من منا لم يستلبه طعم الليل في حضن الجَدة بعد يوميات طفولة تترنح بين الهدوء والمشاكسة البريئة.. حيث يتدفق الحكي مُنساباً، لذيذاً وماتعاً.. دافئاً في ليالي الشتاء الباردة ورفيقاً للسَّمر الصيفي المبهج.. قصص وحكايا تسبح بخيالنا الطفولي نحو سماوات بعيدة، سماوات ساحرة أخاذة، نعْبر من خلالها إلى عالم سحري، وتهَبنا أجنحةً تمكننا من التحليق صحبة أبطالها، والمضيِّ معهم نحو مغامراتهم العجائبية المثيرة.. ومن هنا، ارتبط الحكي في مُخيلتنا بالأنثى؛ الأنثى الناسجة لخيوط حكايات بالغة الجمال، العارفة بأسرار الحكي والمتقنة للغته ومكوناته الجمالية..وكله عائد لنزوعها الطبيعي للبَوح، واهتمامها بالتقاط أدق التفاصيل بأسلوب يستحضر لُغة الروح وهمس المشاعر الرقيقة، بدفئها الأنثوي الآسر. وأصدق تعبير عن الأسْر الأنثوي عبرَ الحكي، أيقونتُه الخالدة، بطلة ألف ليلة وليلة، المرأة التي سكنت خيال المفكرين والفنانين في الشرق والغرب، وشكلت عنصر إلهام لأعمال فنية وأدبية ومسرحية بارزة، ودراسات شتى شملت عمق المجتمع الشرقي وتصوراته حول الأنوثة والجسد.. ومن غيرُها؟ شهرزاد! شهرزاد التي ضمت علوم العرب والعجم، قرأتْ أمهات الكتب، تعرفت على الحكمة والمنطق وحولت شهريار، ملك الساسان، بفضل موهبتها الحكائية من شخص مجنون متعطش لدم العذارى إلى إنسان هادئ ودود يترقب انسلاخ الليل من النهار ليلوذ إلى حضنٍ روَّض جنونه وتمرده، ويصيخ السمع لحكايا مُروضته الشيقة على مدار ألف ليلة وليلة، تناسى فيها نزعته الانتقامية، ليبتذر بذرة حب جديدة جمعت بينه وبين شهرزاد. "حكاية شهرزاد"، عنوان اختاره الشاعر محمد رزيق عتبة أولى لنصه، إذ يُخرج به شهرزاد من قالبها الاعتيادي كذات حاكية، ليجعل منها موضوعا للحكاية ويضع القارئ أمام تساؤلات نستحضر منها: هل سنكون بصدد نص يتناول حكاية شهرزاد المألوفة، تلك الشابة الناجية من قبضة الجلاد والتي نجحت في خلق فضاء أسطوري لشهريار تملكته به وثنته عن إراقة دماء العذارى؟ أم أن حضور شهرزاد في النص لن يكون إلا حضوراً رمزياً، رمزا للأنثى الجريئة، القوية والمتملكة؛ لكنها هنا ليست شهرزاد التي أسقطت بدهائها الأنثوي ملكاً من ملوك الزمان، بل أسقطت فارساً من على صهوة القصيد والكلام؟ لربما هي شهرزاد شاعرنا يحكيها شعراً! رفعتُ عن ساقيْها الغيوم بعيني رَدَّني وميض وصدى رعد يدوي رنينه بداخلي؛ ارتج المكان واهتز البنيان وأطلقت بسمة شقّت ثغري فكان أن احتلت قلاعي. انسحب الجند واثاقلت أياديهم إلى الضغط على الزناد تحول البارود رضاباً ورذاذاً استعذبته في أولى معاركها. فتوالت الثغور تتهاوى أمام تقدم فلولها. رفعتُ أُلوِّح ببيارقي البيضاء؛ نتفاوض! لا يمكن أن أمُر بهذه البداية الجميلة دون أن يتبادر إلى ذهني ما قاله درويش في قصيدته "درس في الكاماسوترا" :"وانتظرها.. لترفع عن ساقها ثوبها غيمةً غيمةً" … شوق ولهفة مشتعلة، تتملى الظاهر وتتوق للمخفيِّ خلف الغيم، لهفة بلغت ذروتها ليجد الشاعر نفسه حاملاً بيارقه البيضاء أمام شعاع الأنوثة المتّقد ومسلّماً مفاتيح قلاعه المهتزة بنيانها لمن اجتاحت حِماهُ مُرسلةً ابتسامة تفاخرٍ وتباهٍ بنصرها الحتميِّ والمستحق. حُسمت المعركة لصالحها، خرجت منها والنصر يُطلُّ من شرفة مُقلتيها: غوايةً.. أمسى موعد المناقشة والتفاوض، تُحرك به السواكن والثوابت وتأخذ بيديه لتُريه مفاتن مملكتها، مناجمها وكنوز بواطنها، حتى لا يظل في متاهات تضاريسها الصعبة الوعرة.. تضاريسٌ تبعث في النفس شهية التيه بين غدائرها ووديانها والتوغل بها أكثر فأكثر بجموح فارس مغوار يركب البحر ولا يخشى من الغرق. استجمعت الأنفاس وأنا أطالع بنود المعاهدة، اختلفنا حول الإخلاص، حول الحق في الانتفاع وجَنْي الأرباح. طال الجدال والنقاش والتناظر... فأُسدل الستار عن مشهد يفصل فيه الجمهور وعشاق الفرجة والأحلام. لايزال التفاوض مستمراً؛ يختلفان حول الإخلاص. هذا الأخير يحلينا إلى "ألف ليلة وليلة" وكيف أنه شكّل في آن واحد حلقة بداية ونهاية؛ فالملك شهريار عاقب زوجته بقتلها لمَّا اكتوى بنار خيانتها له مع عبدِه بعدما كان يخصّها بحب جمّ، إلا أن قتْلها لم يُشف غضبه العظيم ولم يخمد نيران الحقد في شرايينه، فانبرى للثأر من كل نساء شعبه، عبر خطة انتقامية محبكة: يتزوج كل ليلة عذراء ثم يقودها إلى السياف مع انبلاج الفجر الجديد... مأساة مستمرة تزرع الرعب في بيت كل أسرة توجد ضمنها عذراء.. إلى أن زُفت إليه شهرزاد وعاشت معه ألف ليلة وليلة كللتها بإنجاب صبي للملك من صُلبه، لتصير زوجةً له ومليكة استأمنها على قلبه الذي خفق للحب من جديد بعد حسرة وكلَمٍ.. تتحولُ شهرزاد إلى رمز مبهم وسر عظيم غامض، تعتري شهريار رغبة جامحة في اكتشافه وسبر أغواره الدفينة.. فيقرر السفر إلى بلاد الواقواق، يهيم في الصحراء بحثاً عن الحقيقة وخيال شهرزاد لا يبرحه.. في هذه الأثناء أُعجب أحد العبيد بجسد شهرزاد، "همَّ بها وهمَّت به، يعود شهريار ليكتشف الحقيقة المُرَّة: العبدُ في خِدر شهرزاد على سرير من حرير يؤانس ملكة المدينة" وبهذا يكرر زمان الحكاية دورته فينحصر بين خيانتين، وما بين الخيانة الأولى والخيانة الثانية مسافة بحثٍ مأساوية لا يجد فيها الملك مُراده، حسب ما جاء في أحداث مسرحية "شهرزاد" لتوفيق الحكيم". وبهذا يمكننا القول أن الإخلاص قيمة مثلى لم يكن له حضور في حكاية شهرزاد وشهريار إلا من خلال نقيضه" :الخيانة ."فالحكاية تبدأ بخيانة زوجة الملك ثم انتقامه من النساء على إثر تلك الخيانة.. تأتي شهرزاد ليغمض عينيه لألف ليلة وليلة على هديل حكْيها، ويفتحها في الليلة الثالثة بعد الألف على زلزال خيانتها! فهل سيخط القدر لشاعرنا وشهرزاده مآلات أُخر ! مآلات تسمو بروحيْهما وترقى بالجسدين لمعانقة سماء الإخلاص والحب القدسي كما تحكيه أسطورة إيزيس وأوزيريس، إخلاص لا مشروط يُحاكي سر الوجود وصفاء الجوهر الإنساني، أم أن النقاش والتناظر والتفاوض سيفتح منافذ وممرات أخرى تُطلُّ على الشق النفعي في الإنسان: النزوع إلى الانتفاع وجني الأرباح. تُحِلُّ الظلام وتسد الكوّات توْقاً إلى هدوء العتمات. يتضامّان فتنفلت، منهما، عقارب الزمان؛ وتهيم، تُقلّب وثائق التاريخ متى كان هذا الفارس، سلطان المكان؟ ومتى كان يحارب طواحين الهواء؟ أسطر وكلمات رقيقة وثيرة وحس شاعريٌّ مرهف، لا يصدر إلا عن شاعر عاشق، للأرض للأم، للحبيبة، للوطن.. تسُد منافذ الضوء توقاً للعتمة، توقا للّيل بأنينه وحنينه، تُحل الظلام، تَفرش لليل بساطه الكحلي وتُسرج للعشق حصانه. تَرسم لهما عوالم صوفية مُشبعة بالرمزية، بها يترفع العاشقان عن المحسوس لتُشاهِد الروح ظلها الذي لا يبرحُ أنَّاتها وآهاتها المرتجّة.. هكذا هي المرأة، ترى في الليل مملكتها المترامية الأطراف وحلَبتها التي لا تُهزم فيها أبداً؛ حتى ذهب بعض المتصوفة إلى اعتبار النهار ذكرا والليل أنثى، مشبّهين انسلاخ الليل من النهار بخروج حواء من ضلع آدم. يتضامّان فتنفلت منهما عقارب الزمان، رغبة جامحة في الالتحام والتوحد والحلول، التفاف أطراف يُذكّر بأسطورة الكائن الأُحادي التي تحكي أن الإنسان في بادئ الخلق لم يكن ذكراً وأنثى، بل كان كائنا واحداً مكورا، فانقسم إلى كائنين منفصلين لتنجم عنه ثنائية الرجل والمرأة، غير أن كلا منهما صار يحن إلى نصفه الآخر، حنين وشوق لا يتحقق سوى بالعناق بينهما والتحام جسديهما. تهيمُ تُقلِّب وثائق التاريخ، تراقص أناملها بين صفحات كتاب حياته، تتساءل عن زمان كان فيه سلطان المكان، كان فارساً يُحقق العزة والأمجاد، تتساءل متى كان فارسا على صهوة جواده يختال، يحذو حَذْو البطل الإسباني دون كيشوت؛ يناصر الضعفاء، يدافع عن اليتامى والثكالى، يحارب طواحين الهواء ويرشق فيها رمحه حتى تتهاوى أمامه خاسئة مستسلمة!