستشف من خلال بعض أحداثه أنه لم يتحرر من عقلية تؤمن بالحرية الافتراضية الخيالية عوض حرية حقيقية، حيث يقول الطائر محبطا «لم اقتنع بالتحرر الخيالي ، أردته واقعيا « ويأتي الاقتراح سريعا (ص 157/158) متطابقا مع الفكرة الرئيسية في رواية الخيميائي لباولو كويلو ….إذا رغبت في شيء…فإن العالم كله يطاوعك…حيث هناك في « أسرار شهريار» دعوة كذلك لتوسيع الرؤية لاستشراف الحقيقة .حقيقة الإنسان إذ لم يغيب الكاتبان في هذه التجربة الإبداعية المتفرّدة الجانب الروحي الطاغي في مشاهد وأجواء وأحداث ألف ليلة وليلة لإثارة جانب مهم في علم النفس الذي يعوز الخوارق والشياطين والأرواح إلى كونها عناصر باطنية فاعلة تشكل عمق الكائن البشري، وتدخل في تركيبة الذات البشرية، فتناولا هذا الجانب في جلسات التحليل النفسي الواردة مشاهدها في الرواية .
وكلما توغلنا في متاهات أحداث الرواية كلما اصطدمنا بخلطة سحرية تفوق غرابتها غرابة حكايات شهرزاد، حيث يتناغم الملك السعيد ويتآلف مع الصور الرقمية ويلتقي بمرجانة بالفايس بوك، ومعرفة تقنية الفوطوشوب، وعلي بابا ،وقائمة الأصدقاء والكنز الذي هو الويب سات الذي يدخر ما لا يعدّ ولا يحصى من النفائس .كما وظف الكاتبان في الشكل تقنية الكتابة الالكترونية التي اعتدنا عليها وخاصة الحرف الواحد الذي يتكرر في الكلمة الواحدة وقد ألفينا هذا في مواقع شتى من الرواية حيث انعكست أجواء المعلوميات والكتابة الرقمية على طريقة الكتابة التحريرية للنص .
بخصوص الحوار فقد أعطى الحوار دينامية للنص وكما يقال: الحكي والحوار بالأساس هو ماء السرد وروحه .الحوار الذي يجعل القارئ في تفاعل إيجابي مع النص لا مستهلكا سلبيا فيتقمص هو أيضا دور شهريار أو شهرزاد أو غيرهما من الشخصيات الرئيسية فيتعاطف(القارئ) معها ويتماهى مع ميولاتها وقد أجاد في ذلك في اعتقادي حميد ركاطة كونه أحد رواد المسرح العالِم بأسرار الحكي، أجاد التمكن من أدوات التشويق عبر الحوار وسحر التخاطب والحوار المسرحي الهادف العميق، إذ وظف فن المسرح كما أسلفنا بما في ذلك الإكسسوار والحوار وخلق مشاهد حركية تضفي دينامية على الأحداث وتؤجج الصراع الدرامي بين الشخصيات، يسنده في ذلك الدكتور شريف عابدين كواحد من الذين خبروا عالم الطب، الذي ركز هو أيضا على تشريح الذات الإنسانية من منظور علمي خالص ، فلا غرو إذن إن ألفينا هذا التناغم الوظيفي الذي أدى في نهاية المطاف إلى إبهار المتلقي بلغة العلم، ممهورة بلغة الأدب وسحر البيان. ولهذا فمقولة « الرواية تحتاج الى الكثير من الحقائق « فقد تُرجِمت حقا في هذه الرواية ، إذ كان الكاتبان يدركان مدى صحة المعلومات العلمية المقدَّمة للمتلقي في طبق أدبي جميل، تنم عن معرفة وإدراك عميقين بما يتناوله الكاتبان في عملهما الروائي.
على سبيل الختم
وأخيرا تبقى رواية أسرار شهريار « عملا إبداعيا متميزا وذلك لاستثمار الكاتبين لعبة القتل ومحاكمة الحكي لألف ليلة وليلة، العمل الحكائي الماتع الخالد الذي ظل ولا يزال بغرائبيته وعمقه وعوالمه الخارقة يفتن الصغار والكبار شرقا وغربا. كما أن رواية أسرار شهريار (مزجت الماضي بالحاضر) كما كتب الغربي عمران على ظهر الغلاف، وخلخلت السائد وحاورت الشخصيات بمنطق العصر ومزجت بين خوارق الماضي وعجائبيته التي وصلت حدّ الأسطورة، وسطوة علوم الحاضر وما جادت به من تقنيات الحداثة فاقت كل غريب وعجيب. وكما ورد في الصفحة الأخيرة 251 من الرواية (أتستعد من الآن للمحاكمة) فالرواية تدعونا لمحاكمة أخرى من نوع آخر، أما موعد الجلسة فقد جاء على لسان أحد شخوص الرواية
ما موعد الجلسة؟ (أو رواية قادمة؟)
2020
وتختتم بثقة في ألا يتخلى الأصدقاء عن الموعد (ص: 252)
فيهرب شهريار صندوق الحكي والذي هو في الحقيقة عبارة عن شريحة ممغنطة أو قرص مدمج بلغة العصر، يجعل متعة الانسياق وراء جديد ما بعد « الأسرار « متعة ما بعدها متعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.